محمد أنور خميس اللواتي – الرؤية
تمرُّ الإنسانية بأسرها بأكبر أزمة في عصرنا الحاضر.. من الصعب تحديد معالم عصر ما بعد كوفيد 19؛ لأننا مع مرور كل ساعة نتلقى أنباء عن مستجدات ستؤثر -بما لا يدع مجالًا للشك- على ملامح العصر الجديد. إلا أن الأزمة ستمر، وستستمر الحياة، ولكن، لن يكون “عهد ما بعد كورونا مثل عهد ما قبل كورونا”. فمن المرجح أن يمر العالم بكثير من التغيرات في النظام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي نتيجة جائحة كورونا وبالتالي يفتح الباب لكثير من الفرص والتحديات في آن واحد.
لقد وضعت جائحة كورونا العولمة ودعاة العولمة أمام تحد خطير، في المقابل أسهمت في تعزيز توجهات القوميين والشعبويين. فرغم أن هذه الأزمة أظهرت الحاجة الماسة للتعاون الدولي المشترك في تبادل المعلومات والتنسيق في القضايا التي تمس العالم بشكل عام، إلا أن المشاعر القومية، وسلطة الدولة وسيطرتها زاد بشكل مطرد. ويبدو أن الحكومات حول العالم ماضية نحو سياسات الاكتفاء الذاتي عبر فرض إجراءات حمائية للمنتجات الوطنية؛ وبالتالي ستعمل الشركات على تقليص سلاسل التوريد وتعقيداتها الجغرافية لمواجهة المخاطر المستقبلية في عملياتها. وستؤثر هذه الإجراءات (بلا شك) على حجم التجارة الدولية مستقبلًا. ومن المؤكد أن الدول التي تعتمد على نفسها في الكوادر والصناعات والغذاء والدواء وسلاسل التوريد ستكون الأقدر على مواجهة هذا النوع من الكوارث والأزمات الدولية.
إذا جئنا إلى ميزان القوى العالمي والعلاقات السياسية، فيمكننا القول بأنَّ هذا الميزان سيتغير دون شك. ومن السابق لأوانه تحديد المنتصر الأكبر، لكن يلوح في الأفق أن الصين سيكون لها الحظ الأكبر؛ وذلك لما أظهرته حتى الآن من كفاءة عالية في السيطرة على الجائحة، والقدرة على التعامل مع الأزمة، إضافة إلى مساندتها دول العالم عبر الفرق والمساعدات الطبية، ناهيك عن تمتعها بالقدرات التصنيعية الهائلة للأجهزة والمعدات الضرورية لهذه الجائحة. أما الولايات المتحدة وأوروبا، فقد أظهرتا ضعفًا ملحوظًا في التعامل مع الأزمة داخليًا، وبين ولاياتها أو دولها، فضلا عن مساندة غيرها من الدول حتى تلك التي تعتبرها صديقة وحليفة لها، مما يشكل تحديًا كبيرًا على دور الولايات المتحدة كقوة عظمى لأنها ظهرت فاقدة للحد الأدنى من مقومات الزعامة، أما الاتحاد الأوربي فقد أصبح على حافة التمزق، ناهيك عن دعوات بعض أعضائه وعلى رأسها إيطاليا إلى إعادة النظر في تحالفاتها الدولية.
أما من ناحية تجربة العمل عن بُعد في المؤسسات التجارية والحكومية، فقد أظهرت هذه الأزمة التفات تلك المؤسسات إلى الهدر في الموارد المتمثلة في استئجار مكاتب كبيرة، والسفرات غير الضرورية، والاجتماعات المكلفة التي يمكن تخفيضها بإجرائها عبر الفيديو، وأخيرًا وليس آخرًا تنقلات الموظفين إلى مواقع العمل بدلا عن العمل بأريحية من المنزل. هذه التجربة بلا شك ستغير بيئة العمل في المستقبل القريب، وستتبنى الكثير من الشركات العمل عن بعد لتوفير الكثير من المصاريف بعدما كانت تعتبر أساسية حتى وقت قريب. وسيزداد الطلب على القوى العاملة المرنة وبالتالي سيمكن الشركات من مواكبة أعمالها بسلاسة والمحافظة على استدامتها، عبر توفير بيئة مرنة للموظفين. لاشك بأن ذلك سيشكل عبئًا على الحكومات في توفير قاعدة أمان وظيفي، وإعادة صياغة قوانين العمل، وسيتطلب من الشركات اعادة صياغة نظمها الداخلية ومؤشرات الأداء لمواكبة التوجه الجديد.
… إنَّ نجاح تجربة التعليم عن بُعد عبر منصات تعليمية إلكترونية أثناء هذه الأزمة، سيُؤثر حتمًا على سياسات التعليم المستقبلية؛ لقد تغلب التعليم عن بُعد على عامل المكان المُكلِف، فبات بإمكان الطلاب حضور محاضرات مدرسيهم من على بعد آلاف الكيلومترات. كما تغلب التعليم عن بعد على التكاليف المادية الضخمة التي تحتاجها المؤسسات التعليمية لتوفير المكان الملائم، وحضور الطلاب ومدرسيهم إلى مقرات الدراسة. ستدفع هذه التجربة بالمؤسسات التعليمية إلى دمج التعليم عن بُعد في أنظمتها التدريسية التقليدية؛ مما يُسهم في توفير تعليم نوعي بكلفة أقل لأكبر شريحة ممكنة.
لقد أظهرت هذه الجائحة ضعف كفاءة الأنظمة الصحية في العالم بشكل عام وتدني قدرتها على الصمود أمامها. كما أصبحت تكنولوجيا المراقبة على المستوى الصحي بين عشية وضحاها من الضروريات، فأصبحت مطبقة على نطاق واسع عالميًّا. فبعد أن كانت المعلومات الاستخبارية تقتصر على المواقع والجهات التي يتواصل معها الأفراد، فقد أصبحت الجهات المعنية مهتمة أكثر لمعرفة درجة حرارة الشخص، ودقات قلبه، وضغط دمه، ومخالطته لمصابين. وسيعزز هذا من أهمية مراقبة المعلومات الصحية للأفراد، مما يمكن لمقدمي الخدمة من توقع الأمراض ومنع حدوثها، مما يقلل العبء على المستشفيات. فلك أن تتصور بأن يتواصل معك جهاز آلي منبها إياك بأن قراءة نبض القلب لديك تشير بأنك معرض لأزمة قلبية بعد عدة ساعات بناء على تقنيات البيانات الضخمة، وبأن عليك التوجه للمستشفى حالًا أو تناول عقار محدد. ستكون مستشفيات المستقبل أكثر أتمتة، وأكثر دقة في تقدير المشاكل الصحية، وستقل الحاجة للذهاب إلى المستشفيات، مما يخفض العبء والتكلفة على النظام الصحي. وأخيرا سيكون لزامًا على الشركات في جميع القطاعات التي لم تواكب التقدم التكنولوجي (بسبب عدم إيمانها بأهميته) إعادة النظر في الكثير من القضايا والعمل خارج الإطار التقليدي. ولا شك ستُسهم هذه الأزمة في سقوط الكثير من الشركات وتقدم أخرى، وستكون الشركات الأكثر مرونة هي الأكثر حظًا في البقاء. كما ستلعب تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة مثل الأتمتة، والتحول الرقمي، وإنترنت الأشياء، والذكاء الصناعي دورًا محوريًا في عمل الشركات خلال الفترة المقبلة.
أما في الشأن الاقتصادي المحلي، بدأنا نلمس نتائج التدهور الاقتصادي، والركود العالمي بسبب جائحة كورونا على اقتصادنا الوطني. رافق ذلك انخفاض حاد في أسعار النفط نتيجة زيادة الإنتاج والنقص في الطلب العالمي. ونتيجة لذلك، ستكون السلطنة بحاجة لإعادة رسم خطتها والعمل على اتخاذ قرارات كبيرة ومصيرية وسريعة في آن واحد للتعافي ليس من جائحة كورونا فحسب، بل أيضًا من أزمة أسعار النفط المتدنية. إن الأمنيات بأن سعر النفط سيرتفع هي أمنيات ساذجة لا تستند إلى أرضية صلبة، خصوصًا في زمن بات الاعتماد فيه على النفط في انخفاض في كافة المجالات بسبب توافر البدائل الأخرى. إننا بحاجة أيضًا للتعامل بجدية بمبدأ الاستعداد لعصر ما بعد النفط عبر إعادة هيكلة الذهنية الشعبية. فعلى أصحاب القرار في الحكومة إجراء إصلاحات عميقة وإجراءات جادة نحو فتح ملفات الفساد، وتطبيق برامج المحاسبة وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، ناهيك عن أهمية وقف الهدر، ومعالجة بند الرواتب، وتطبيق نظام ضريبة الدخل بشكل عادل يضمن العيش الكريم للفئات المتوسطة والأقل دخلًا، وما يرافقها من إصلاحات كالمحاسبة والتمثيل والشفافية. كما يتطلب من الحكومة إعادة النظر في الكثير من القوانين والتشريعات المتعلقة بالقطاع الخاص بالبحث عن أساليب أكثر سلاسة في عمل الشركات، بالإضافة إلى تطوير أنظمة التأمين ضد التعطل. ومن الأهمية البيان بأن الحلول السهلة مثل خفض سعر العملة سيزيد الوضع تعقيدًا وقد يؤدي إلى أزمات اجتماعية بالغة.
… إنَّ سرعة اتخاذ قرارات كبيرة في أزمة جائحة كورونا ولَّد لدى الناس تفاؤلًا كبيرًا بعودة الرشاقة للمؤسسات المحلية الحكومية والخاصة. فبعد أن كانت البيروقراطية تعصف بتلك المؤسسات، نجدها قد اضطرت لأخذ قرارات جريئة في غصون ساعات أو أيام، مولدة الكثير من التفاؤل بمستقبل مشرق رغم التحديات الجمة؛ وذلك باستثمار الأزمة وتحويلها إلى فرصة للعمل الجاد والسريع.