صادق جواد سليمان – شئون عُمانية
بوجه عام الدولة العصرية هي تلك التي تتسم، بنية ونظاما، بسمات هذا العصر. أما الدولة المعاصرة فهي تلك التي تعيش العصر وتستعمل معطياته دونما تحفظ، لكنها لا تزال تركد في بنية ماضوية ونظام ماضوي. هي بذلك تخفق في تحقيق طموحات مواطنيها إلى حياة وطنية أوفى تواؤما مع استحقاقات هذا العصر.
الدولة العصرية والدولة المعاصرة تعنيان سويا بالعمران – تشييد المباني، تعبيد الطرق، تنظيم المواصلات، توفير سائر الخدمات – إجمالا كلتاهما تعنى بعناصر الحداثة عامة. تبقى المفارقة أن الدولة المعاصرة على المسار الحضاري تتعثر. إنها تستعيض بالتوسع الحداثي عن التطور الحضاري، فكأن الحداثة في نظرها تغني عن الحضارة.
في المقابل، الدولة العصرية تعنى بالتطور الحداثي والحضاري معا، فتنجز تنمية شاملة وفق منهاج متكامل. المفارقة هذه بين الدولة العصرية والدولة المعاصرة تتضح أكثر ما تتضح في العناصر الثمانية التالية، والتي نجد بلورة مطردة لها لدى الدولة العصرية، ونجد عثارا إزاءها، أو حتى صدا لها، لدى الدولة المعاصرة.
العنصر الأول: نظام ديمقراطي (شوروي) راسخ في المبادئ الإنسانية: هنا الانتخابات، كمجرد إجرائية شكلية لا تجدي. لكي يكون النظام الديمقاطي سليما في جوهره وأمينا في أدائه وجب أن يؤصل دستوربا في مبادئ واضحة أربعة: تحديدا، مبادئ العدل، والمساواة، وكرامة الإنسان، والشورى. تطبيقات هذه المبادئ يضمنها المبدأ الرابع منها، أي مبدأ الشورى، إذا ما حصن ببناء وتطبيق له يمكنان حقيقة من المشاركة العامة في صنع القرار العام. مبدأ الشورى لم يول اهتماما يذكر لدى فقهاء الشريعة، لذا تاريخيا عمت فردية الحكم في ديار الإسلام مقترنة بغياب المساءلة، ومرارا بتجاوز ذلك إلى خطيئة الاستبداد.
العنصر الثاني: مواطنة متساوية بين المواطنين كافة، رجال ونساء: مواطنة تتوازى حقوقها مع حقوق الإنسان، المفصلة والمعترف بها عالميا. مدى الوفاء بحقوق الإنسان أضحى اليوم المسطرة الرئيسة التي تقاس بها جدارة الدول، وضمن الدول تقاس بها جدارة الحكومات. المعيار إذن ليس المواطنة فحسب، بل المواطنة المتساوية التي لا تشوبها أيما امتيازات خاصة ببعض دون سائر المواطنين.
العنصر الثالث: سيادة القانون: وضمانه يكون بنظام قضائي مستقل، محصن من أي تأثير خارجي، أكان من شخص أو أشخاص ذوي نفوذ مالي أو اجنماعي أو سلطوي، أو نفوذ مؤسسي من السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية ضمن الدولة. سيادة القانون، وتكافؤ المواطنين جميعا أمام القانون، سمة أساسية للدولة العصرية.
العنصر الرابع: اقتصاد منتج منصف: أي اقتصاد سليم يعنى بزيادة الإنتاج وعدالة التوزيع معا، موازنا بين الإثتين بقسطاس مستقيم. حيثما يختل التوازن يختل الأداء الإقتصادي، فيجر الخلل إلى اضطراب سياسي اجتماعي. يتحقق التوازن بانتهاج ما أضحى يعرف بالتنمية الاٌنسانية، وهذه تتجاوز مجرد الكم والحجم بالقياس الرقمي إلى إحداث نقلة حضارية شاملة. إلى جانب توفير لوازم الصحة والتعليم والمسكن اللائق وفرص العمل ويسر المعاش، النقلة الحضارية، تتويجا لذلك، تعنى بتحقيق اللوازم الحضارية المتمثلة في عدالة توزيع الناتج الاقتصادي، المشاركة السياسية، ضمان حقوق الإنسان والحريات الأساسية، النماء المعرفي، وانتهاج اقتصاد رصين مانع تبديد المال العام في مظاهر باذخة، أو التصرف به في إشباع رغبات شخصية.
العنصر الخامس: نماء معرفي مطرد: الحياة العصرية جلها تدار، وكل احتياجاتها تلبى، بالمعارف والنظم والتقنيات المطورة بالإجتهاد الإنساني. في الحاضر الراهن أبحاث معمقة تجرى في دور العلم عالميا توسع نطاق المعرفة الإنسانية باطراد. الدولة العصرية ترصد هذا الحراك، تسهم فيه، وتعتمد معطاه مرجعية مستدامة للنظر والتقرير، أكان في فهم الكون أو الحياة، أو الشأن الإٌنساني.
العنصر السادس: الاستقرار السياسي والوئام الاجتماعي: مجتمعات عصرنا في معظم الدول تعددية من حيث العرق واللون والدين والمذهب، وسوى ذلك من خلفيات سائر الناس. مع ذلك هي تعيش استقرارا سياسيا ووئاما اجتماعيا تصونهما مواطنة متساوية. حيث لا يتساوى الناس على أرضية المواطنة تراهم يتراجعون من عمومية الانتماء الوطني إلى خصوصية الانتماءات الطائفية. بذلك يتداعى الوسط الوطني وتنشط الأطراف الطائفية، فتؤثر كل طائفة المصلحة الخاصة بها على الصالح العام. الدولة العصرية تعنى صميما بتوطيد المواطنة المتساوية كحاضن وطني، دون تفريق في الحقوق والواجبات.
العنصر السابع: ردع الفساد: للفساد وجوه شنيعة متعددة، تجعله من أخطر الأسقام التي تبتلى بها الدول. سياسيا، الفساد يأخذ شكل استغلال نفوذ سلطوي للاستئثار إجحافا بما الناس فيه سواء. اجتماعيا الفساد يستعمل الوجاهة التقليدية لاستجلاب منافع دونما استحقاق. اقتصاديا الفساد يسري بالتراشي بين الدافع والقابض، نقدا أو بمقايضة منافع، بتحايل على القانون.
العنصر الثامن والأخير: مواكبة الحضارة: وأقصد بذلك مواكبة التوجه الحضاري الأممي عبر العالم، وذلك بإزاحة التحفظ إزاء ما يتبلور معرفيا في الخبرة الإنسانية مما ينفع الناس ويرتقي بالأمم جميعها إلى صعد حداثية وحضارية متراقية.
تلك إذن هي العناصر الثمانية المفارقة بين الدولة العصرية والدولة المعاصرة: في الدولة العصرية نرى اهتماما صميما بهذه العناصر وجهدا مثابرا لأجل تطوير استحقاقاتها لأحسن فأحسن في الحياة الوطنية. في الدولة المعاصرة لا نرى اهتماما مماثلا، بل ولا التفاتا لأهمية هذه العناصر. دولنا في العالم العربي، بنظري، طبعا بتفاوت بينها، لا تزال أقرب إلى الدولة المعاصرة منها إلى الدولة العصرية. لكن طموحنا كشعوب أمة ذات عراقة حضارية مشهودة ينبغي أن يوجه نحو استكمال سمات الدولة العصرية في المستقبل المنظور. حرصنا جميعا ينبغي أن يكون الحفاظ على ما تحقق، ونهجنا، استطرادا لهذا الذي تحقق، أن نبني غدا أكثر إشراقا، أكثر تحققا حداثيا وحضاريا معا في تلازم وترافد، ضمن دولة عصرية بامتياز.