حيدر بن عبدالرضا اللواتي – عُمان
بالرغم من الاهتمام الذي توليه الدول الخليجية لصناعة الدواء، إلا أن حجم الواردات السنوية من الأدوية والمستلزمات الطبية عالية، ولها تأثير كبير على ميزان المدفوعات السنوي، خاصة في مثل هذه الظروف التي نمر بها نتيجة لتفشي فيروس كورونا من جهة، وتراجع أسعار النفط العالمية بهذه الصورة الكبيرة من جهة أخرى. فهذه الجائحة وأزمة النفط تقدم دروساً عديدة للعالم، خاصة لدول المنطقة التي ما زالت تعتمد على النفط كمصدر رئيسي للدخل والايرادات. كما أن هذه الأزمات تدفعنا بالاسراع في التنويع الاقتصادي، واستغلال ما لدينا من الموارد المتاحة، بجانب إبداء المزيد من الاهتمام بالكودار الوطنية وتشغيلها، الأمر الذي سوف يساعد على تدوير الأموال السائلة في داخل الدول والاقلال من التحويلات المالية الشهرية الكبيرة للعمالة الوافدة.
اليوم أصبح مطلوبا أن تتخذ دول المجلس المزيد من الإجراءات والخطوات الاحترازية اللازمة لمجابهة مثل هذه الأمراض ووضع الاستراتيجية للصناعات الدوائية، بحيث تكون متوفرة بأسعار مناسبة، فيما يمكن من خلال هذا القطاع الحيوي تعزيز الرقعة الصناعية وفرص العمل لأبناء المنطقة. كما يمكن لهذه الصناعة أن تسد جزءا من حاجة السوق الخليجي وتصدير الكميات الأخرى إلى خارج المنطقة.
فحجم سوق الدواء في المنطقة كبير، ويتم تغطية معظم احتياجات السوق من الواردات الخارجية، الأمر الذي يتطلب تعزيز العلاقات مع الشركات الأجنبية المالكة للتقينات والخبرات الدوائية، وزيادة الاستثمارات في هذا القطاع لتحقيق المطلب. فالصناعة الدوائية تعتبر من الصناعات عالية الكلفة نظرا للمواصفات الخاصة التي تتطلبها في مجال التقنيات المستخدمة، فيما تحتكر عدد من الشركات العالمية الكبرى لهذه التقنيات، وتطالب بفرض شروطها على الشركات الخارجية، بالاضافة إلى ارتفاع كلفة المواد الخام والاجراءات الشديدة لهذه الصناعة ومراقبة الجودة.
فعلى المستوى المحلي نجد أن ذلك مطلب حيوي يتكرر طرحه سنويا نتيجة لحاجة المجتمع العماني للتصنيع الدوائي. ووفقا لبيانات وزارة الصحة لعام 2017، فان المصانع المحلية تنتج حوالي 5% فقط من إجمالي الأدوية المتداولة في السلطنة من خلال بعض المصانع القائمة، فيما تستورد السلطنة نسبة 95% من المنتجات الدوائية والأدوات الجراحية و100% من الأدوات المختبرية من الخارج. وفي عام 2017 تم صرف أكثر من 66 مليون ريال عماني وبنسبة 8.6% من إجمالي المصروفات المتكررة لوزارة الصحة على الدواء والأجهزة والمستلزمات الطبية. وهذه المصروفات تتزايد عاما بعد عام نتيجة لتزايد عدد السكان والمقيميين بالبلاد، الأمر الذي يحتم اليوم إعادة قراءة هذا المشهد لتوفير المزيد من الصناعات الطبية والصيدلانية اللازمة، والتوجه نحو إنشاء شركات تصنيع محلية بمشاركة الصناديق والقطاع المصرفي العماني والشركات الكبيرة في تأسيس شركات مساهمة عامة في هذا القطاع، وتشجيع الاستثمار في مجال الصناعات الدوائية والطبية ومعداتها.
ومع وجود المشاريع في الصناعة الدوائية في البلاد، فان هذا الأمر سوف يعزز من الخريطة الصناعية في البلاد، ويقلل من قيمة المستوردات السنوية من الأدوية والعقاقير والمستلزمات الطبية الأخرى. أما على المستوى الخليجي، فان حجم السوق الدوائية في دول مجلس التعاون الخليجي كبير ويتجاوز المليارات من الدولارات سنويا، نتيجة لاستيراد معظم تلك المنتجات الطبية والصيدلانية والأدوية والأدوات الجراحية والأجهزة الطبية وأدوات المختبرات من الخارج، وهناك حاجة لأنشاء المزيد من مصانع الدواء بدول المجلس وفق بيانات منظمة الخليج للاستشارات الصناعية بهدف مواكبة التطورات التي تشهدها، وكذلك من أجل تطوير الخدمات الاجتماعية والصحية بالمنطقة. فالقطاع الخاص في المنطقة يحظى بالعديد من الحوافز والتسهيلات والإعفاءات، الأمر الذي يساعد على ازدهار هذه الصناعة مستقبلا. وعلى الحكومات الخليجية القضاء على المخاوف التي تشكلها منظمة “تربس” فيما يتعلق بصناعة منتجات الأدوية ومواصفاتها العالمية كشرط لدخول هذه الأدوية إلى السوق، وتهديدها بعدم منح براءات الاختراع، بينما هناك عمليات احتكار لشركات الدواء العالمية الكبرى للتحكم في الاسعار وعدم إعطاء المجال للاخرين بالدخول في هذا القطاع. وهذا ما دفع دول المجلس خلال السنوات الماضية بالتوجه نحو الشراء الموحد للأدوية الأساسية، والعمل على ترشيد الخدمات الصحية، وإدخال نظام التأمين الصحي.، وتشجيع القطاع الخاص للاستثمار في الخدمات الطبية.
فهناك العديد من القطاعات الاقتصادية التي يمكن التركيز عليها في دول المجلس وتأسيسها بشكل فردي أو ثنائي أو جماعي، منها مشاريع الصناعات الدوائية والتي أثبتت هذه الأزمات ضرورة أن تكون متوفرة لدينا، وخاصة في مثل هذه الظروف. ونرى اليوم بأننا مقصرين في هذه الصناعات، فيما صرفنا خلال العقود الماضية البلايين من الدولارات على مشاريع ومجالات تتسم بالرفاهية دون أن ننتبه إلى القضايا الملحة لمجتمعاتنا، ناهيك عن البلايين الأخرى التي صرفت من أجل إشعال وشن الحروب في المنطقة وخارجها.
ومنذ عقود ونحن ننادي بالتكامل الصناعي الخليجي من أجل أن تكون احتياجاتنا وسلعنا من الأغذية والأدوية والمعدات الطبية وغيرها متوفرة متى شئنا، ولكن تحقق شيء يسير من ذلك، وأصبحنا ننافس بعضنا بعضنا في الكثير من المشاريع الصناعية، الأمر الذي يؤدي إلى خسارة بعضها سنويا.
وفي السنوات الماضية تمكنت دول مجلس التعاون من إنشاء مجلس للصحة فيما بينها، ولكن مهمة هذا المجلس تكمن إيجاد نظام موحد لتسجيل الأدوية والتأكد من جودتها وفعاليتها، ودقة المعلومات المتعلّقة وبحيث يكون تصنيعها وفقاً للمواصفات والمعايير العالمية، بغض النظر عن السعر العالي لهذه الادوية في أسواق دول المجلس، بينما المستفيدون من ذلك هم مجموعة من الشخصيات والتجار الوافدين الذين يتحكمون في أسواق هذه السلعة الضرورية.
نحن نقدر الجهد الذي يبذله المجلس في العمل باختصاصاته في هذا الشأن كتوحيد تسجيل الشركات الدوائية والأنظمة والإجراءات في عملية تسجيل تلك الشركات، وتوحيد تسعيرة الأدوية وزيادة التكامل والتنسيق بين الدول الأعضاء وتوحيد المعلومات والشروط عند تسجيل الأدوية. وجميع هذه القضايا مهمة للمواطن والمقيم بالمنطقة، لأن هذه المعلومات تساعد في التأكد من تطبيق أسس التصنيع الجيّد من قبل شركات الادوية، ومتابعة اثارها الجانبية، بالاضافة إلى استخدام تلك الادوية بشكل أمثل وبأقل التكاليف، وأن يكون الحصول عليها آمناً وفعّالاً وبأسعار مناسبة. ولكن ما ينقصنا في المنطقة هو ان تكون لدينا صناعات ومشاريع دوائية متكاملة وتكون موزعة بين دولنا بحيث يمكن لنا التصرف بها في حال عوزنا لإنتاج المزيد منها في وقت الشدة والمرض. نحن نعلم بأن الدول الأوروبية وأمريكا تتجنب إعطاءنا المعرفة والخبرات اللازمة لصناعة الأدوية في المنطقة بسبب علمها بأن السماح بايجاد القاعدة الصناعية الدوائية في المنطقة سوف تقلل من استيراد الأدوية من دولهم، والتي تباع أحيانا بأسعار خيالية، ناهيك عمّا يصرفه الخليجيون على قطاع العلاج سنويا في الخارج نتيجة لقلة المستشفيات المتخصصة بالمنطقة. اليوم علينا إعادة الاهتمام إلى هذه القضايا، وتعزيز التنسيق بين وزارات الصحة الخليجية للنظر فيها باعتبارها تهم جميع أبناء المنطقة سواء من المنتجات أو الأجهزة الطبية أوالأدوية أو كل ما يتعلق بصحة الانسان عموما.