الشيخ هلال بن حسن اللواتي
(14)
القوة التنفيذية الدافعة
إن النفس البشرية لما أن جهزت بتجهيزات ذاتية، كان هذا التجهيز يحمل كل مقومات التكامل والتنمية فكان مما جهزت به هو بــ”القوة الغضبية”، وهي قوة تمتاز بالجانب التنفيذي بلحاظ الدفع والدفاع، وهي قوة سريعة الفوران وسريعة الخمود، وهذه القوة لا تعي مفهوم الصواب والخطأ، ولهذا تشكل خطورة إذا ما تحركت لوحدها ومن دون ضبط حركاتها ونشاطها وانفعالها.
ولأجل أن تتحقق التقوى الحقيقية لا بد من تكامل حركة جميع القوى في النفس، وأن تعمل معاً في تشكيلة متحدة متوازنة، والقوة الغضبية من أهم عناصر التكامل والتنمية، ولا يمكن أن يتحقق من دون إعطاء زمامها بيد القوة العقلية.
ولهذه القوة أيضاً حدود ثلاث وهي: الحد الأوسط الشجاعة وهي فضيلة، وحد الإفراط التهور، وحد التفريط الجبن وهما رذيلتان، ولا يصلح وصف شخص بالشجاعة إذا كان له من الحدين الإفراط أو التفريط نصيب، وإذا ما خرجت عن حد الاعتدال ولم يكن لها رادع دمرت الإنسان وأوصلته إلى المهالك، ولهذا سميت باسم آخر وهو: “القوة السبعية”، بسبب صدور تصرفات منها تشبه السباع.
ولكن إذا ما انضمت تحت قيادة العقلية اتزنت وصارت كل حركاتها رحمانية ملكوتية، وهذه القوة مختصة بالدفاع عن مصالح البدن والنفس والعقل، ولا توجد قوة أخرى في هذا الإنسان يمكن أن تحل محلها.
هناك من الناس يرون أن صلاح أمورهم أن يظهروا في مجتمعاتهم بشكل الغضب والشخصية الشديدة في التعامل مع الناس، ومما يؤسف له أن تجد أولئك يتباهون بالحالة الغضبية والشدة التي يعرفون بها في مجتمعاتهم، بل وتجد البعض يشكل لنفسهم حزباً أو تشكيلة أو فريقاً أو شلة أو عصابة في حوائرهم وقراهم وحلتهم ويجدون أن هذا الصنع مدعاة للفخر والاعتزاز، والحقيقة أن هذه الأفعال لا تنم عن شخصية متزنة ولا عن شخصية إيجابية، فإن إيجابية الإنسان واتزانه يعرفان من خلال عقله ومستوى سيطرة هذا العقل على قوته الغضبية.
إن السيطرة على القوة الغضبية لأمر يدعو إلى الفخر والاعتزاز، وهذا لا يعني أن يميت الإنسان قوته الغضبية كما حاول بعض أصحاب الطرق الروحية؛ فهذا أيضاً غير صحيح، لأن بهذا التصرف سوف يضع نفسه في موضع الإهانة والسخرية والإذلال، ولن يقوم بالدفاع عن نفسه أو عن أهله أو عن عرضه أو عن ماله أو عن دينه أو عن وطنه أو عن الحق، وهذا يعني أن هذا الإنسان قد أدخل نفسه إلى عالم الجبن والاستضعاف والاستذلال والاستصغار، وكل ما ذكر يعد من الرذائل التي ينهى عنها العقل والعقلاء فضلاً عن الشرائع السماوية، فلا ينبغي الأفراط بالغضب ولا ينبغي التفريط، وعلى المرء السعي للتلبس بلباس الشجاعة في كل شيء، وهو يعني إخضاع القوة الغضبية لإدارة القوة العقلية.
(15)
القوة التنفيذية الجاذبة
وهي القوة التي تعرف بالقوة الشهوية، ولأنها تتطبع بطباع البهائم فلذا سميت باسم آخر وهو: القوة البهيمية، وهي تختص بميزة لا يشاركها اية قوة من تلك القوى النفسانية، وهي ميزة جذب واشتهاء إلى كل جميل بناء على معيار الصناعة الأولى التي صمم عليه الإنسان، وتعتمد مجموعة من الأمور على هذه القوة من قبيل: الانجذاب إلى كل جميل وجمال، النظافة، الاناقة، التنظيم الجميل، التنسيق بين الأشياء بجمال، ومنها أيضاً يكون ما يدفع الإنسان إلى بقاء نسله ونوعه، فلو لو تكن النفس قد زودت وجهزت بهذه الميزة لما استطاعت على إبقاء نوعها من أصل، ولما نشأت عندها القدرة على الانجذاب والاشتهاء إلى الجماليات في الحياة.
نعم شأنها شأن سائر القوى من حيث تحددها بالحدود الثلاث وهي: الحد الأول: العفة، وهو حد الوسط والاعتدال والصراط المستقيم، والحد الثاني: الشره، وهو حد الإفراط، والحد الثالث: وهو الخمود، وهو حد التفريط، ووصولها إلى حد العفة وهو صراطها لا يتحقق إلا باللجوء إلى القوة العقلية، لأنها هي تستطيع أن ترفعها من قباحة الرذيلة إلى جمال الفضيلة، وإذا ضعفت القوة العقلية في هذه النفس فإنها سوف لن تتمكن من إدارتها وسوف تقود الإنسان إلى حيث الرذيلة، وسيظهر هذا على سلوكها في الملبس، والمسكن، والمشرب، والمركب، وفي الرحلات، وفي شراء المستلزمات الكمالية، وفي شراء الساعات والاكسسوارات، وفي كيفية تجميل الوجه والشعر، وفي أناقة البدن، وفي شراء الذهب والفضة والألماس وسائر المجوهرات والأحجار الكريمة، ويصل الأمر إلى اقتناء الشنط اليدوية، والحذاء والنعال، وفي العباء، بل وفي الخروج إلى المطاعم، والشاطئ، وشراء السيارات … إلخ، وهنا يأتي دور العقلية في مراقبة تصرفات الشهوية كيف تمنعها من القيام بما يوجب الإضرار بصاحبها، ونحتاج إلى فن التعامل مع هذه القوة.
وتعد القوة الشهوية قوة لا تهدأ بسرعة إذا ثارت، ولهذا يحتاج إلى أن تدار من قبل العقلية بشكل خاص، وقد وقع بعض أهل الرياضات الروحية في رذيلة حيث توجه إلى قتلها وكانت طريقة قتله إياها بعدم تلبية رغباتها مطلقاً؛ فقرر عدم الزواج، أو بعدم الاهتمام بالملبس ولا بالمشرب، ووقع البعض الآخر بالجهة المقابلة إلى الافراط لما اعطى لها كل ما تطلب، بل ولربما يقوم صاحبها بإيقاع نفسه بالديون لأجل تلبية رغبات شهواته، أو لربما يعرض نفسه للإذلال والمهانة في سبيل اشباع لذة العين بالنظر إلى النساء، ولربما يوقع نفسه بالسرقة، أو لربما يعتدي على أعراض الناس، وعلى ممتلكاتهم العينية والمادية، ولربما يدوس على رقاب الموظفين وعلى كراماتهم في سبيل الوصول إلى منصب أو إلى كسب رضا المسؤول، وهكذا تسلب القوة الشهوية عقل صاحبها وتوقعه في كثير من المهالك وفي مواقف مذلة، وتكسبه الرذيلة.
(16)
القوة الهندسية المخطط
ننتقل إلى بيان وظيفة هذه القوة، ومن ثم دورها في هذه النفس إن شاء الله تعالى.
يتصور البعض أن القوة الوهمية من أعمال ووظائف القوة العقلية، فيتوهم أن العقل هو الذي يخطط ويهندس، إلا أن الواقع هو كما بينه الأعلام أهل التخصص بأن القوة العقلية لا تعرف سوى لغة الانبغاء وعدمه، وبناء عليه فإن القوة التي تتكلف بالهندسة والتخطيط ورسم الطرق والسبل والأفكار هي القوة الوهمية، وهي تتسم بمجموعة من الخصاص.
وهي تتعامل مع الحسيات لهذا نجد مدركات الوهمية تدور مدار الحسيات فقط، وهي عن إدراك المعقولات الصرفة بعيدة، وقد ذكر بعض الفلاسفة حسب نقل التفتازاني في شرح المقاصد في علم الكلام 2: 25 نقلاً عن ابن سينا في الشفاء ما ملخصة بأن القوة الوهمية تحمل مجموعة من الخصائص من قبيل التذكر والتخيل والتفكر والحكم، وإن كان هناك من يخالفه في هذا التقسيم وينسب بعضها إلى غير الوهمية.
ولهذه القوة أيضاً ثلاث حدود، الحد الوسط: فهو الوسائل الرحمانية، وحد الإفراط هو المكر والحيل والشيطانية، وأما حد التفريط فهو: الجمود، وتعرف هذه القوة بنشاطها الدؤوب وعدم الجمود أبداً، فهي تريد الحركة كيما كانت الحركة، ولهذا تعتبر أخطر القوى النفسانية، لكونها الواقفة على بوابة الحواس الخمسة، وتلتقط الصور والمحسوسات الخارجية، وكأنها مكتب الاستقبال، وتقوم بتوزيع ما تلتقطه إلى حيث بقية القوى، وخطورتها هنا تكمن في أنها تقوم بإضافات من قبلها على تلكم الصور بتحليل أو تفسير أو تعلق أو ملاحظة أو تصرف أو تركيب فتذهب المعلومة إلى القوة التي توزعت عليها بشكل مشوه.
ومن هنا ذكر اعلام الأخلاق بأن هذه القوة الوهمية ينبغي أن تظل تحت الرقابة الدائمة من قبل القوة العقلية، وأن لا تسمح لها بالتصرف كيفما تريد، وأن عليها أن تصحح ما تنقل من المعلومات بشكل مشوه، وتمنع حدوث الكوارث في هذه النفس.
وإذا ما أصبحت القوة الوهمية تحت إدارة القوة العقلية فإنها تقود هذه القوة إلى ابتكار الخطط التكتيكية والاستراتيجية إلرحمانية، ولا تغزوها الوساوس والظنون والأوهام، وهذا لا يعني أن المحاولات الشيطانية الابليسية تزول؛ كلا، فإنها تظل حاضرة غير أنها لن تكون فعَّالة لكونها تصبح تحت الرقابة العقلية، وسوف تؤول جميع تصرفات الوسواس الخناس فاشلة ومكشوفة.
إن القوة الوهمية تزين الأشياء غير الجميلة للنفس، فعلى العقلية أت تقوى كي لا تمنح أي فرصة للوهمية التصرف في الخيال البشري بالكيفية غير الصحيحة، بل وتبدلها بكيفية صحيحة متوافقة مع المنطق العقلي.
والفائدة في القوة الوهمية إدراك المعاني الجزئية، واستنباط الحيل والدقائق التي يتوصل بها إلى المقاصد الصحيحة، وبيان ذلك: أن الواهمة والخيال والمتخيلة ثلاث قوى متباينة، ومباينة للقوى الثلاثة الأول.
(17)
كيفية عمل سائر القوى معاً وكيفية تنميتها إيجابياً
إن القوى التي ذكرت في الحلقات السابقة متحدة مع بعضها البعض في نفس واحدة، وإنما أفردت كمفاهيم لتمييزها لما لها من آثار مختلفة تظهر من النفس، وعملية الفعل الانفعال عندما يحصلان في نفس الإنسان فإنهما قد لا يتجاوزان الثانية الواحدة، ولربما أقل بكثير، مثال: نفترض أن شخصاً واجه موقفاً وهو: “مر عليه شخص يعرفه ولكن لم يسلم عليه كعادته”، ففي هذه الحالة تحدث في نفس المقابل أنشطة وحركات سريعة جداً، ونختصرها في الكلام الآتي:
استقبلت الحواس “العين”، و”السمع” عدم سماع هذا الشخص مسلماً، وكان المستقبل لهذه المعلومة هو:”القوة الوهمية”، فقامت بتحويل المعلومة إلى “القوة الغضبية”، وإذا بالقوة الغضبية تثار غضباً، وتبدأ لدى الوهمية إثارات تحمل روح المعاني لعدم سلام ذلك الشخص، فتبدأ بطرح تساؤلات، لماذا لم يسلم؟، هذه إهانة!، وكلما زادت تخيلات الوهمية كلما زاد غضب القوة الغضبية.
وفي هذه اللحظة بالذات إذا كانت القوة العقلية قوية فإنها تقوم بتوجيه نقدها إلى القوة الوهمية بأن هذا لا ينبغي، وأن هناك مجموعة من الاحتمالات التي يمكن التبرير بها تصرف ذلك الشخص، وتوجه الخطاب إلى الغضبية بقولها هذا الغضب لا ينبغي.
وتبدأ القوة العقلية بالاستعانة بذات القوة الوهمية بتغيير تصوراتها وتخيلاتها حسب المعلومات التي توجهها إليها لتقوم هي بدورها بتهدئة القوة الغضبية، وإذا لم تستطع العقلية بتلك المعلومات أن تحقق النجاح فإنها تستعين بمعلومات تحفيزية فيها نحو من الثواب وتوجهها إلى الشهوية، فتستنفر هذه القوة رغبة إلى الجمال والثواب المحمول في رسائل العقلية، وهنا تبدأ العقلية بتوجيه هذه الحركة من القوة الشهوية إلى القوة الغضبية لأجل إضعاف حدتها، وإرجاعها إلى صوابها، وإلى اتزانها على صراط الاعتدال والوسطية.
وكلما كان تمكن العقلية على سائر القوى النفسانية قوياً كلما كانت إدارتها في إخماد الفتنة الداخلية سريعاً جداً.
وفي المقابل .. فإذا كانت إدارة القوة العقلية ضعيفة في هذه النفس فإن هذا يعني أن تتسلط الوهمية والغضبية ولن يبالي أي منهما للدمار الذي قد يحدثانه في هذه النفس، فلربما يتصرفان بتصرف يؤدي إلى قطيعة الرحم، أو إلى توليد الأحقاد بالأجيال، أو لربما إلى المؤامرات الكيدية، أو لربما إلى اغتيال الشخص بيولوجياً، أو لربما اغتياله سيكولوجياً، أو لربما اغتياله اجتماعياً.
وهنا في هذا العالم بل في هذه العوالم يحتاج إلى ضبط هذه الإدارة بموازين دقيقة، وأن تكون موازين موضوعية منصفة كي تتمكن من النجاح على مستواها النفسي.
والحركة في القوى النفسانية في الحقيقة تحلل إلى حركتين، الحركة الأولى في ذات القوة الواحدة، والحركة الثانية بين القوتين أو الثلاث أو جميعها، ومن هنا تنشأ كل الصفات من الفضيلة والرذيلة، فهي بانفرادها وباجتماعها تولد كل الصفات الأخلاقية على الاطلاق.
(18)
التعامل الإداري والقيادي مع النفس
مثال آخر نفترض أن شخصاً مر على شخص ولكن نظر إليه نظرة أحس منها المنظور إليه بريبة وبتحسس ما حرك لديه مجموعة كبيرة من التساؤلات، منها .. ترى ماذا وكيف يحدث في هذه النفس من عمليات نفسانية بين القوى الأربع؟!.
الجواب: إن المستقبل الأول لتلك النظرة هو:”القوة الوهمية”، ثم قامت القوة الوهمية بنقل تلك النظر ببعض من البهارات الخاصة التي تتعلق بعالمها الشيطاني، فحولتها إلى مزيد من المعلومة المفسرة بتفسيرات محتملة، وهذا يعني أن القوة الوهمية قد أدرجت بمعية المعلومة وقت نقلها إلى محلها من القوتين الغضبية أو الشهوية ظناً، وهذه الظنون إذا ما تحولت إلى القوة الغضبية فإنها سوف تعيشها حالة من القلق والحيرة، وهذا يعني أن النفس تعيش إفراطاً في القوة الغضبية، وتعيش الإفراط في القوة الوهمية، وتعيش تفريطاً في القوة العقلية، وتمتزج هذه المسائل في نفس هذا الإنسان، فتختلط عليه المشاعر، وتظهر عليه بعض ردود الأفعال كنظر الريبة، والشكوك، والتساؤلات، والحيرة، والخوف، والخشية، وتزول الثقة والاطمئنان، وتبدأ القوة الغضبية بسبب هذه الحالة التي عيشتها القوة الوهمية باتخاذ أعمال احترازية من قبيل التحسس من كل موقف سيصدر من هذا المقابل، ولربما يتعدى إلى اعلان نفسي بمقولات عرفية من قبيل:” قبلما يتعشا بي اتغدا بيه”، وتحرك النفس في هذه الاتجاه السلبي دليل على أن القوة العقلية في سبات وهجران وسجن.
ولكن لو كانت النفس قد زودت بمعارف واقعية حقيقية، تربط الإنسان بــ”صانع الوجود”، فإن مثل تلكم المواقف لن تؤثر فيه، بل سيقوم بتعذير المقابل، فإن لم يجد له عذراً فلربما يلتمس له عذراً.
ومن الأمثلة المنتزعة من واقع حياتنا .. لو أن شخصاً أعطي مسؤولية على أموال، فهو بحكم الأمين، وأن عليه الحفاظ عليها بحكم ائتمان الناس عنده، ولكن صادف أن هذا الرجل وقع في أزمة مالية، فهو أمام مجموعة من الأمور منها: إما الصبر إلى أن تنفرج همومه، أو التقدم إلى جهة أو شخص طالباً ديْناً، وإما التعدي على الأمانة، وإذا كانت القوة العقلية قد آمنت بمجموعة من المبادئ والقيم، وآمنت برب القيم فإن النفس لن تتعدى حدودها، فلربما تفضل الصبر على خيانة الأمانة، ولكن إذا ما خان المرء الأمانة وتعدى عليها وتصرف بالمال المؤتمن عنده كشف هذا عن أن هذا الرجل أسير لقوته الشيطانية الوهمية، فلقد زينت له خيانة الأمنة بمبررات، ومن جهة ثالثة دل على ضعف القوة العقلية لديه، ودل أيضاً ضعف خزانته المعرفية، ودل على عدم وصول المعلومة والمعرفة التي لديه إلى درجة الوثوق والتصديق والاذعان وهو ما يعرف بــ”الإيمان”، ودل أيضاً على تكمن القوة الشهوية منه إذ آثر نفسه على القيم والمبادئ والأخلاق.
(19)
إدارة المعلومات وتنمية الذات
إن القوى الأربع التي توجد في هذا الإنسان وما يتعلق بها من فروع، وما فيها من صفات الفضيلة وصفات الرذيلة في حاجة ماسة إلى “الإدارة” الصحيحة، وإلى “القيادة” الحكيمة، فإن القوى النفسانية لا تحتاج إلى قتلها أو اجهاضها بل تحتاج إلى ترويضها بحكمة وعدالة، وهذا يعني:
أولاً: ضرورة التزود بالمعلومات والمعارف، ثانياً: وليس أي نحو من أنحاء المعلومات والمعارف بل إلى معلومات تتوافق متطلبات الذات، ثالثاً: ضرورة تكوين علاقة مع الصانع لهذا الوجود، وتأتي أهمية هذه العلاقة في عدة محاور منها، أنها ترفع بين صاحبها وبين سائر الكائنات الحجب والجمود والجفاف، فإذا تحقق هذا الرفع فعندها تقوم سائر الكائنات ابتداء من أصغر جزء في الذرة بالتفاعل مع هذا الإنسان، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه كلما قويت العلاقة بالصانع كلما ازداد وهج هذه العلاقة على الكائنات.
ولأن الإنسان في طور تكاملي مستمر، وفي عملية تنموية مستدامة فإنه يحتاج بحكم مصادفته لتجارب جديدة إلى معارف متجددة، وما لم يتزود منها فإنه لن يخطو خطوات التكامل والتنمية بالشكل الصحيح، والكلام هنا أساساً غير متعلق بالعلوم الطبيعية، بل هو متعلق بما يعمها، بما يدخل في إدارة الذات وقيادتها بالشكل الصحيح، وهذا سوف ينعكس على سائر تعاملاته مما يقع بين يديه من المواد والآلات والمسائل والمطالب في كافة المجالات، فإن صناعة السيارة شيء، وقيادتها شيء آخر.
ومجرد الحصول على المعلومة والمعرفة غير كاف في إثبات النجاح بل يحتاج الأمر إلى كيفية استعمال هذه المعارف والعلوم، وكيفية توظيفها في هذه النفس ابتداء بالعقل ومروراً بسائر القوى النفسانية إلى إدارة وقيادة البدن والروح، وكما هو معلوم إن إدارة القوة العقلية بذاتها يحتاج إلى مهارة وقدرة ومعارف خاصة، فكيف فيما نجده من اتحاد القوى الأربع مع متعلقاتها، ففي هذه الحالة ما سنحتاجه نحن معاشر البشر من المهارة والفنون الإدارية والقيادية لن تكون عادية.
والبشرية لم تستطع إلى الآن إيجاد صياغة واحدة تتمكن من تلبية احتياج المجموع في وقت واحد، نعم وصانع هذا الوجود قدر على إيجاد هذه الصيغة الجامعة لأنه هو القادر لا سواه، وكان أهم كتاب يحوي على البرنامج الإلهي القادر على تلبية احتياج جميع الكائنات بصياغة إعجازية مبدعة مذهلة هو: “القرآن الكريم” الذي يعتبر أعظم كتاب لأجل تحقيق أعظم برنامج لأعظم مشروع في تاريخ البشرية.
ونجد في النصوص الشريفة الكثير من التوجيهات إلى التزود بمعارف تنسجم وتتناغم مع الذات التي صمم عليها الإنسان، وفي الوقت نفسه تلبي احتياجات سائر الموجودات على وجه البسيطة، منها:
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين:”إن العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الابصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف”.
(20)
تنمية المعلومة لإدارة الذات
ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين:”ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته، وما يضمر النبي (صلى الله عليه وآله) في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولوا الألباب، الذين قال الله تعالى:” (وما يذكر إلا أولوا الألباب)”، الأمر الذي ينبهنا إلى أهمية العقل على سائر ما يسعى إليه الإنسان في حياته، فاكتساب العقل مقدم على اكتساب جميع المسائل.
وانتهينا إلى ما يقوي العقل ويزيده، فإليك بعض ما جاء في النصوص الشريفة حيث أنها تصدر من العارفين للاحتياج الذاتي للإنسان وبدقة متناهية، فأول طريق بينه الأعلام لأجل زيادة العقل هو الوحي، قال تعالى:” لقد أنزلنا إليكم كتبا فيه ذكركم أفلا تعقلون”، الأنبياء: 10، والعلم، قال تعالى:” وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون”، وثالأدب، ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام:”كل شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى الأدب”، والتجربة، فقد ورد في الأثر الشريف:”العقل غريزة تزيد بالعلم والتجارب، والسير في الأرض، قال تعالى:”أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”، الحج: 46، وفهو المشورة، فقد جاء عن أمير المؤمنين عليه عليه السلام وكرم الله وجهه الشريف:”من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول”، ومجاهدة النفس، فقد جاء في غرر الحكم لأمير المؤمنين عليه السلام وكرم الله وجهه الشريف:”جاهد شهوتك، وغالب غضبك، وخالف سوء عادتك، تزك نفسك ويكمل عقلك وتستكمل ثواب ربك”، والذكر فقد ورد: “الذكر نور العقل، وحياة النفوس، وجلاء الصدور”، والزهد في الدنيا، وقد جاء في ذلك:”من سخت نفسه عن مواهب الدنيا فقد استكمل العقل”، واتباع الحق: فقد ورد:”وأما طاعة الناصح فيتشعب منها الزيادة في العقل وكمال اللب”، وهناك المزيد مما يقوي العقل من قبيل مجالسة الحكماء، ورحمة الجهال، والاستعانة بالله تعالى،، ولكن نختم هذه الحلقة بتذكير مهم وهو: أن كل ما جاء من موجبات زيادة العقل هو بنحو المقتضي ولأجل تفعيله ينبغي أن يصب فيما صممت عليه الذات، فإن الزهد بما هو زهد أمر جميل وهو فضيلة، إلا أن كماله وجماله لا يبرز إلا إذا كان في تحقيق متطلبات الاحتياج الذاتي للإنسان.
وهذا الأمر يقودنا إلى معرفة العلة التي تدفعنا إلى ضرورة توظيف جميع المفاهيم في تحقيق متطلبات الاحتياج الذاتي، وما علاقتها بالذكر الإلهي، ولماذا؟!.