Image Not Found

متى سنحيل التلقين إلى التقاعد؟!

محمد بن علي اللواتي – الرؤية

عندما بدأ العصر الصناعي في الدول الغربية في القرن التاسع عشر، أراد أصحاب المصانع، وهم الذين كانوا يملكون الثراء الفاحش، تعليم العمال من الطبقة الفقيرة تعليمًا متطابقًا؛ وذلك من أجل رفع مستوى معايير الجودة للمنافسة، وتدعيمًا للقدرات الإنتاجية، وهنالك وُلد التعليم الإجباري لجميع أفراد الشعب، وكان الهدف منه هو إيجاد الأيدي الماهرة لرفد القطاع الصناعي بنسخ متشابهة من العمال.

وبعد أكثر من 100 عام لم يتغيَّر الكثير، فما زال التعليم ينتج نسخًا طبق الأصل من الأجيال المتعاقبة من تلك الحقبة الزمنية دون الأخذ بالفروق الفردية، واختلاف توجهات أبنائنا، واحترام خصوصية كل شخص، والنظر إليه على أنه كيان مستقل لا يمكن مطابقته مع الآخر! فأبناؤنا كالنباتات المختلفة، لا يمكن أن نتعامل معها بنفس الكيفية؛ فكل نبات يختلف في حاجته للماء والأسمدة والضوء والغذاء والمناخ؛ لكي تنمو وتزهر، يقول العالم ألبرت أينشتاين: “الجميع عباقرة. لكن إذا حكمت على سمكة من خلال قدرتها على تسلق الشجرة، فسوف تعيش طوال حياتها معتقدة أنها غبية”.

وما زاد الطين بلة هو إدراج مناهج تعليم لا تساندهم في حياتهم اليومية، بل تضيع الاثني عشر عاماً من أعمارهم هدرًا، والهدف منها الامتحان النهائي، ثمّ تبدأ عملية النسيان، إلى أن تتلاشى جميع المعلومات قبل الانتقال إلى الصف التالي. يقول العالم الفيزيائي الأمريكي ريتشارد فاينمان: “لا ينبغي أن يكون الغرض من التعليم هو مساعدة الطلاب على تعلم كيفية حفظ وبث المعلومات تحت الضغط الأكاديمي، فالغرض من التعليم هو إلهامهم الرغبة في التعلم، وجعلهم قادرين على التفكير والفهم والتساؤل”.

أكاد أجزم بأنَّ مُعظم الطلاب كانوا سعداء بسبب تعليق الدراسة في منتصف مارس الماضي بسبب الجائحة، لذا يجب أن نقف وقفة صادقة لمعرفة مكامن الخلل، وتصحيح هذا السلوك. وبدايةً يجب الاعتراف بأننا أمام منظومة تعليمية عقيمة، تضيع العديد من سنوات حياتهم، ولا تؤهلهم لسوق العمل، مما يفضي في نهاية الأمر إلى إرهاق الطالب، وتحميل الأعباء على ميزانية الدولة، علمًا بأن أسواق الوظائف اليوم لا تبحث عن نسخ متطابقة، بل تبحث عن أصحاب قدرات فردية مختلفة، وهذا هو السبب في تزايد أعداد الباحثين عن العمل على نحو مضطرد، فالطالب المعاصر يحتاج مهارات جديدة تؤهله لسوق العمل، وليس من المعقول أن يجري تعليم أبنائنا بنفس نمط التعليم الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر. واليوم ونحن نشهد الثورة الصناعية الرابعة أرى أنه لم يفت الأوان بعد لتصحيح المسار وتصحيح الأخطاء السابقة.

كُنت أتمنى أن نقوم باستبدال المحفوظات من الأناشيد، وجداول الضرب، والرموز الرياضية والكيمائية، والمعادلات الفيزيائية، وقصائد الشعر والعروض، ببدائل تناسب العصر، كالصحة النفسية، والذكاء العاطفي، والادارة المالية والذاتية، وإعادة صياغة الأفكار السلبية، والتركيز على الشغف والبرمجة، وإضافة أنماط التعليم الحديثة؛ كالتفكير الإبداعي (التفكير خارج الصندوق)، والتفكير النقدي (التفكير العقلاني غير المتحيز)، والتفكير التحليلي (هو التفكير بتجزئة المادة التعليمية إلى عناصر ثانوية أو فرعية، وإدراك ما بينها من علاقات أو روابط)، إضافة للفلسفة؛ حيث إن سبعين دولة في العالم أضافت الحوارات ذات المنحى الفلسفي إلى مقررات التعليم؛ لما يُمثله في البناء الفكري وقوة التواصل، وفي ذلك يقول الفيلسوف اليوناني سقراط: “لا أستطيع تعليم أي شيء لأي أحد.. أنا فقط أستطيع أن أجعلهم يفكرون”.

حيث يتمُّ تعليمهم وتزويدهم بالمعارف وكأنها حقائق خالدة لا مجال للشك بها، بل يجب حفظها عن ظهر قلب، وبهذا يتم قمع روح الفضول والدهشة، وهما الموهبتان الفطريتان لدى الأطفال واللتان وهبنا الله إياهما، يقول الكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس: “كيف يكون الأطفال في غاية الذكاء والرجال في غاية الغباء؟ لابد أن السبب هو التعليم”، ويتم استبدال هاتين الموهبتين بتوفير أجوبة جاهزة تحشى في أدمغة أبنائنا دون أن يكون لهم الخيار في السؤال عن مدى صدق هذه المعلومات، وكأنها دستور منزَّل لا يمكن مناقشته أو نقده! وكما يقال: التعلم والإبداع يسيران جنبًا إلى جنب. إنَّ غرور النجاح هو أن تعتقد أن ما قمتَ به بالأمس سيكون كافيًا للغد. في أوائل القرن الماضي، أراد الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني برتراند راسل إثبات أن ناتج جمع واحد زائد واحد يساوي اثنين، وذلك بغرض إثبات فاعلية علم الرياضيات، وإمكانية الوثوق به، والاعتماد عليه، وأيضًا لعدم أخذ المعلومة كأمرٍ مسلم به؛ حيث يتعامل البشر مع الكثير من المسَلَّمات التي فرضتها الحياة عليهم نتيجة الاعتياد والتكرار، بالطبع كانت العملية معقدة جدًّا، واحتاج في نهاية الأمر إلى 372 صفحةً ليبرهن بإثبات رياضي قاطع على صحة هذه المعادلة البسيطة.

وفي الختام.. إذا أحببنا بالفعل أن نهيّئ أبناءنا للاقتصاد المعرفي، وعصر الثورة الصناعية الرابعة، فيجب أن نبدأ منذ الآن؛ لكي نحصد ثمار هذا الزرع بعد 12 إلى 16 سنة، فكما تشير التقارير، فإنَّ 85 مليون وظيفة سيتم الاستغناء عنها بحلول عام 2025م، وسيعوض عنها بالروبوتات؛ فالتعليم الصحيح هو ما نبحث عنه، وكما قال الفيلسوف اليوناني أرسطو: “التعليم زينة في الرخاء، وملاذ في الشدة”. وقال نيلسون مانديلا: “التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم”.