د. فاطمة أنور اللواتي – الرأي اليوم
كلمة الانتحال ليست غريبة على المشهد الثقافي بشكل عام سواء كان أدبا موجها للكبار أو للصغار. كما أنه لا يقتصر على أمة من الأمم أو عصر من العصور فقد كتب الكثيرون حول الانتحال في العصر الأموي أو العباسي وحتى في العصر الجاهلي حتى أن كتبًا أُلفت بعناوين واضحة كـ “سرقات المتنبي” وغيرها.
في عصرنا الحالي، هناك الكثير من القوانين والأنظمة التي سُنت من أجل الحد من عملية الانتحال الأدبي أو السرقة الأدبية. فحقوق المؤلف التي تتصدر جميع الكتب والتي تُسجل رسميا في بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية تضمن للكاتب الحق في المحافظة على فكره الأدبي. وتحرص دور النشر على وضع عبارات لضمان حق الدار والمؤلف في المنجز الثقافي الذي يتم نشره. إلا أنه ومع الأسف الشديد، فبالرغم من كل تلك القوانين والأنظمة تظل هناك فئة من الناس تغطي نقصها بسرقة أعمال الآخرين وابداعاتهم ضاربة بذلك القيم النبيلة في الأدب عرض الجدار.
إن عمليات الانتحال بكل أنواعها تدلل على ضعف وقصور الكاتب وعدم قدرته على العملية الإبداعية إلا أنها أيضا تشير إلى ضعف المنظومة الخلقية والقيم الإنسانية التي يتحلى بها. ومن هنا فإن السلوك السيئ للشخص المنتحِل توضح انحلاله الخلقي وضعفه الإبداعي بشكل عام، ويتضاعف جرم الانتحال حينما يطال مجال أدب الأطفال.
لا تهدف الكتابة للطفل إلى كتابة نص إبداعي فقط، فالرسالة التربوية التي يشملها أدب الأطفال تتعدى العملية الأدبية لتصل إلى الأثر التربوي. يشير الكاتب O’sullivan Emer في مقاله المنشور (2011) في مجلة Emer, Comparative Children’s Literature إلى أن أدب الأطفال يختلف عن غيره من الآداب في جانبين. الجانب الأول يتمثل في انتماء أدب الأطفال بشكل تلقائي إلى مجالي الأدب والتربية. فيذكر أننا حينما ندرس أدب الأطفال فإننا نحاول عبر ذلك إيصال قيم ومفاهيم إلى الأطفال. والجانب الثاني يتمثل في أن أدب الأطفال هو الأدب الوحيد الذي يقدم للطفل ولكن يتم العمل عليه وتحديد جميع مراحل انتاجه على يد الشخص الكبير أو البالغ، إذن فهو أدب موجه من الكبير إلى الطفل الصغير.
لقد وُجِدَ أدبُ الأطفال من أجل أن يؤدي دورا تربويا وتثقيفيًا في حياة الأطفال. فهو وسيلة تربوية تعليمية لغرس قيم وفكر يتربى عليه الطفل وليدعم العملية التربوية والتعليمية التي يتلقاها من أهله ومدرسته وبيئته. من هنا فإن عملية الانتحال في أدب الأطفال هي بمثابة سكِّينٍ ذات حدين، تطعن بإحدى حديها العملية الإبداعية في المجتمعات وتطعن بحدها الآخر العملية التربوية فتشوشها وتجعلها غير قادرة على تحقيق الأهداف التربوية التي تستهدفها. فكاتب أدب الأطفال يعتبر بمثابة المعلم الذي ينظر إليه الطفل في حياته كقدوة ومثالٍ يُقتدى به. إذن فدور كاتب الأطفال يتعدى مهمة تقديم منتج أدبي ليشمل دورا مزدوجا كأديب ومربٍ في آن واحد. من هنا فإن هناك رسالة أو أمانه أخلاقية كبيرة يجب أن يتحلى بها كاتب أدب الأطفال تبدأ من الالتزام برسالته كمعلم والمحافظة على طرح مادة إبداعية تكون نابعة منه كإنسان مبدع وليست مادة مسروقة أو منتحلة من إبداعات وعطاءات الآخرين.
تتكون العملية الإبداعية من فكرة ومنتج إبداعي، حيث تقدم الفكرة للقارئ عبر طرح وعرض مُمَيزيْن. الأفكار ليست ملكا لأحد فهناك الكثير من العقول تراودها نفس الأفكار مثل اللجوء، الصداقة، العطاء… وغيرها من الأفكار الإنسانية. إلا أن أسلوب عرض الفكرة وطريقة طرحها لا يمكن أن ترد على عقل بشري واحد بنفس الصيغة والطرح وعبر عدد كبير من الصور والأشكال. قد يحدث تشابه بسيط في جزئية معينة بين كاتب وآخر لكن ذلك التشابه لا يتعدى جزء بسيطًا من العمل الإبداعي. من هنا، فإن ظهر تشابه بين نصين في عدد من جوانب العرض والطرح فليس من الممكن أن يكون ذلك توارد أفكار وإنما ذلك يُسمى انتحالا.
في الوقت الذي ينبغي لكاتب أدب الأطفال – من باب الأمانة الأخلاقية – أن يتحلى في كتابته بالإتقان في طرح المنتج الأدبي، فإنه ينبغي عليه أن يعرف أن عملية الإتقان تتصل بشكل كبير بالعملية الإبداعية التي تنمو وتصقل عبر التعلم والتدرب ومواصلة التعلم من تجارب الآخرين. حينما نقول “أدب الأطفال” فقد يشعر الكاتب أو المتلقي للعبارة أنه كون الأدب موجه للطفل فذلك يعني بأن كل ما نكتبه سيكون ممكنا لأن الطفل حسب ما يطلق عليه في بعض اللهجات المحلية “جاهل” بمعنى طفل. فحينما يكون الشعور أن من نتعامل معه “جاهل” أو طفل لا يعي و لا يفهم – كما هو متعارف عند الكثيرين– فإن ذلك يدعو إلى استسهال في عملية الطرح وإلى كتابة المنتج الأدبي المقدم للطفل بأية طريقة أو أسلوب. هذا الاستسهال يتجلى في أمرين أولهما هو عدم الاهتمام في تعلم أساسيات ومبادئ الكتابة للطفل. فنجد – مع الأسف – أن معظم الكتاب في العالم العربي لم ينخرطوا في دورات تعليمية لتطوير الذات حول أسلوب الكتابة للطفل، وحتى لو انخرطوا فإن غالب تلك الدورات تكون من الضعف بحيث لا تقدم شيئا. لهذا فإن الاقتصار على دورة أو دورتين تدريبيتين من غير تنويع في مقدم تلك الدورات أو الورش أو المادة المطروحة يجعل الواحد يدور كما تدور الطاحونة في نفس المحور. الأمر الثاني هو أنه بالرغم من أن عملية الخوض في مجال أدب الأطفال أو أي أدب لا ينبغي أن تكون مقتصرة على خريجي الأدب أو التربية، فإن كاتب أدب الأطفال – بغض النظر عن تخصصه – لا بد أن يكون شخصا ذا فهم ودراية بشؤون الطفل وخصائصه. من هنا فإن الكتابة للطفل تتطلب فهمًا لأبعاد شخصية الطفل وكيفية تعلمه والتعامل مع خياله. إن مسألة إتقان العمل تعتبر جزء من العملية التربوية والتعليمية التي لا بد أن تكون كذلك جزء لا يتجزأ من شخصية كاتب أدب الأطفال لأنها تنعكس بشكل كبير على المنتج الذي يقدمه الكاتب للطفل. وعبر هذا المنتج الذي يراعي العمل الإبداعي ابتداء من الفكرة وانتهاء بالأمور المادية المحسوسة كالورق وغيرها فإن الذوق العام في مجال أدب الأطفال يرتفع، وينعكس بالتالي على النهوض بأدب الأطفال.
وأخيرا، إن ما يحز في النفس أن بعض دور النشر في عالمنا العربي تقبل نشر أعمال منتحَلة أو أعمال لا تراعي الإبداع في الطرح. ولا يقتصر هذا على دور النشر، فحتى الجوائز العربية في أدب الأطفال تُمنح أحيانا لأفكار غير أصيلة أو مبدعة أو لأعمالٍ استولت على جهود الآخرين. كما أن انعدام المعايير الجيدة في اختيار العمل يؤدي إلى التساهل في الكتابة للطفل وبالتالي انتشار أدب خالٍ من الإبداع والأصالة، وبروز عقبة كأداء في طريق الرقي بأدب الطفل. كما أن هذا التساهل يساهم في انتشار أدب لا يمت إلى أدب الطفل بصلة ولا يخدم الأهداف التربوية والفنية والابداعية، ناهيك عن مخالفة بعض تلك الأعمال للقيم الفنية والأخلاقية والذوق العام. إننا بحاجة ماسة إلى النظر فيما يُكتب ويُقدم للطفل العربي… فقبل الشروع في نشر الأدب الذي يستهين بعقلية الطفل أو يقلل من أهميته فلا بد لنا من إعادة النظر!