د. وجيهة بنت عبدالمجيد اللواتية
وأقبل شهر ديسمبر معلنا بأن سنة 2020 بدأت تحزم حقائبها وأمتعتها، وتلملم أذيالها استعدادا للرحيل، بعد أن تركت بصماتها النفسية والجسدية والاقتصادية الواضحة على البشرية جمعاء.
سنة أثقلت كاهل البشرية وأرهقت كل الشعوب، بالخوف من المجهول، وضبابية المستقبل، الخوف من المرض والموت، وفقدان الاستقرار الوظيفي، والتباعد والانعزال عن الناس والأحبة وما ترتب عليه من أمراض نفسية كالاكتئاب والوساوس القهرية.
وأنا أستعرض في ذهني شريط الأحداث في شهور هذه السنة الاستثنائية، تذكرت قول الله تعالى:”ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم”(الأنفال- ٥٣).
♦️الآية المباركة تتحدث عن نوعين متلازمين من التغيير أحدهما يترتب على حصول الآخر، التغيير الأول هو تغير حال النعمة إلى الزوال والذي يصدر من الله جل وعلا، والتغيير الآخر هو التغيير الحاصل في النفس الإنسانية.
♦️إن النعم الإلهية كما تشير الآية المباركة لا تزول ولا تتبدل إلا مع تبدل محلها وهو النفس الإنسانية، فالنعمة تفاض على البشر لما استعدوا لها في أنفسهم، لكن إذا تغير ما بالنفس الإنسانية من الاستعداد لهذه النعمة وملاك الإفاضة، فإن النعمة حينها تتبدل وتتغير.
♦️ألم تكن حياتنا كلها بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، في جميع أيامنا من لحظة استيقاظنا إلى اللحظة التي نعود فيها إلى الفراش، ألم تكن كلها سيلا من النعم الكثيرة اللامتناهية؟
ألم تكن الصحة والعافية نعمة؟
ألم يكن تنفسنا شهيقا وزفيرا بهواء نقي يملأ رئتينا نعمة؟
ألم يكن قربنا من بعضنا البعض والأمان الذي نعيشه بهذا القرب نعمة؟ ألم تكن المساجد وحلقات الذكر وصلوات الجماعة والجمعة نعمة؟ ألم تكن المدارس والمعاهد والجامعات وكل صروح التعليم نعمة؟ ألم تكن الشواطئ والمنتزهات نرتادها بكل راحة ونعمة؟ بل وحتى المطاعم والأسواق أما كانت نعمة؟
قال تعالى:”وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”.
إذن فأي تغيير طرأ على أنفسنا حتى تتبدل هذه النعم علينا؟!
لعلنا اعتدنا على هذه النعم وظنناها استحقاقا لنا، فما أدينا شكر الله تعالى عليها، أو لعلنا أفرطنا في استخدام هذه النعم فبدت مظاهر البذخ والإسراف والتباهي واضحة في ملامح حياتنا، في صورة من صور إهدار النعم، بل لعلنا
كنا نتذمر من بعض ما وهبنا الله تعالى إياه من النعم فلم ندرك قيمة الشيء حتى فقدناه، فكم من موظف كان يتذمر من وظيفته، وكم من طالب يتذمر من مدرسته، وكم وكم …
الكثير منا اكتشف أنه كان يتذمر من شيء معين في حياته إلى أن فقده وقت الجائحة، حينها فقط أدركنا حجم النعمة التي كنا فيها، والآن صارت أقصى أمانينا أن تعود حياتنا لحالتها الطبيعية السابقة نفسها، نعم أن تعود حياتنا كما كانت في السابق بدون هاجس المرض، وبدون كمامات وبدون تباعد.
♦️الجميل في الموضوع أن الله جل وعلا قد أوضح لنا سبيل العودة والإنابة، في قوله تعالى في الآية المباركة من سورة الرعد والتي تشبه الآية السابقة وأكثر عموما منها:”إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، وفي قوله تعالى:”إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أُخذ منكم ويغفر لكم”.
نعم النية الصالحة في القلب، والتغيير الإيجابي، هما المجدافان اللذان نبحر بهما في تيارات الحياة الصعبة حتى نصل ونرسو على بر الأمان، فهلا تعلمنا من كورونا الدرس؟
♦️لم يكن فايروس كورونا (كوفيد_١٩) عابر سبيل جاء على حين غرة، حتى يرحل دونما تصحيح في مسار البشرية جمعاء، هذا التصحيح الذي شعر به الجميع باختلاف مشاربهم في شتى بقاع الأرض، على الصعيدين الفردي والمجتمعي.
في حديث شيق مع إحدى الزميلات تروي فيه تجربتها مع جائحة كورونا، قالت لي:” رغم صعوبة هذه السنة، وما حملته من مصاعب وآلام، إلا إنني اعتبرها سنة التغيير الإيجابي لنفسي! لقد كدت في بداية الجائحة على وشك أن أسقط في دوامة الإكتئاب لولا أن تداركتني رحمة الله تعالى، حيث كنت أستمع إلى تلاوة عطرة من كتاب الله تعالى ولفت انتباهي قوله تعالى:” ولقد نعلم إنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين”(الحجر- ٩٨) وكأنما أرشدني الله تعالى بهذه الآية المباركة إلى الدواء لدائي فبدأت بالتسبيح والذكر واستطعت أن أجعل مانسبته أكثر من ٥٠% من وقتي في كل يوم يمر بذكر الله تعالى والتسبيح له والصلاة على النبي وآله، وقد غير ذلك من نفسيتي تماما وغير الكثير من جوانب حياتي، والآن صرت حتما أشعر بأنني شخص أفضل مما كنت عليه قبل سنة 2020.
زميلة أخرى جعلت من قراءة سورة البقرة.. وردا يوميا لها للوصول الى التغيير والإصلاح المطلوب.
وأخرى جعلت من السعي في قضاء حوائج الناس طريقا لها للتغيير والإصلاح، وغيرها الكثير من الأمثلة التي تثلج الصدر من أناس جعلوا المحنة منحة وتغيروا للأفضل في مختلف جوانب حياتهم.
التغيير لا يعني أن أكتفي بقراءة الأذكار والأوراد فكثير من الناس يفعلون ذلك ولكن أن أجعل من هذا الذكر طاقة تطهير وتزكية للنفس، حتى أتغير للأفضل في كل مجالات الحياة وأكون شخصا فاعلا ومنجزا ومنتجا في المجتمع.
علينا أن نستوعب ثقافة الابتلاء فمن يدري ماذا تخبئ لنا الأيام القادمة؟ وماالذي يحمله لنا الغد؟ وهل هناك في المستقبل ما هو أقسى من كورونا؟
♦️علينا أن نخرج من تجربة كورونا بنفوس أقوى وقابليات أكبر، كل من موقعه ومجاله.
كل فرد فينا يعرف مواطن النقص والخلل في نفسه فليعمد إلى إصلاحها وبنائها بالطريقة التي تناسبه قال تعالى:”بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره” فهذا الجهد الفردي، سيثمر عن مجتمع أفضل وأقوى في وجه الشدائد.
♦️نسأل الله السلامة وأن يرفع عنا وعن البشرية جمعاء هذا الوباء والبلاء وأن تكون سنة ٢٠٢١ سنة خير ورخاء وبركة وعافية ونماء إنه سميع الدعاء.
ودمتم بود،،،،،