مُحمد بن رضا اللواتي – الرؤية
كَم عدد الأبواب التي كانت لعاصمة الدولة العباسية؟ وما الدول التي كانت تطل عليها هذه الأبواب؟
لنغض الطرف عن جدوى هذا السؤال حاليًا، وأمثاله في مناهجنا التعليمية، ولنركِّز على السؤال عن عددها؛ فماذا نُلاحظ؟ نلاحظ غياب “لماذا”، لقد حلت “كم” محل “لماذا”، وبالتالي لم يتحرك التفكير، وإنما تحركت الذاكرة فحسب! عندما تغيب “لماذا” يتوقف العقل عن التفكير، ويُصبح متلقِّيا فحسب!
لا أملك إحصاءً لعدد الأسئلة التي تفحص حجم الحفظ لدى الطالب في مناهجنا، إلا أن جماعة من أهل الاختصاص يقولون بأنها تحتل مساحة شاسعة فيها، بينما تقل بشكل لافت الأسئلة التي تُثير العقل، وتدعو للتفكير، وترفع الحظر عن جميع أشكاله، أيًّا كانت، بلا خطوط حمراء. إنهم يقولون إن نهج “الحفظ” بلغ به قلة الاستحياء درجة، أنه قلب حصة الرياضة من ممارسة ميدانية إلى حفظ أسماء الرياضيين وقوانين بعض الألعاب!
الصِّغار في بعض المدارس -الخاصة كذلك- يذهبون مع ذويهم بلهفة لشراء حذاء رياضي، وفي اليوم المخصص لهذه الحصة، يرتدون الزي الرياضي من الصباح وحتى الظهيرة، إلا أنهم فقط وفي بعض الأيام، يحصلون على فرصة التواجد في ملعب المدرسة ولآخر ربع ساعة من الحصة التي تكون قد أُديت بأغلب وقتها على هيئة حفظ قوانين بعض الألعاب وكتابتها في الدفتر!!
الحفظ والحفظ والحفظ و.. شيء من التفكير قليل!
يَغِيب عن هؤلاء أنَّ العقل البشري لا يلبث إلا وينقلب على المحفوظات سائلا: لماذا؟ وكأن “لماذا” هذه مودوعة بعناية فائقة في عقله، فإن لم يجد المدرسة مكانا مناسبا لطرح “لماذاته” هذه، ولم يجد البيئة المنزلية تقبلها منه؛ فسوف يبحث عن بيئة أخرى لكي يطرح ما يلح عليه عقله، وإذا طال عليه زمن ادخار السؤال بلا إجابة، فالمتوقع إمَّا أن يبتكر أجوبة لها يتبناها، وقد تكُون أغلب هذه الأجوبة غير مستندة إلى منهج علمي رصين، أو أن يُلقي بها جانبا وقد تحولت إلى لا وعيه، مُسبِّبة قلقا نفسيا، والشعور بعدم الارتياح يتحول مع الوقت إلى حاجز عن الانفتاح على التعليم!
المُذهِل أنَّ جماعة من المحققين، ظنوا أن منهج التفكير وطرح التساؤل منبوذ إسلاميًّا! هكذا تصوروا الإيمان الديني، فقد ظنوه إيمانا لا يقبل أن يواجهه “لماذا” أبدا، في حين -من وجهة نظرهم- أن المجال الأرحب للتساؤل هو الفلسفة فحسب! ولأن “لماذا” منبوذة بالمرة، فقد تم تغييب الفلسفة التي لا تعمل إلا في ظل “لماذا” فقط! وكأنهم بذلك يُحمِّلون الدين مسؤولية تغييب منهج التساؤل عن عقلية المسلم!
إلا أنَّ كتاب المسلمين الأول يرفض هذا التصور كُليًّا؛ فهو يُصِيح بأعلى صوته قائلا: “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”؟، ويقول: “وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَالْأَنْعَمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَنُهُۥ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَؤُاْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ”؛ ففي هذه الآية جاء ذكر الناس مرتين، مرة في مصاف الدواب، ومرة بصفة العلماء، وحظي ذكرهم الأخير هذا بثوب العلم ثتاء من الكتاب المجيد.
إنَّ مادة العلم والتعلم والتفكير والتفكر ومشتقاتها تكررت في القرآن قرابة 300 مرة.
ألم يأن وقت تغيير نهج الحفظ إلى نهج التساؤل؟
أما آن موعد الانتقال من التلقي وحسب، إلى التساؤل عن السبب؟
بالطبع، هذه العملية يجب أن تتم أولا على مستوى المُدرِّسين، الذين -مجموعة منهم- رُبما اعتاد تفكيرهم على نبذ التساؤل، ورفض “لماذا” بل وذم طارحه. إنَّ هؤلاء قد يكونون في مسيس الحاجة لدورات تعمل على تدريبهم على مهارات شحذ العقول الصغيرة على التفكير والتساؤل، ومهارات الإجابة عنها وفن تشجيعها، جنبا إلى جنب مع تغيير المادة التعليمية لتواكب مرحلة تعظيم سؤال الطفل وتعليمه لأنْ يسأل ويسأل بلا كلل حتى يفهم.
من المُتوقَّع في نهج التغيير هذا من مرحلة التلقي والحفظ إلى مرحلة التساؤل، أن يقبل التعليم الديني تساؤلا حول وجود الله، وسبب عبادته، وما الذي يضفيه وجود الأنبياء في عالم المكتشفين الذي يتقدم بعلم الإنسان إلى آفاق لا نهائية في كل لحظة.
ومن المتوقَّع كذلك أنْ يقبل كل حقل سؤالًا عنه مهما كان مُتمرِّدا، وإلا فإنَّ ما ننشده في صغارنا من روح الابتكار، لا شك سيظل ذابلًا لطغيان منهج المحفوظات عليهم لكل هذه السنين.