أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي – الرؤية
تعد حاسة الإبصار عند الإنسان من أهم الحواس على الإطلاق، فهي حاسة تمتاز بدقتها وطول مداها، مقارنة ببقية الحواس، فحاسة اللمس تحتاج إلى تلامس بيننا وبين الأجسام الأخرى، وحاسة الشم تفقد تأثيرها على بعد أمتار معينة وتمتد حاسة السمع في مداها أكثر من حاسة الشم ولكنها لا تصل قطعاً إلى مدى حاسة البصر.
ولقد اعتمد الإنسان خلال مسيرته كثيراً على حاسة الإبصار وفي القرون الأخيرة استطاع الإنسان أن يطور أجهزة مساندة للإبصار فاستطاع عن طريق هذه الأجهزة أن يبصر ما لم يبصره من قبل فهو قادر أن يبصر أحجام بعض المواد التي تعرف بالمواد النانوية والتي لا تتجاوز أحجامها 1 x 10- 9 متر، وهو ما يقل عن المللمتر الواحد بمليون مرة.
ولم يكتف الإنسان بذلك فراح يجول ببصره في هذا الكون الرحب واستطاع أن يمد بصره إلى مساحات بالغة البعد فاستطاع أن يُبصر مسافات تبلغ 91 بليون سنة ضوئية وهو ما يعادل 8.6 x 2210 كيلومترات من هذا الكون الذي لا نعرف كم منه مازال خافياً عنَّا.
ومن خلال رصده للكون ومافيه، تعرف على أسرار لم يكن يتصورها وشاهد مالم يشاهده من قبل، فلقد رصد الإنسان تكتل ملايين الكواكب والأقمار والشهب والنيازك والأقمار وغيرها من الأجسام في هذا الفضاء مع بعضها مشكلة ما تعرف بالمجرات، وفي هذه المجرات تدور النجوم حول مركز المجرة بسرعات معينة ولكنها تظل تدور في مداراتها ولا تنفلت عنها بسبب قوى الجاذبية الموجودة في مركز المجرة حيث تتواجد أغلب كتلة المجرة، ومن أشهر هذه المجرات مجرتنا المعروفة بمجرة درب التبانة.
ومنذ عام 1930م لوحظ أن الحركة الدائرية للنجوم في هذه المجرات سريعة جدًا، ولكي تبقى هذه النجوم تدور في حركة دائرية ولا تنلفت منها بسبب سرعة دورانها فلابد من وجود قوى جاذبية مكافئة تجذبها نحو مركز المجرة، لكن ما لاحظه العلماء، أن كمية الكتلة التي تم ملاحظتها عبر التلسكوبات في هذه المجرات لا يمكن لها أن تنتج قوة الجاذبية المطلوبة لإبقاء المجرة متماسكة ولا تنفلت النجوم التابعة لها أثناء دورانها، بل الأدهى من ذلك هو أن الفارق بين ما تم رصده من كمية الكتلة وبين ما ينبغي أن يكون كان فارقاً كبيرا جدا، فكمية الكتلة التي تم ملاحظتها لا تتجاوز 20% من الكمية التي ينبغي أن ترى إذن ما الذي يبقي النجوم تستمر في حركتها الدائرية حول مركز المجرة ولا تنفلت منها؟
حسب علمنا لا توجد قوى يمكنها القيام بذلك سوى قوى الجاذبية فهي القوى الوحيدة التي يمكنها القيام بذلك، وكما نعلم فإنَّ المصدر الوحيد لقوى الجاذبية هي الأجسام الكبيرة الموجودة في هذا الكون العملاق، ولهذا فلابد أن نفترض أن المصدر الوحيد لهذه القوة في مجرة ما هي كتلة المادة المكونة للمجرة والتي هي عبارة عن مجموع كتلة الكواكب والنجوم وبقية الأجسام المادية المكونة للمجرة ولنطلق عليها المادة المرئية، ولكن كما ذكرنا فقد تمَّ حساب كمية الكتلة للمادة المرئية في المجرات ووجد أن هذه الكمية غير كافية إطلاقاً لإنتاج قوة جاذبة تبقي هذه النجوم في مداراتها. فكيف نفسر ذلك؟ وهل يُمكننا حقًا أن نفسر هذا التعارض بين الحقائق الفيزيائية التي تمَّ رصدها والتحقق منها؟
الجواب نعم بإمكاننا القيام بذلك وذلك بالإيمان بفكرة في غاية الغرابة ولا يتصورها العقل البشري أو لنقل إنِّه لا يتقبلها بسهولة وتقول هذه الفكرة بأنَّه إذا كانت كتلة المادة المرئية غير كافية لتفسير قوة الجاذبية، فلماذا لا نفترض وجود مادة غير مرئية لا نستطيع أن نرصدها ولها كتلة ضخمة جدًا تعادل خمسة أو ستة أضعاف كتلة المادة المرئية وهذه المادة التي لا نرصدها هي التي تحافظ على دوران النجوم حول مركز المجرة.
وكما هو المعتاد في العلوم الطبيعية فإنَّ الإجابة على سؤال ما يقود إلى سؤال آخر، فإذا كانت هذه المادة موجودة ولها هذه الكتلة الضخمة والتي تعادل 5 إلى 6 أضعاف المادة المرئية، فلماذا لا يتم رصدها عبر أجهزة الرصد المختلفة؟
الجواب أن هذه المادة لا تتفاعل مع المادة المرئية التي نعرفها ونتعامل معها بشكل يومي سوى بشكل ضعيف جدا عبر قوى الجاذبية فقط، وبالتالي فإنَّ هذه المادة قد تكون موجودة بكثافة في كل المجرات ولكنها لا تتفاعل مع المادة المرئية، وعندما نقول بأنها لا تتفاعل فنعني أنها تتعامل مع المادة المرئية على أنها غير موجودة فهي تتخلل المادة المرئية وتحيط بها، بل ربما هي الآن تحيط بك وتتخلل جسمك وتخترقه جيئةً وذهاباً وأنت لا تدركها ولا تحسها، ولذا سميت هذه المادة بالمادة المظلمة، وتقدر بأنها تشكل ما نسبته بحوالي 27% من هذا الكون بينما تقدر كل المادة التي تراها (المادة المرئية) من حولك بنسبة لا تتجاوز 5%.
إن وجود المادة المظلمة بهذه الكميات الكبيرة يعني أن هناك كونا واسعا يتكون من تلك المادة المظلمة بل إن كون المادة المظلمة أوسع من كوننا الذي نعيش فيه بخمس إلى ستة أضعاف، فما الذي يمنع أن تكون هناك كائنات حية في عالم المادة المظلمة؟! وربما تكون قدراتهم العقلية تفوق قدراتنا العقلية بخمس أو ستة أضعاف!!، ربما يكون الأمر كذلك حقا، أليس كذلك؟
ألم أقل لكم إنهارت كل البديهيات!!
المصادر الرئيسية:
1- Dark Matter and Dark Energy, The Hidden 95% of the Universe – Brian Clegg
2- Where the Universe Came From, How Einstein’s relativity unlocks the past, present and future of the cosmos – New Scientist
3- We Have No Idea, A Guide to the Unknown Universe – Jorge Cham, Daniel Whiteson
** (عندما تنهار البديهيات سلسلة من مقالات علمية تهدف إلى نشر الثقافة العلمية بلغة مبسطة مفهومة تثير الخيال البشري وتجعله يحلق في فضاء رحب، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها)