مرتضى بن حسن بن علي – الرؤية
أصدرتْ وزارة العمل قرارًا يتضمَّن تسجيلَ عقود العمل للقوى العاملة الوطنية إلكترونيًّا وباتفاق الطرفين، وإلغاء الحد الأدنى للرواتب المرتبطة بالشهادة، والاكتفاء بالحد الأدنى للراتب والبالغ ٣٢٥ ريالا عمانيا، بغض النظر عن شهادة الباحث عن عمل.
موضوع الحد الأدنى للرواتب كان موضعَ جدل مستمرٍ خلال السنوات الماضية؛ فالحد الأدنى هو للأجور وليس للرواتب. وهناك فارق بين الأجر والراتب، ويكون عادة حدًّا واحدًّا وليس حديْن حسب الشهادة، كما هو مرتبط عادة بخط الفقر، ولا يُوجد في عُمان تحديد لخط الفقر، وتقوم بتحديد الحد الأدنى للأجر لجان تمثل وزارة الاقتصاد وأرباب العمل والعمال، ويُعاد النظر في الحد الأدنى كلما دعت الظررف الاقتصادية لذلك، وهو يختلف حتى في داخل نفس البلد من مكان لآخر.
الأجر يُدفع بشكل عام عن الساعة الواحدة من العمل، ويتم الدفع يوميًّا أو أسبوعيًّا حسب ساعات العمل الفعلية للعامل، والتي قد تختلف من يوم لآخر. أما الراوتب فهي تُدفع للموظفين الموقِّعين على عقود عمل مع الشركة، والراتب هو المقابل المادي الذي يُدفع على فترات زمنية معينة وعادة هي شهرية. والقطاع الخاص يَرى أنَّ الحدود الأدنى للأجور، بالطريقة التي تمت هي: من العوامل التي أثرت سلبًا على عملية توظيف المواطنين، إضافة للعوامل الأخرى؛ منها: فرض نسب تعمين ليست غير واقعية فحسب، بل مستحيلة التحقُّق. القطاع الخاص أيضا يرى أن الصعوبة التي يواجهها في تسريح الموظفين غير المنضبطين أو غير المنتجين، وصدور أحكام قضائية في معظمها لصالح الموظفين باعتبار أن الموظف يشكل الحلقة الأضعف من المعادلة؛ مما يدفع ببعض الموظفين لإثارة المشاكل عن عمد لكي تقوم الشركة بتسريحهم.
القطاع الخاص أيضا يزعم أن تلك الأسباب أدت لنتائج عكسية نظرا لانخفاض مستويات الإنتاجية، وتدني المهارات وأخلاقيات العمل لدى بعض الموظفين، وصعوبة التخلص من الموظفين غير الجيدين، وأن مستويات الرواتب ترتبط بوظائف مختلفة وسلم وظيفي متدرج بما يتناسب مع المؤهلات والمهارات والخبرات وطبيعة العمل والأداء والصفات الشخصية الأخرى، وأن الرواتب تتعامل عادة مع إنتاجية العامل ورغبته في التعلم وليس مع سجلات الحضور والانصراف، إضافة لضرورة مُواكبة الرواتب لمستويات الإنتاجية التي أصبحت الفريضة الغائبة في اقتصادنا، كما أن زيادة الرواتب مع بقاء الإنتاجية على حالها أو تراجعها تؤدي لنتائج عكسية وخيمة، مثلما اثبتتها تجارب دول وشركات عديدة، وحتى في الجهاز الوظيفي للدولة أصبح بند الرواتب يشكل عبئا ثقيلا على الخزينة العامة للدولة، بعد أن ارتفع بند الرواتب الإجمالية من ٢،٥ مليار ريال عماني في العام ٢٠١٠م إلى ٦،١ مليار ريال عماني في العام ٢٠١٧م، وجزء كبير من المبالغ التي قامت الحكومة باقتراضها كانت لتمويل الرواتب، أي لتمويل الاستهلاك، وهو من أخطر الأمور في أية دولة.
وحدة العمل في عُمان للأنشطة الاقتصادية المختلفة أصبحت أعلى من دول أخرى مماثلة؛ الأمر الذي أثّر سلبا على القدرة التنافسية للاقتصاد العماني، وعلى قدرته لجذب الاستثمارات خاصة الخارجية؛ وذلك لتوليد فرص عمل جديدة ومجدية، كما أن الزيادة في الرواتب من دون دراسات معمقة، وبدون أن تصاحبها زيادة في الإنتاجية، تزيد من أعباء الشركات وقدرتها على التوسع، وتدفع الاقتصاد عموما للوقوع في فخ التضخم المنفلت، وتبدأ العملة الوطنية بفقد قيمتها الشرائية تدريجيا.
ويتحدَّد الراتب بالعلاقة المتبادلة بين عرض العمل والطلب عليه، وعرض العمل هذا عرض شرائح ومستويات متباينة حسب مستويات التعليم والتأهيل والخبرة والانضباط والمثابرة وأخلاقيات العمل… وغيرها من الصفات الشخصية. وهنا تُشير بعض الدراسات الاقتصادية إلى أنَّ زيادة الرواتب بنسبة ١٠% بدون زيادة في الإنتاجية تؤدي للاستغناء عن عدد كبير من الموظفين عن طريق استعمال وسائل تقنية أكثر تطورا، إضافة للاستغناء عن العمالة غير الضرورية، وتحويل بعض الأعمال إلى دول أخرى عن طريق الـon line، عندئذ تزداد الضغوطات لتشغيلهم في القطاع العام، لا سيما وأنَّ العمل في ذلك القطاع لا يزال يعتبر منتهى الأمل بالنسبة لغالبية الداخلين إلى سوق العمل، إذ إنَّ مفهوم العمل الذي هو عائد عنصر العمل غائب إلى حد كبير في القطاع العام، مثلما يشكل الأمن الوظيفي عاملا إضافيا للعمل في القطاع العام، علما بأنَّ الأمن الوظيفي يصبح وصفة للترهل الوظيفي.
قضية الرواتب في أي اقتصاد مهما كان معدل نموه مرتبطة بمثلث حرج، ترتبط أركانه ارتباطا وثيقا بالإنتاجية والأسعار، وتنتهي قاعدته بالرواتب ورفع الرواتب دون مقابل إنتاجي، يؤدي ذلك إلى رفع تكلفة السلع والخدمات، ويضطر صاحب العمل إلى تخفيض تكلفته، وتسريح بعض موظفيه؛ الأمر الذي سيدفع بمزيد من الأشخاص للبحث عن فرص العمل، وعندما يكثُر الباحثون عن عمل تقل ضغوطات العاملين للحصول على زيادة في الرواتب، وبالعكس فمع وجود عمالة ماهرة ومدربة ومتعلمة على كل الأصعدة، وقوانين عمل مرنة، واقتصاد متنامٍ، فإنَّ أصحاب العمل يقومون بتوظيف مزيد من القوى العاملة، فقانون العرض والطلب يُسهم على زيادة الرواتب، وبالتأكيد هناك علاقة طردية بين وجود عمالة مدربة ومؤهلة مقرونة بالنمو الاقتصادي وبين نسب التشغيل السائدة.
لعلَّ نقطة البدء الرئيسية لمعالجة ما يراه الموظفون راتبا عادلا أو ما يحسبه أصحاب العمل راتبا كافيا لا يمكن ان تتم بمعزل عن إستراتيجيات واضحة ومسارات متكاملة للنمو الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل وإصلاح شامل للأنظمة التعليمية والتدريبية والاجتماعية، ويُقترح في هذا الصدد تبني إسترتيجيات جديدة وواضحة ومتكاملة للنمو المستدام، تتضمَّن آليات واضحة ومحددة للتشغيل وتوفير فرصا مجدية، كما تتضمن أيضا تحديدا دقيقا لدور شركاء التنمية، خاصة الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني في هذا المجال؛ بحيث تتكامَل الأدوار، ويلتزم الجميع بالقيام بالأدوار المنوطة بكل طرف في هذه الإستراتيجية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ القطاع الخاص سوف يكون المشغل الأساس للتشغيل مستقبلا.
كما أنَّ تحقيق الإصلاح المنشود في سياسة الرواتب وسوق العمل لا يمكن أن يكتمل دون استكمال البنية المؤسسية لسوق العمل، والعلاقة بين العامل وصاحب العمل لا بد أن يكون نتاجا لحوار اجتماعي مُعمَّق بين القوى الثلاثة المعنية في المعادلة؛ وهي: الحكومة والعمال وأصحاب العمل، كما أن تحديد الراتب وتسوية المنازعات العمالية لا يُمكن في رأينا أن تتم إلا في إطار هذا الحوار الضروري، الذي يتخذ من رفع الإنتاجية منبرا مشتركا تتفق فيه مصالح الموظفين وأصحاب العمل، بل والمجتمع بأسره، ووجود مؤسسات فاعلة لإدارة الحوار حول هذه القضايا مهم وضروري قبل أن تتفاقم المشكلات.
وعليه، فإنَّ المفهوم السليم لقضية الرواتب يتطلب النظر إليه، ليس من خلال التضخم فقط، وإنما من خلال الالتفات أن الراتب يؤثر ويتأثر بمتغيرات أخرى عديدة، ولابد من أخذها بعين الاعتبار، وفي اعتقادنا ينبغي أن يركز التحليل الصحيح للرواتب على أربعة إشكالات رئيسة؛ هي: علاقة الرواتب بالنمو والإنتاجية والأسعار والتنافسية، وهذه العلاقات متشابكة مع بعضها البعض، ولا يمكن التركيز على واحدة منها دون الأخرى، كما أنَّ التحليل الصحيح ينبغي أن ينطلق من فرضية مهمة، وهي تكامل الإشكاليات وتشابكها في منظومة دائرية واحدة، وأن علاج الخلل في الأجزاء لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار الأجزاء الأخرى.