حيدر بن عبدالرضا اللواتي – الرؤية
في فترة السبعينيات من القرن الماضي، كانت السلطنة بحاجة لتأسيس الشركات الحكومية؛ نظراً لقلة الشركات والاستثمارات التي كانت تتدفق على البلاد من جهة، وضعف وتردد القطاع الخاص بالدخول في هذه المشاريع من جهة أخرى؛ الأمر الذي أدى بالحكومة للتوجه نحو تأسيس بعض الشركات في القطاعات الحيوية كالسياحة والصناعة والأسماك..وغيرها.
والسؤال المطروح حاليا هو: “هل نحن بحاجة لشركات حكومية في ظل تواجد شركات القطاع الخاص؟”. والجواب عن ذلك أنَّ القطاع الخاص رغم قوته في القيام بإنشاء الشركات، فإنه يتردد أحيانا الدخول في بعض الأنشطة، خاصة تلك التي تدخل ضمن مشاريع الاحتياجات الوطنية والاجتماعية نظرا لقلة العائد منها، والتي تتطلَّب استثمارات كبيرة أو بها مخاطر عالية. ولكن في جميع الأحوال، فإنَّ تسليم مبادرة مشاريع إنشاء الشركات إلى القطاع الخاص هو الأسلم في عالم اليوم وتفرغ المسؤول الحكومي بالعمل في وضع التشريعات والقوانين. فإدارة الشركات تتطلب مسؤولية كبيرة، وعلى أعضاء مجالس إداراتها مواجهة الصعاب والتحديات في حالة تعرضها لأي نكسة تصاب بها. ومع وجود الشركات -سواء أكانت حكومية أم مساهمة عامة- فإنَّ ذلك يعني العمل على زيادة أساليب الرقابة والتدقيق والحوكمة، ولكن يبدو أن معظم الشركات الحكومية لم تستخدم هذه الأساليب خلال السنوات الماضية؛ حيث غابت عنها الشفافية والالتزام بمعايير التدقيق والرقابة؛ الأمر الذي ساعد أعضاءها والعاملين بها لاتباع بعض اساليب الفساد والتلاعب في الأموال العامة بهدف تقوية مراكزهم والعمل لمصالحهم الخاصة.
بعض الشركات الحكومية التي أنشأتها الدولة في السابق كانت لها أبعاد وطنية واجتماعية بجانب الأهداف الاقتصادية؛ بهدف تسهيل أعمال المواطنين. ففي بداية النهضة المباركة في العام 1970 دخلت الحكومة في مشاريع إنشاء سلسلة من الفنادق التي تردّد القطاع الخاص الدخول فيها. كما قامت بإنشاء شركات المطاحن والمعادن والأسماك العمانية…وغيرها من الشركات، بجانب الدخول في إنشاء شركة الطيران العماني وبعدها شركة العبارات البحرية لخدمة مواطني الولايات الشمالية وأهمها محافظة مسندم. ونظراً لغياب أساليب التدقيق والمحاسبة بصورة جيدة لدى تلك الشركات، فقد أدى ذلك إلى أن تستمر هذه الشركات في تحقيق خسائر، ومن ثم ارتفاع مديونيتها السنوية خلال السنوات الماضية؛ بحيث أصبحت عالة على الموزانة المالية للدولة. وهذه الأمور حدثت قبل صدور المرسوم السلطاني السامي بإنشاء جهاز الاستثمار العماني، لتصل اليوم مديونية هذه الشركات إلى 9 مليارات ريال عماني. ويعزا ذلك إلى غياب الشفافية والحوكمة والنزاهة لدى بعض هذه الشركات التي اعتقد أعضاؤها بأن أسعار النفط سوف تظل عند مستوى 110 أو 120 دولاراً، وأن الحكومة قادرة على دعم أعمال هذه الشركات وتمويلها وإن كانت خاسرة. كما تصرّف البعض منهم، وكأن هذه الشركات ملك لهم دون أي وازع ديني أو أخلاقي أو وطني، حيث كان البعض يضعون مصالحهم الشخصية فوق مصالح هذه الشركات سواء من خلال تعيين الناس المقربين لهم برواتب عالية أو قيامهم بأخذ الحوافز والمكافات السنوية والبدلات -التي صدرت الأوامر مؤخراً بتوقيفها- رغم معرفتهم بخسارة هذه الشركات، أو إسناد بعض المناقصات للمؤسسات التي لها علاقات مع مسؤولي الشركات الحكومية وغيرها من الأمور الملتوية الأخرى التي مارسها البعض عند توليهم إدارة تلك الشركات. ونفس هذا الأمر اتُّبع أيضا في بعض الشركات المساهمة العامة؛ حيث عانت من التعثر والمديونية بسبب تلاعب الأعضاء، فيما أفلست بعضها خلال السنوات الماضية، رغم أن جميع دراسات الجدوى الاقتصادية لها كانت تؤكد نجاحها، وبذلك تراجعت سياسة التنويع الاقتصادي. وهذا ما يحاول جهاز الاستثمار العماني الذي تأسس في يونيو 2020 تغيير واقعه اليوم، وفرض واقعا جديدا لتتمكن هذه الشركات الانتقال من الخسارة إلى الإنتاجية والربحية. فالجهاز يتابع هذه القضايا بصورة كبيرة، ويعمل على إعادة هيكلة الشركات الحكومية مع العمل على تصحيح أوضاعها وتقليل مصروفاتها؛ بجانب مراجعة وإعادة هياكلها التنظيمية والتشغيلية، لتتمكن من تحقيق المنافع المادية والمعنوية للدولة والمواطنين بشكل عام. وهذا الأمر يحتاج فترة لكي تتكمن من تحقيق الأهداف المرجوة.
اليوم.. من المهم تطعيم هذه الشركات بالكفاءات المتخصصة التي لديها دراية في أعمال الشركات، وممن لهم علم وخبرة سابقة في ممارسة بعض الأمور الإدارية. فبعض الشركات الحكومية تحتاج ضمَّ كفاءات متخصصة في بعض الأعمال العلمية والهندسية والفنية بجانب الكفاءات الادارية. وهذا ما يُعمل به في الدول المتقدمة التي سبقتنا في هذه التجارب، مع ضرورة وضع المعايير التي يمكن من خلالها تحقيق المزيد من النجاح لها في المستقبل.
أمَّا أعضاء مجالس هذه الشركات، فعليهم أن يضعوا القوانين والتشريعات ومصالح الشركات أمام أعينهم في أي خطوة يريدون اتخاذها، بحيث يبتعدون عن ممارسة أساليب الفساد والعمل من تحت الطاولة في القضايا التي تهم هذه الشركات من حيث الرواتب والحوافز وبدلات السفر… وغيرها من الأمور الأخرى، وألا يتم صرف المبالغ على أمور تسويقية خاطئة لا تمت بأية صلة لأعمال الشركات المعنية ولا تأتي بأي عائد مرجو، مع ضرورة التقصي عن الدخول في أي مشروع استثمار خارجي قبل التأكد تماماً من أنَّ العائد سيكون جيداً. فكم من استثمارات لبعض الشركات الحكومية ذهبت هباءاً دون أي رجعة، وكان المتضرر منها هو الحكومة والمساهمين من المواطنين الذين يعانون من القرارات الخاطئة التي اتخذها البعض تجاه الاستثمار الخارجي. كما من المهم مراعاة الشفافية والنزاهة والحوكمة في هذه الشركات، وهي المطالب التي نادى بها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- في عدة خُطب أدلى بها منذ يناير من العام الماضي، في الوقت الذي من المهم أن يكشف جهاز الاستثمار العماني عن أي تلاعب يحصل في هذه الشركات أولاً بأول، وألا يترك الفرصة لوسائل التواصل الاجتماعي بالحديث السلبي عن هذه الشركات، بل يكون هو السبَّاق في إظهار هذه الحقائق مراعاة للمواطنين الذي يأملون بمعرفة مصير هذه الشركات ونتائجها السنوية.