Image Not Found

الأسباب المؤدية لمشاكلنا (1)

مرتضى بن حسن بن علي – الرؤية

كل الخطط الخمسية، ابتداءً من الخطة الخمسية الأولى “1976-1980” ومرورا برؤية “عمان 2020” ووصولا إلى رؤية “عمان 2040″، تضمنت أهدافا مشتركة، يمكن تلخيصها في الآتي:

العمل على تنمية مصادر جديدة للدخل القومي، تقف إلى جوار الإيرادات النفطية، وتحل محلها في المستقبل، وزيادة الاستثمارات الموجهة إلى المشروعات المدرة للدخل، والموفرة لفرص العمل، وعلى وجه الخصوص في مجالات الصناعة والسياحة والتعدين والزراعة واستثمار الثروة السمكية واستكمال بناء مقومات اقتصاد وطني يرتكز على نشاط القطاع الخاص، وإيجاد جيل جديد من العمانيين، ليقوموا بواجبهم في استكمال بناء عمان عصرية، وفقا للتغييرات التي تكتسح العالم والإحلال بدل العمالة الوافدة، وذلك عن طريق بناء منظومات تعليمية وتدريبية وتشريعية متطورة.

ورغم الإنجازات الكبيرة التي تحققت خلال العقود الخمس الماضية، والتي يستوجب من الجميع المحافظة عليها، فإنّ القلق الذي يساورنا يتعلق بالإخفاق في تحقيق الأهداف الرئيسية النوعية للخطط السابقة. المحاولات السابقة، لدراسة الأوضاع المستقبلية، أو في تحقيق الأهداف الموضوعة، قد واجهت العديد من المشاكل والعثرات في وضع الخطط والسياسات والاستراتيجيات، المؤدية لبلوغ الأهداف. ويبدو واضحا أننا أهدرنا وقتا عند التوجه إلى التطبيق الفعلي، أي ترجمة النصوص والآمال الى إجراءات تنفيذية. ولم يعد سرا أننا لم نتوجه ضمن خطة واقعية، ناهيك عن الخلل الظاهر في أمر الاختصاص، كما لم نستعن بأصحاب الكفاءات، أولم نطبق توصياتهم. لم تكن هناك خطة لمراقبة المسار، وتصحيحه، كلما لاح أي انحراف. وكلما ارتفعت أسعار النفط، يتم نسيان ما خطط له، ويتم الانحراف عن الأهداف الموضوعة، وتزداد شهية الإنفاق.

إنّ عملية تحويل النص والحلم إلى خطوات عملية، ليست فقط عملية جهد فكري عبر الطاولات، كما أنها أكبر من محاولة يجتهد بها البعض، عبر اللجوء إلى كولسات جانبية في قاعة هنا وغرفة هناك. إنها أوسع مجالا من ذلك بكثير. إنّها محصلة جهد وطني، تستعين بكفاءات وطنية ودولية، لكي تعطي المحصلة نتائج قوية التأثير.

أساس المشكلة، التي حاولت كل الخطط الخمسية، ابتداءً من الخطة الأولى، معالجتها من دون نجاح كبير، هو تقليل اعتمادنا على النفط “الاقتصاد الريعي”، وفِي الاقتصاد الريعي فإن كل ما يُصرف، وكل الفوائد المتحصلة، ناتجة من دخول غير منتجة، ويتحول الاقتصاد إلى اقتصاد خدمات، يعتمد على الريع “نفط، غاز، موارد أولية”، ويؤدي إلى حالة عُرفت اصطلاحا بـ”المرض الهولندي”.

معظم الأقطار المعتمدة على مصدر واحد، تواجه نفس التحديات والمشاكل، مثل تحديات خلق الوظائف المنتجة، أو دعم النمو الذاتي الشامل، أو تحسين التعليم والتدريب… إلخ.. القطاعات غير النفطية “الصناعة، الزراعة، السياحة إلخ…” تبقى صغيرة جدا ومهملة، ونموها يبقى هشا. والتوظيف المنتج يبقى محدودا. قطاع الطاقة” النفط، الغاز” يبقى هو المسيطر، ويخلق وظائف محدودة بصورة مباشرة، ولكنه يموّل قطاعا حكوميا كبيرا ومترهلا، وموظفين فائضين عن الحاجة، وقليلي الإنتاجية، وتنتشر كثيرًا العادات السلبية، مثل الاتكالية، والميول الاستهلاكية، والفساد، والمحسوبية، والمنسوبية. وفي نفس الوقت فإنّ القطاع الخاص يبقى ضعيفا وخدميا، ويعتمد على عمالة رخيصة، ويحاول هو الآخر أن يلتهم جزءً امن هذا الريع، والأكثر سرعة، أسرع التهاما “من سبق لبق”، وتزداد أعداد العمالة، قليلة الإنتاجية، كلما توفرت لدى الحكومة مبالغ أكثر؛ والآتية ليس من القوى الذاتية للمجتمع وإنما من أصول ليس للمجتمع علاقة بها، وهي من بقايا الحيتان والديناصورات، عاشت قبل ملايين السنين. وعندما تنهار أسعار النفط، ترى الحكومة نفسها في مشاكل، لأنها لم تستعد لذلك اليوم وتحدياته، وتتخذ قرارات هي عبارة عن ردود فعل عصبية، لعلاج مشاكل هيكلية بحلول تجميلية، وتتعقد المشكلة أكثر.

السبب الثاني وراء الإخفاقات التي حصلت، يكمن في الحلول التي أعلن عنها أيا كانت، لم تكن مسلحة بالسياسات، والاستراتيجيات، والخطط، والمحاسبة، والحوكمة والرقابة المستقلة، ووضع مؤشرات كمية ونوعية. لم يكن يتم التعامل مع أساس المشكلة وطبيعتها وأسبابها العميقة وإنما تكتفي بالتعامل مع مظاهرها، أو تقديم حلول مؤقتة (مسكِّنات) لها، وأكثر القرارات كانت إجرائية إدارية.

السبب الثالث للإخفاق، هو عدم الاستمرار بصورة ممنهجة فى إتباع سياسات الإصلاح الاقتصادى والتعليمي والتدريبي والإداري والاجتماعي. لم تكن هناك سياسة مركزية للحكومة، بحيث تقوم كل وزارة بتطبيق الجزء المتعلق بها، وفق أسس معينة، كما غابت سياسات المتابعة والمحاسبة، بحيث تكون متناغمة مع ما تعملها وزارات أخرى. فكل وزارة كانت تعمل كجزيرة منعزلة عن الأخرى. تدفقات النفط المالية كانت تغطي الكثير من العيوب. نسينا أن بناء الأوطان، عملية تراكمية، لا يستطيع أي شخص أو خطة، القيام بها، وإنها عملية تنسيق منتظمة، وعملية إدارة ذكية للموارد، ولا يمكن أن تكون لأية وزارة لوحدها سياسات خاصة ومستقلة عن سياسات وزارات اخرى. فمجلس الوزراء يضع الإطار العام للأهداف والاستراتيجيات والسياسات، وبدورها تضع كل وزارة خططها، لتنفيذ الجزء المتعلق بها، ويقوم مجلس الوزراء، واللجان المستقلة، بمتابعة ما تقوم بها كل وزارة، لتصحيح أي انحراف يقع أو معرفة العوائق التي تواجهها أية وزارة. سياسة ترحيل المشاكل كانت السياسة المفضلة.

وعلى سبيل المثال، وفي الوقت الذي استهدفت “رؤية عمان 2020″، التقليل من أعداد الموظفين في الجهاز الإداري للدولة، لتنسجم مع معدل أعداد الموظفين، لكل ألف من السكان في العالم وزيادة إنتاجيتهم نرى أن الذي حدث هو العكس تماما. لقد زاد أعداد الموظفين أضعاف المخطط لها، والتي بدأت تستنزف مبالغ هائلة من الميزانية. وعلى سبيل المثال، ارتفعت الرواتب من 2.6 مليار ريال في عام 2010 إلى 6.1 مليار في عام 2016، كما انخفضت الإنتاجية بشكل كبير. وبند الرواتب، هو من أكبر أسباب العجز في الموازنة العامة.

وكل ذلك، دفعنا إلى الدوران، فى حلقة مفرغة، لم نحاول مراجعة ومعرفة طبيعة المشاكل التي تواجه عمان، في كل مرحلة، وتؤثر على تحقيق الأهداف. لم يكن ممكنا تجنب الأخطاء من دون تنسيق. وكل ذلك زاد من صعوبتها وتفاقمها عاما بعد عام.

لو كنا جادين في حل كل تلك المشاكل منذ 30 عاما ما وصلنا إلى ما نحن فيه الآن، وما تكلفنا هذا العناء لحلها. فمثلا لو أوجدت قضية التعليم، الحلول الجذرية من خلال إيجاد ثورة في النظام التعليمي، لأمكننا بعد مرور 30 سنة أن يكون لدينا خريجين مؤهلين بصورة جيدة ويتمتعون بمهارات عالية.

إنّ إعداد الرؤى وتحديد الأهداف والاستراتيجيات والخطط والسياسات، ليس عملا سهلا، بل هو عمل ذهني وفكري ونظري، ويتطلب بداية، بذل جهود كبيرة من الجهات المسؤولة عن وضع الرؤى وتحديد الأهداف والإلمام بجوانب عديدة من المشكلة، التي يراد التوصل الى حلول لها، وتوفير جميع الإمكانات البشرية والمادية والتشريعية اللازمة.

وإجمالا.. إنّ تحدي أي عصر ولا سيما عصرنا المعقد هو تحدي الإدارة والإرادة في جميع المجالات، والحقيقة التي ننساها أنّ السياسة- أية سياسة- هي في صميمها علم وفن إدارة موارد المجتمعات المختلفة، والمتاحة، بما يوفر لهذه المجتمعات صحتها ورخاءها داخل حدودها، وأمنها ومصالحها وراء هذه الحدود.