محمد بن رضا اللواتي – الرؤية
يقول هيجل إنَّ الفلسفة تبدأ مع “بارمنيدس” الإيلي؛ لأنه قال إنَّ الوجود وحده هو الحق. وقبل أيام غيب الموت فيلسوفا كبيرا عمل طويلا على تقديم توضيح لجيل الشباب: ما معنى أن يكون الوجود حقا وأصيلا؟ وهذا العمل، وفق هيدغر هو مهمة الفيلسوف الحقيقية.. لماذا؟
لأنه وعندما تظهر شخصيات عالية الذكاء، من قبيل فلوبير -الذي صدح يقول: “الوجود هو حرب لا نهائية بين الجميع”- ومن قبيل هيلموت ثيليك -الذي كتب يقول بأن “العالم خال من المعنى”- ومن قبيل نيتشه -الذي قال بأن “المهمة الوحيدة اللائقة بالإنسان أن يضع على كتفه المحراث ليدمر”- ومن قبيل كامو -الذي سطر في روايته “الطاعون” يقول إنَّ “الحياة تافهة ولا جدوى من بذل الجهد لتحسينها”- ومن قبيل ميخائيل باكوتين -الذي قال “الرغبة في التدمير رغبة مبدعة”- وغيرهم من الأذكياء، الذين بثوا أمثال هذه الرؤى التي تزيل جذور الأمل في مجتمع تعصف به رياح الفقر والجوع والحرمان، وتفتك به الأمراض، وتتنزه على جسده المنهك الحروب، حينئذ من المحتم أنْ تصبح العدمية التي لا تؤمن بالقيم أيا كانت، وتعتبر الأخلاق بلا أساس، ولا أثر لحقيقة ما في الواقع، وما الحياة إلى ذرات جمعها دفق من الطاقة العمياء بلا قصد ولا غرض، من المحتَّم أن تصبح هذه الرؤية معتنقَ ألوف الشباب حول العالم، ومن المحتَّم أن تصبح الدول التي تضع أصبعها على زناد القنبلة الذرية أشد الدول وحشية وأسوأها انحرافا عن الفضيلة والأخلاق.
والحل؟
هل يُكمن في “أسطورة سيزيف” كما أقترح علينا كامو؟ سيزيف الذي أجبره زيوس أن يجر صخرة إلى أعلى الجبل بشكل سرمدي؟ فالصخرة هي الحياة ونحن هم “سيزيف” وسوف نظل نجر هذه الحياة بلا معنى ولا غاية؟
أم أن الحل يكمن في وهج يسطع من مصباح يوقف لنا زحفَ هذه العدمية المقيتة التي يزداد عدد المنتسبين إليها من الشباب في هذا العالم؟
لقد نقل الموت قبل أيام قلائل فيلسوفا وجوديا من الطراز الرفيع، كان قد آمن بالواقعية والحقيقة، وكان يعتقد أن إصلاح الحياة الساسية والاقتصادية فرعان لإصلاح الرؤية الشخصية أولا بهذا العالم وغرض وجوده، فعكف طويلا يكتب عن: “من أين جئنا”؟ و”ماذا نفعل هُنا”؟ و”إلى أين نذهب”؟ وبرهن فلسفيًّا وفق منطق يتمتع بأعلى درجات الجزم على أن العدمية خواء، والحياة تتخذ معناها في ظل الوجود الإلهي فقط، خلافا لما تمليه العدمية -بحسب فرانز فون بادن- أن الإنسان ينازع الإله مكانه بوضع نفسه فيه، عبر نفي الإله المتعالي وظهور الإنسان الأعلى الذي يقوم مقام الإله المخلوع.
أما الموت، فليس كما صورته لنا رواية “أسطورة سيزيف” على أنه “مَصاب وجودي أليم”، بل انتقال وفق حركة جوهرية من بُعد من أبعاد هذا العالم، إلى بُعد آخر منه يمتاز بظهور كل الإمكانات البشرية فيه، سيئة كانت أم حسنة، ليبقى المرء معها فترة ما قبل الاستقرار الأبدي.
محمد تقي المصباح الذي مدَّ المكتبة الإسلامية بقرابة 6 آلاف صفحة -بحسب بعض الإحصاءات- نوعية، من قبيل كتابه النفيس “المنهج الجديد لتعليم الفلسفة”، حيث قام فيه بإنزالها من بُرجها العاجي إلى البؤر الثقافية الشبابية، ليصبح السؤال عن “لماذا نحن هُنا”؟ ليس محصورا في أنطولوجيا عصية على الفهم.
ومثل عمله البديع “الأيديولوجية المقارنة” دخل معمعة البحث عن حجر الزاوية للمعرفة، ووقف مع البُرهان العقلي مانحا إياه السُّلطة العليا على المعرفة، مُفنِّدا التوجهات الفكرية التي تؤول آخر المطاف إلى تجريد المنظومة المعرفية البشرية من اليقين.
وفي كتابه “أصول المعارف الإنسانية”، استخدم الفلسفة الواقعية لإثبات أصالة نظام السببية في العالم، كما فسر سر الأخلاق والأساس القيمي وحدد مِلاكه وكيف ينشأ، مُفّنِدا -مجددا- الأطروحات الفكرية التي جعلت الفضيلة فاقدة للقيمة وغير قابلة للقياس.
هذا فضلا عن الأعمال التربوية والعرفانية من قبيل “معرفة الذات” الذي حدَّد فيه أقدس اللذات ومنبعها، ناهيك عن ألوف المحاضرات الثقافية المتنوعة، فضلا عن عمل ميداني انخرط فيه لتزييف دعاوى الحرية وشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تبجحت بها الولايات المتحدة وجعلتها غطاء يبيح لها شتى جرائمها في العالم.
ما أحوج شباب العالم إلى مُمارِسٍ حقيقي لفلسفة وجودية تستند إلى المنطق، تصُبُّ اهتمامها على الوجود لتكشف أصالته وغناه وكماله، وتفسِّر العالم انعكاسا لذلك الجمال اللانهائي، لتجتث جذور العدمية والعبثية واللا أدرية، وتزرع الأمل مجددا في هذا العالم، وكونه فعلا محط تكامل البشر، لا مناص لهم عن المضي في سُبُله.
رحم الله المصباح، فيلسوف الوجودية الإلهية، والأخلاق السامية، والعمل المضني ضد جبابرة الأرض ومظلومي هذا العالم. لقد ذهب، إلا أنه خلَّف ضوءا وراءه.