حيدر بن عبدالرضا اللواتي – عُمان
يكثر الحديث بين الفينة والأخرى عن حوكمة الشركات الحكومية التي ما زالت معظمها تحقق خسائر سنوية في مجال الخدمات والأعمال التي تقدمها للجمهور، بينما يرى بعض الخبراء ضرورة دمج تلك الشركات الخاسرة وإيجاد إدارات كفؤة وفعّالة للقيام بواجباتها على أحسن وجه. فالأخبار التي ترد عن هذه الشركات تؤكد على أن بعض مجالس إداراتها اعتادت على تخصيص المكافآت المالية النقدية للأعضاء حتى وإن كانت خاسرة في عملياتها السنوية، الأمر الذي يزيد من متاعبها المالية والإدارية والفنية أيضا. فهذه الشركات اليوم بحاجة إلى إعادة هياكلها الإدارية، وتعزيزها بقوانين وتشريعات ومبادئ تتفق مع أسس الحوكمة العالمية من خلال تكثيف عمليات المراقبة واتباع الشفافية كما تقوم بها الشركات العالمية في هذا الشأن.
الاهتمام بالشركات الحكومية كان ضمن الأسس التي تحدث عنها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه حول ملامح المرحلة المقبلة في أول خطاب لجلالته بضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، ومراجعة أعمال الشركات الحكومية مراجعة شاملة، الأمر الذي يعني التوجه نحو تطبيق مزيد من مبادئ الحوكمة والنزاهة والمساءلة والمحاسبة تجاه هذه المؤسسات. وهذا الأمر بدأ يتحقق اليوم من خلال إنشاء جهاز الاستثمار العماني الذي بدأ يتخذ خطوة دمج أصول صندوق الاحتياطي العام للدولة، والصندوق العماني للاستثمار والأجهزة المعنية بالشركات الاستثمارية الحكومية بوزارة المالية، بالإضافة إلى قيام الجهاز بالإشراف والمتابعة لأحوال تلك الشركات التي تتبع معظم أصولها للحكومة.
وكما نعلم بأن بعض تلك الشركات الحكومية تتمتع بأصول مادية وعينية كبيرة وقوية، وكان ومازال لها دور كبير في تعزيز مختلف أوجه التنمية في البلاد خلال العقود الماضية، وبعضها تعمل على سد الخدمات الاجتماعية للمواطنين وتسهيل تحركهم اليومي في البر والبحر والجو. ولكن هذا لا يعني بأن تظل هذه الشركات تواصل عملها بصورة سلبية وتحقق خسائر سنوية. فهناك عدة شركات حكومية مهمة في القطاع اللوجستي تدير الأعمال المهمة في مجالات الاستيراد والتصدير والنقل، وهذه تحتاج إلى استثمارات لتعزيز دورها سواء على مستوى تقديم الخدمات أو تشغيل القوى العاملة العمانية من مختلف المستويات وخاصة في الإدارة العليا وفي جميع التخصصات المتاحة لعمل المواطنين بها. فدمج الشركات القائمة ونقل ملكيتها في وحدة واحدة سيعمل على التقليل من المصاريف من جهة، وتحسين الخدمات والأداء من جهة أخرى، الأمر الذي سوف يساهم في رفد الحكومة وتعزيز موازنة الدولة بالإيرادات المالية السنوية في ضوء تراجع أسعار النفط العالمية.
وبالرغم من الأضرار التي تصيب الاقتصاد العماني من هذا التراجع من جهة، واستمرار أضرار جائحة فيروس كورونا من جهة أخرى، إلا أن عمل الحوكمة وترشيد الإنفاق والمراقبة والمتابعة والإشراف على العمل اليومي، وسبل تخفيض المصاريف اليومية للمؤسسات والشركات الحكومية بدأت تعطي ثمارها الإيجابية في التحسين من الإيرادات وتقليل العجز السنوي.
وتوقعات البنك الدولي بالنسبة للاقتصاد العماني هو أن ينمو بنسبة 3% خلال العام المقبل 2021، وهو أول عام في تدشين الرؤية الاقتصادية عمان 2040. وهذه الأسس تعني بأن جهاز الاستثمار العماني الجديد سيعمل على متابعة أحوال هذه الشركات أولا بأول من حيث الأداء الإداري والمالي والفني لها، مع العمل على حل المشاكل القانونية والإدارية التي تعاني منها هذه الشركات، مع الوقوف على قضايا تداخل وتضارب المصالح في تلك الشركات، الأمر الذي سيزيد من إنتاجيتها وعملها خلال السنوات المقبلة. فهذه الشركات بلا شك سوف تستقبل أشخاصا يتميزون بإدارات كفؤة، ويتسم أصحابها باستيعاب القوانين والأعمال التجارية والمالية بجانب فهمهم في المسؤوليات القانونية والأخلاقية، وممن لا يهتمون بالثراء الشخصي على حساب المؤسسات التي يديرونها.
لقد شاهدنا خلال الفترة الماضية صدور عدد من القرارات الصادرة عن وزارة المالية بناء على التوجيهات السامية بضرورة خفض مكافآت وأتعاب مجالس إدارات الهيئات والمؤسسات العامة والشركات الحكومية واللجان التابعة لها بنسبة 50%، لمواجهة الآثار الناتجة عن انخفاض أسعار النفط ولتحقيق الوفرة المالية في الإنفاق والتقليل من عجز الموازنة العامة للبلاد، وهذه السياسة يجب العمل بها في جميع الحالات حتى وإن تجاوزت أسعار النفط عن 70 دولارا خلال السنوات المقبلة، مع ضرورة العمل على بناء اقتصاد متنوع يعتمد على العديد من المصادر التي تتمتع بها السلطنة في مكامن الأرض والجبال والبحار والبراري. فكل شبر من الأرض يتميز بخيرات يمكن تحويلها إلى مصدر للإنتاج والصناعة والتصدير.
ونقول بأن فصل أعمال بعض الشركات الحكومية وتحويلها إلى شركات خاصة هو أمر يجب النظر فيه لكي تتفرغ المؤسسات الحكومية لوضع القوانين والتشريعات، وتقديم الخدمات الأساسية الضرورية للمواطنين، بينما على القطاع الخاص التوجه نحو تقديم الأعمال والخدمات في إطار التطور الذي يشهده الاقتصاد العماني دون تكليف المزيد من الأعباء على كاهل المواطنين. وفي هذه الحالة سيتحقق عن ذلك عوائد اقتصادية واجتماعية للجميع، على أن تلتزم المؤسسات الحكومية بدفع التزاماتها المالية تجاه الشركات الخاصة في الوقت المناسب لكي تتمكن من تعزيز أعمالها وخدماتها وتوفّر المزيد من فرص العمل للعمانيين.
التجارب العالمية تؤكد بأن الشركات الحكومية بالرغم من التزامها بمبادئ الحوكمة إلا أن الكثير منها فشلت نتيجة تبنيها للأنظمة الحكومية في تحقيق أعمالها وانهارت بسبب اتباعها البيروقراطية والتأخير في الأعمال والإنتاج. فالشركات الحكومية لا تقوم بين فترة وأخرى بالإفصاح والشفافية كما اعتادت عليها الشركات المساهمة العامة تجاه قوائمها المالية ربع السنوية، فهي تحتاج أيضا إلى اتباع سبل التدقيق من قبل مؤسسات المراقبة الخارجية لمتابعة أعمالها ومعرفة الامتيازات والأتعاب المدفوعة لأعضاء مجلس الإدارات بجانب المكافآت والعلاوات المدفوعة لموظفي الإدارة ومعرفة جميع معايير الأداء المخصصة للعاملين بتلك الشركات. فغياب أحكام ميثاق حوكمة عنها والسكوت على أفعالها وعدم محاسبة أعضاء مجالس إدارتها يؤدي إلى تحقيق مزيد من الخسائر السنوية لها وبالتالي للاقتصاد الوطني.
وفي تصريحات صحفية أكد سعادة عبد الله بن سالم السالمي الرئيس التنفيذي للهيئة العامة لسوق المال على المستوى الذي وصلت إليه معظم الشركات المملوكة من قبل الحكومة، معربا عن تقديره للجهود الكبيرة التي تبذلها مجالس إدارة هذه الشركات وإداراتها التنفيذية في سبيل تبني معايير الحوكمة المتعارف عليها. وأوضح أنّ مشروع ميثاق حوكمة الشركات المملوكة من قبل الحكومة كليا أو جزئيا الذي طرحته مؤخرا الهيئة العامة لسوق المال لأخذ الملاحظات عليه يأتي بناء على التكليف الذي جاء في المادة رقم 20 من قانون الشركات التجارية الجديد وتنص أنّ “على الهيئة وضع المبادئ المنظمة للحوكمة، تلتزم بها شركات المساهمة العامة والشركات التي تمتلك الحكومة فيها حصصا، وللوزارة وضع المبادئ المنظمة لحوكمة الشركات الأخرى”، مشيرا إلى أنّ هذا الميثاق سيكون بمثابة الإطار المرجعي لحوكمة هذه الشركات.