أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي – الرؤية
(عندما تنهار البديهيات سلسلة من مقالات علمية تهدف إلى نشر الثقافة العلمية بلغة مُبسطة مفهومة تُثير الخيال البشري وتجعله يُحلِّق في فضاء رحب، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها)
الفضاء… لم يعد فضاءً
الفضاء الذي نُحلِّق فيه ليلا وتهدأ نفوسنا ونحن نُمعن النظر إليه لم يعد فضاء كما نتصور، فعلم الطبيعة يصرح بألا فضاء في هذا الكون، فما كنَّا نظن أنه فضاء هو ليس بفضاء.
فعلى مر الزمان تصورنا نحن البشر أن هذا الكون إنما هو مسرح كبير كروي الشكل وأن فضاءه الواسع ممتلئ بكرات ضخمة بعضها يشع ضوءًا كالشمس وبعضها يدور حول نفسه كالأرض ويدور حول كواكب ضخمة كما تدور الأرض حول الشمس وسبب ذلك هو الجاذبية التي تجذب الأرض تجاه الشمس، وتصورنا أيضاً أن هناك فراغات شاسعة بين هذه الكرات الضخمة التي تملأ هذا المسرح الكروي وأسمينا هذا الفراغ بالفضاء.
لكن عالم الفيزياء الشهير آلبرت آينشتاين طرح مفهوما مغايرا للفضاء انهارت معه كل البديهيات والتصورات الذهنية لما نسميه فضاء، فلقد طرح تصورا علميا مغايرا لما هو مألوف لدينا وذلك في نظريته المشهورة والمعروفة بالنظرية النسبية العامة وقال إن هذا الفضاء الذي كنَّا نظنه فراغاً هو في حقيقته حقل الجاذبية للجرم السماوي، فما حول الشمس من فضاء ليس فضاء كما نتصوره بل هو حقل الجاذبية الخاص بها، فحقل الجاذبية هذا ليس شيئا ينتشر في الفضاء بل هو الفضاء بعينه، فالفضاء ليس فراغاً والكون ليس مسرحا كبيرا كروي الشكل تسبح فيه الأرض والشمس والقمر وبقية الأجرام السماوية بل ما نشاهده من فراغ بين الأجرام السماوية ما هو إلا حقل الجاذبية بعينه الناتج عن وجود هذه الأجرام السماوية، فالفراغ المُحيط بالجرم السماوي لن يكون له وجود إذا لم يكن الجرم موجودا، فهذا الفراغ هو من الجرم السماوي نفسه وأثر من آثاره!!
ولم يكتف آينشتاين بذلك بل قال بأنَّ حقل الجاذبية هذا والذي نسميه فضاء ينحني حول الأجسام الكبيرة وهذا سبب دوران الأرض حول الشمس فلا توجد قوى خفية تقوم بجذب الأرض حول الشمس، بل إن الشمس تحني حقل الجاذبية -والذي نُطلق عليه فضاء- فيؤدي ذلك إلى دوران الأرض حول الشمس.
بل إنَّ هذا العبقري قال وبناء على ما توصل إليه في معادلاته الرياضية المرتبطة بالنسبية العامة بأن هذا الانحناء في حقل الجاذبية سيسبب انحناء كل شيء يمر فيه حتى الضوء، فالضوء الذي عهدناه وهو يسير مستقيمًا، إذا به يخضع لحقل جاذبية الشمس وينحني عندما يقترب من الشمس.
إن هذا التوقع من آينشتاين حول انحناء الضوء فتح مجالا للعلماء للتحقق من نظريته والتأكد من صحتها، حيث قام أحد العلماء ويدعى آرثر أدينجتون في عام ١٩١٩ بمحاولة رصد ظاهرة انحناء الضوء مستغلا حدوث كسوف كلي في جزيرة برنسيب في غينيا وإمكانية مُتابعة الضوء قرب الشمس وتمكن بالفعل من الكشف عن ظاهرة انحناء الضوء وكانت زاوية الانحراف كما أشار إليها آينشتاين.
إثر هذا الرصد قامت الجمعية الملكية بإرسال برقية إلى آينشتاين تُؤكد صحة ما ذهب إليه، وعندما وصلت البرقية إلى آينشتاين اطلع عليها ثمَّ قام بتسليمها إلى إحدى الطالبات التي كانت معه وقال لها”هذه قد تهمك” وعندما قرأت مضمون الرسالة أكدت على أهمية مضمون الرسالة ولكن آينشتاين لم يبد أي اهتمام يُذكر وقال لها” لقد كنت أعلم أنَّ النظرية صحيحة، هل كنت تشكين؟ ” احتجت الطالبة وتساءلت لو أنَّ نتائج الرصد لم تؤيد نظريته فماذا سوف يكون موقفه، أجاب “كنت أحزن من أجل ربي العزيز، أنَّ النظرية صحيحة لقد كان الخط الساخن للاتصال مع الخبير العليم مُستمرا!!
ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحد، فلقد تنبأت النظرية بأمر آخر أشد غرابة ففي عام ١٩١٩ قام الرياضي والفلكي شوارزشيلد، بطرح حل متكامل ودقيق لبعض معادلات النظرية النسبية، والتي قام آينشتاين بطرح حلول تقريبية لها، وتوصل من خلال الحلول الرياضية التي طرحها إلى نتيجة لا يُمكن لأحد أن يتصورها فلقد طرح بأنه إن أمكن ضغط الأجرام السماوية العملاقة والتي تكون كتلتها كبيرة جداً إلى كرة ذات قطر صغير، فإنَّ هذه الجرم السماوي سينهار ويتفتت إلى نقطة تعرف بالرياضيات بمصطلح “التفرد” ويعني حجم متناهي الصغر ومتناهي الكثافة، ونظرا لهذه الكثافة اللامتناهية فإنَّ حقل جاذبية هذا الجرم سيكون كبيراً جدًا بحيث إنه سيلتف حول هذا الجرم بطريقة لا تسمح لأي شيء أن يهرب منه بل حتى الضوء لن يستطيع أن ينفلت منه، وتم التحقق لاحقاً من صحة الحلول الرياضية التي طرحها شوارزشيلد.
وفي عام ١٩٧٠ لوحظ أن هناك نجماً أزرق عملاق في الفضاء يتأرجح حول شيء غير مرئي (نقطة مظلمة) وأن هذا النجم العملاق تبلغ كتلته حوالي ١٠ أضعاف كتلة الشمس ولكن قطره يصل لحوالي ٩٠ كم فقط، وهذه المواصفات تدل على استحالة بقاء هذا النجم بل لابد وأن ينهار على نفسه نظراً لقوة ضغط حقل الجاذبية المصاحبة له، كما تمت ملاحظة أن الشيء اللامرئي يجذب السحب المنبعثة من النجم الأزرق العملاق ولوحظ أيضاً أنَّ هذه السحب كانت تحيط بالشيء اللامرئي بحلقات لولبية وكلما اقترب الغاز من مركز الشيء اللامرئي ارتفعت درجة حرارته عشرات الملايين، وأخيرا سقطت كتل كبيرة من الغاز في مركز الشيء اللامرئي ولم نعد نراها مرة أخرى لقد اختفت تماماً وانتقلت إلى عالم مجهول لا نعرفه، لقد كان هذا الشيء اللامرئي ثقباً أسود (كما تمت تسميته) يلتهم كل شيء يدخل فيه فهو يعمل كشافطة كبيرة في هذا الكون اللامتناهي، وكانت هذه أولى الشواهد على وجود الثقوب السوداء كما تنبأت به النظرية النسبية.
وفي العاشر من شهر أبريل عام ١٩١٩م تمَّ التقاط صور لثقب أسود عملاق تبلغ مساحته حوالي ٤٠ مليار كيلومتر وتبلغ كتلته ٦.٥ مليار ضعف كتلة الشمس ولله الحمد فإنه يبعد عنَّا بحوالي ٥٠٠ مليون تريليون كيلومتر.
يراودني شعور قوي بأننا نحن البشر بحاجة ماسة إلى ثقوب سوداء على الكرة الأرضية لنرم بها بعض البشر فلربما ننظفها من عفن أخلاقهم ونطهرها من دنس جرائمهم، ألا يراودك ذات الشعور؟
—————-
المصادر:
١- محمد منصور ١٠ أبريل ١٩١٩، لحظة تاريخية: الكشف عن أول صورة لثقب أسود، موقع مجلة العلوم الأمريكية
٢- Sara Lata, Black holes, 2017
٣- Carlo Rovelli, Seven Brief Lessons on physics
٤- باجنر هينرز ، رموز الكون، عام 1989.