Image Not Found

أصالة الرحمة في الوجود ( 5 – 10)

Views: 15

هلال بن حسن اللواتي – الوطن

(5)

تأثير الرؤية العرضية الأفقية على النظرة إلى ( الرسالة ) : فأما من جملة تأثير هذه الرؤية على(الرسالة) هو فصل الدين السماوي عن كثير من مظاهر الحياة، وعن كثير من فعاليات الإنسان، ويمكن أن تظهرها هزيلة وغير قادرة على إدارة شؤون حياة الإنسان لافتقارها لتعاليم وإرشادات السير والسلوك في هذا الجانب، بل وستفصلها حتى عن (مرسلها)، فلا توجد لها علاقة به سوى في عالم محدود بحدود التشريعات الدينية بالمعنى الأخص، والأمر بديهي أن تؤثر بهذا التأثير إذ أن هذه الرؤية أقرب إلى الرؤية الأحادية التجزيئية للحياة، ومن هنا أتهم الدين السماوي بأنه (أفيون الشعوب)، ونادى أصحاب هذه الرؤية بضرورة (عزل الدين عن إدارة الدول)، وذلك لأنه غير قادر على تلبية متطلبات الإنسان، وخاصة وهو يعيش تطورا ملحوظا في حياته تحقيقا لحضارته، فرسالة السماء في نظر هؤلاء تعتبر محدودة جدا في مفرداتها، وفي أفقها، وفي أطروحاتها.

وكما بينا بأن وضع تعاليم الدين السماوي في عرض الأفكار الوضعية الأمر مجحف في حقها، وغير منصف إياها أيضا، فهل يمكن وضع رأي عبقري في عرض رأي طفل لا يكاد أن يفهم معاني مفردات حروف كلماته!!، فإن الإنصاف يقضي بتبيين مقام الرأي العبقري بما يستحقه، ويمكن ذكر الرأي الآخر من باب الإنصاف في الإيراد لما ورد في البين، لا من باب كونه في عرض مقام الرأي العبقري، وهذا يعني أن لا نتعامل مع الرأيين بتعامل متساو بل؛ فإن هذه المفارقات تفرض بذاتها على كل باحث منصف أن يتعامل معها بمعاملة طولية، ولكليهما . أي التعامل . مفرزات و آثار ونتائج مختلفة على منهج البحث، وعلى ما سوف يقدمه هذا المنهج من نتائج أيضا في سياق منطق أفكاره، فلذا نجد من الضروري أن ينقح المطلب في هذه المرحلة جيدا، ومن بعدها يتمكن المرء من الخروج بنتائج يطمئن إليها ويركن إليها.

ومما تأثر من هذه النظرة القياسية (رسالة السماء)، فحكمنا عليها بمجموعة من الأحكام التي انتزعناها من واقع تجربتنا الحياتية، ومن خلال تعاملاتنا الوضعية البشرية، الأمر الذي أثر على قبول الرسالة السماوية بشكل مطلق، وأثر في فهمها واستيعابها، وأثر في الأخذ منها والاعتماد عليها.

وقد شاهدنا في المدارس والكليات والجامعات عرض الدين الإسلامي في مستوى وعرض المدارس الفكرية والعقدية، الأمر الذي يشعر الطالب أن هذه المدارس كلها في عرض واحد، فمن أيها شاء أن يأخذ من الفكر والعقيدة والسلوك لم يكن هناك أي ضير من أصل!!، وهذا الأمر غير صحيح، لأن اطلاقات هذه المدارس مختلفة، فلا تشابه بينها بلحاظ مصدرها، فلا يمكن فرض التساوي والعرض بينها أبدا.

الأنموذج (ب): الرؤية العرضية الأفقية إلى (رسول) الله تعالی، جرت العادة بين كثير من الأعلام ولدى الكثير من النخب الفكرية البحث في تاريخ الأنبياء بنحو عرضي، ونقصد منه أنهم يقومون بدراسة شخصيات الممثلين عن الله تعالى في الأرض ودراسة أفكارهم وسلوكياتهم وجميع ما يصدر منهم بالنظر إليهم في عرض أنفسهم وذواتهم هم، أي تكون النظرة قياسية إلى ذواتهم وأحوالها وبكل خصائص هذه النفس والذات، وهذا المنهج هو المعتمد الأساس لديهم، ومنه ينطلقون في معرفتهم بعد ذلك إلى معرفة العلاقة بين هؤلاء الانبياء والرسل والأوصياء وبين الجهة المعينة لهم وهي جهة السماء، فهذا المنهج يحوي بالتحليل على مرحلتين مترتبتين تلو الأخرى .. وسيأتينا الكلام في ذلك في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالی.

(6)

المرحلة الأولى: النظرة القياسية، وهي النظر إلى النبي أو الرسول كإنسان مثلنا، وهي ما عبرنا عنها بالنظرة أو الرؤية العرضية الأفقية، فنحكم عليه مثلما نحكم على أنفسنا، وننظر إليه مثلما ننظر إلى ذواتنا، وقياسه على الذات والنفس يعني: أن أسبغ عليه أحكاماً قد انتهيت أنا فيها بالحكم على نفسي أولاً، فهذه النظرة إلى النبي أو الرسول تنطلق أولاً وبالذات من النظرة إلى الذات والنفس.

وظهور مثل هذه النظرة في مرحلتها البدوية غير منفصلة عن تكوين الإنسان الفطري من حيث المفهوم؛ لكون الإنسان ينطلق من عالم (المادة) ومن مفرزاته، حيث يقيس الأشياء والموجودات على وجوده المادي، ويلبسها لباسها، فإن (القوة العقلية) متأخرة وجوداً في مملكة النفس، وبالتربية والترويض تنطلق العقلية في رفع المستوى الفكري لدى الفردإلا أن البقاء عند عالم المادة؛ وعدم إعطاء العقلية موقعها الذي ينبغي أن تحصل عليه يعد عملاً كارثياً، لأن هذا سيعيق التقدم الفكري للإنسان، ويحجم تفكيره فيه، ومثله كمثل الإنسان في مرحلة طفولته، والتي من أهم خصائص هذه المرحلة أن توجد جسراً مادياً في معارفها، فلا تعرف المراحل الأولى ما يعرف بعالم (المجردات)، فلذا يضطر العقل في هذه المرحلة من الاستناد على التفاحات الثلاث لمعرفة العدد (3)، وأما أن يتعرف على هذه العدد مجرداً فإن المرحلة تأبى عليه ذلك، وهذا الأمر طبيعي، إلا أن تظل مرافقةً لهذا الإنسان إلى مراحله المتقدمة من العمر فهذا غير مقبول لدى العقل، بل ومرفوض لديه.

وتكمن الخطورة أن يكبر الإنسان ويظل عقله رهينا لسجن (عالم المحسوسات)، ولا يتجاوزه إلى (عالم المجردات)، وهذا الأمر يؤثر عليه في رؤيته ونظرته إلى (الانبياء والرسل)، فالنظرة القياسية التي بدأت في عالم طفولته لم تنفك عن هذا الإنسان، ويظل يقيس بما لديه من معارف حسية على كل المعارف العقلية المجردة، والتي منها ما عليه النبي أو الرسول من موقع الانتماء إلى (عالم التجرد والغيب)، ومن الطبيعي أن تخرج نتائجه موافقة لمقدماته، فإن النتيجة تتبع أخس المقدمات.
المرحلة الثانية: النظرة الوصفية، وهي النظر إلى النبي أو الرسول كإنسان له علاقة بالسماء، فيوصف بالنبوة أو الرسالة أو الإمامة، وهذه المرحلة كما نجدها تنطلق من الأسفل إلى الأعلى، أي من إنسانية الأنسان ثم إلى نبوة الإنسان.

تأثير الرؤية العرضية الأفقية على النظرة إلى (الرسول): من الطبيعي أن يؤثر هذا المنهج في رؤية الإنسان ذو الرؤية العرضية الأفقية على (رسالة) الله تعالى، ويؤثر أيضاً على من يعتبر ممثلاً عن (الله) تعالى في خلقه وبين عباده.

إن الحكم على (الرسول) بما تفرزه (النظرة القياسية) سيحمل معه جميع أحكام الإنسان الاعتيادي، وسيفرغه على هذا (الممثل الإلهي) الرسمي، وسيسبغ عليه بثوبها، وسيسقط عليه ما يعانيه من الصفات والأحكام، ولكن .. هل ستكون النظرة الوصفية كفيلة لإزالتها؟!، فهذا ما سوف نتعرف عليه إن شاء الله تعالى في الحقلة المقبلة.

(7)

لقد قلنا أن للنظرة القياسية إلى رسول الله تأثيراً غير صحيح، وانهينا الحلقة بتساؤل وهو: هل ستكون النظرة الوصفية كفيلة لإزالة النظرة القياسية أم لا؟!.

الجواب: كلا؛ لأنها ستظل غير قادرة على مفارقة النظرة القياسية عن هذه الرؤية، نعم ستضطر إلى تغييرها ببعض الاستثناءات، والتي سيكون مصدرها (النص)، مع الحرص على عدم المعارضة مع النظرة القياسية التي تتبناها هذه الرؤية ضمن ذلك المنهج، فالنبي في رؤية هذا المنهج إنسان؛ وحاله حال سائر البشر، فالخطأ منه وارد كما هو وارد من جميع البشر، وإذا نسب إلى السماء بوصفه نبياً فغاية ما يمكن الحكم على ما سيصدر منه من الأخطاء هو الحكم بالاستحالة في جهة التشريع؛ لأنه سيسبب انتفاء غرض البعثة والإرسال، وأما أن يصدر منه الخطأ في سائر موارد الحياة فيظل الحكم الأولي حاكماً وغير قابلٍ للزوال أو التغيير أو الحذف لأنه ـ لدى أتباعها وبكل بساطة ـ لا يؤثر في التشريع من أصل.

فلاحظ الفصل الغريب لدى هذا المنهج وهذه الرؤية لمفهوم (الخطأ) قياساً لــ(رسول الله) و(نبي الله) وذلك بين استحالة صدور الخطأ في عالم التشريع وبين إمكانية صدوره في غيره!، وما هذا الفصل سوى من مناشئ (الرؤية العرضية الأفقية) التي بيناها لك، فهذا المنهج وما عليه من الرؤية المختصة به ينظر إلى (الرسول) نظرة ازدواجية، فذات (الرسول) تقبل الحمل الازدواجي فهو مستحيل الصدور لخطأ بلحاظ التشريع، وممكن الصدور لخطأ بلحاظ عدم التشريع!، فكيف يمكن الجمع بينهما؟!.
أضف إلى ما ستعكسه هذه النظرة (الازدواجية) على تعامل الفرد والمجتمع مع (رسول الله) تعالى، فإن البديهة العقلية تقودنا إلى أن القول بأن الفرد والمجتمع سيتعامل مع (الرسول) كما يتعامل مع سائر الناس العرفيين الذين يحتمل أن تصدر منهم الأخطاء والشبهات، ولازمه أن يكون (الرسول) مورداً لنقد الفرد والمجتمع، وهذا من الطبيعي أن يؤدي به إلى إلى التقليل من شأنه، وإلى إهانته، وإلى استحقاره، وإلى إذلاله، بل وقد يؤدي به إلى تهميشه في سائر موارد الحياة، وإلى عدم اعتباره، وإلى عدم الاعتناء به، وسيؤدي هذا الأمر إلى أخذ سائر أفراد المجتمع زمام قيادة وإدارة هذا النبي وهذا الرسول!، فيكون قيادياً في الأمر التشريعي ويكون مقوداً في سائر شؤون الحياة!، والطبيعة البشرية ذاتاً حسبما هي مجبولة ومفطورة ترفض مثل هذا الفصل في أية شخصية كبيرة في المجتمع من الشخصيات العرفية، فكيف والحال مع شخصية تمثل (الله) تعالى في أرضه وبين عباده؟!.

وبالرجوع إلى مقدمات الحكمة لبعث (الرسل) و(الرسالة) يكون لازماً هذا نقضاً لغرض البعثة من أصل، فلنتصور أن رسولاً سماوياً يؤخذ برأيه التشريعي باحترام، وفي سائر شؤون الحياة قد يستهزئ به ويذل ويستحقر من قبل أبناء المجتمع!، حقاً إن مثل هذه الرؤية بهذا المنهج لا تؤدي إلا إلى خلق إرباك وحيرة لدى أبناء المجتمع في كيفية التعامل مع هذا الموصوف بــ(رسول السماء)!.

(8)

إنّ ما تقدم من المسائل حول الرؤية العرضية الأفقية على النظرة إلى (الرسالة والرسول): فإننا فإذا أردنا أن نقبل بهذه الرؤية فلابد من أن نقبلها بعلاتها، وبمفرزاتها، وبلوازمها الذاتية، وأن نتقبلها رغم ما فيها من ثغرات يمكن النفاذ منها إلى شخصية (الرسول والنبي) فتطعن فيه كيفما شاءت، ولكن.. سترد هنا بعض التساؤلات وهي: هل يمكن للعقل البشري أن يقبل هكذا رؤية بما فيها من خلل؟!، وهل سيتمكن للإنسان العرفي الاعتيادي أن يتعامل مع هكذا شخصيات؟!، وهل ستنجح تجربة الأنبياء والرسل في مجتمع نظرته إليه نظرة مزدوجة، وتعامله ليس تعاملاً كما يستحق (الممثل الإلهي)؟!، وهل قدرة الإنسان العرفي سايكلوجيا تتمكن من التعامل مع هكذا شخص أم لا؟!.

إن الإجابة واضحةٌ جداً، ومنشؤها الطبع البشري وما تحكم عليه الفطرة من أحكام التعامل مع الناس والمحيط، ولكن .. لِمَ نستبق الجواب، فلنترك للرؤية الأخرى أن تبدي ما لديها من النظرة من خلال منهجها الآخر، ومن ثم نتمكن من وضع أيدينا على المنهج الصحيح أو المنهج الأصح إن شاء الله تعالى، ولنستعن لمعرفة ذلك بقاعدة (الأشياء تُعرفُ بأضدادها).

وأظن إلى هنا نكتفي من الحديث عن الرؤية العرضية وما يرد عليها من الايرادات والاشكالات، والأن سوف ننتقل إلى معرفة الرؤية الطولية الهرمية، وتنطلق هذه (الرؤية الطولية الهرمية) من (المرسِل) أولاً وبالذات، وتنظر في أحواله من الأسماء والصفات، ومن ثم تتدرج من قمة مورد اهتمامها وهدفها وحسب المنهج الذي تتبعه إلى متعلقاتها الأساسية التي فيها تتجلى مظاهر التواصل مع سائر العباد.

العالم الإلهي: فإن أول ما سيصب الاهتمام في هذه المرحلة هو على:الطبيعة الوجودية لصانع الوجود، وصفاته وأسمائه، وشؤون هذا الصانع.

ومن جملة ما سيبحث الإنسان في هذا الصانع هو:هل هذا الصانع كاملٌ أم ناقص؟، وإذا كان ناقصاً .. فهل هناك من هو كامل مطلق أم لا؟، وهل يمكن للوجود أن يخلو من الكامل المطلق؟.

وبعد الانتهاء من التعرف عليه وعلى جميع متعلقاته وشؤونه سوف يتحول البحث إلى معرفة صناعته وخلقه، ومن جملة ما سوف يقوم العقل بالبحث عنه هو: هل لهذا الصانع علقة بالمصنوع أم لا؟، وهل لهذا المصنوع علقة بهذا الصانع أم لا؟، ثم سيرد هذا السؤال: هل لهذا الصانع تواصلات مع خلقه؟.

وإذا ثبت وجود التواصل فسيتحول السؤال إلى: وكيف هي هذه التواصلات؟وإذا ثبت عدم وجود أي تواصل فإن السؤال سيكون: لماذا لا توجد تواصلات بين الصانع والمصنوع؟بل سيرد سؤال أكثر أهمية وأسبق رتبة وهو: هل من الضروري أن تكون هناك تواصلات بين الصانع والمصنوع أم لا؟

ولعل سؤالاً آخر سيكون متقدماً عليه رتبة، وهو: وهل هناك ضرورة تستدعي وجود علاقة بين الصانع والمصنوع بعد الصنع أم لا؟.ولعل هناك سؤالاً آخر مهمٌ جداً، ويفرض وجوده على الإنسان، ويدعوه للتأمل والتفكير الجاد، وهذا السؤال هو:هل يمكن للمصنوع أن ينفصل عن صانعه؟، وهل يمكن للمخلوق أن ينفصل عن خالقه؟.

إن هذه الأسئلة وشبهها تفرض وجودها على الذهن البشري، وتبحث لها عن أجوبة شافية، ورغم أن معظم الأسئلة التي ذكرت خارجة عن محل بحثنا، وتتطلب فتح ملفات تختصها، إلا أن هذا لا يمنع من الإشارة إليها خلال الحلقات إن شاء الله تعالى.

(9)

إنّ ما تقدم من المسائل حول الرؤية العرضية الأفقية على النظرة إلى (الرسالة والرسول): فإننا فإذا أردنا أن نقبل بهذه الرؤية فلابد من أن نقبلها بعلاتها، وبمفرزاتها، وبلوازمها الذاتية، وأن نتقبلها رغم ما فيها من ثغرات يمكن النفاذ منها إلى شخصية (الرسول والنبي) فتطعن فيه كيفما شاءت، ولكن.. سترد هنا بعض التساؤلات وهي: هل يمكن للعقل البشري أن يقبل هكذا رؤية بما فيها من خلل؟!، وهل سيتمكن للإنسان العرفي الاعتيادي أن يتعامل مع هكذا شخصيات؟!، وهل ستنجح تجربة الأنبياء والرسل في مجتمع نظرته إليه نظرة مزدوجة، وتعامله ليس تعاملاً كما يستحق (الممثل الإلهي)؟!، وهل قدرة الإنسان العرفي سايكلوجيا تتمكن من التعامل مع هكذا شخص أم لا؟!.

إن الإجابة واضحةٌ جداً، ومنشؤها الطبع البشري وما تحكم عليه الفطرة من أحكام التعامل مع الناس والمحيط، ولكن .. لِمَ نستبق الجواب، فلنترك للرؤية الأخرى أن تبدي ما لديها من النظرة من خلال منهجها الآخر، ومن ثم نتمكن من وضع أيدينا على المنهج الصحيح أو المنهج الأصح إن شاء الله تعالى، ولنستعن لمعرفة ذلك بقاعدة (الأشياء تُعرفُ بأضدادها).
وأظن إلى هنا نكتفي من الحديث عن الرؤية العرضية وما يرد عليها من الايرادات والاشكالات، والأن سوف ننتقل إلى معرفة الرؤية الطولية الهرمية، وتنطلق هذه (الرؤية الطولية الهرمية) من (المرسِل) أولاً وبالذات، وتنظر في أحواله من الأسماء والصفات، ومن ثم تتدرج من قمة مورد اهتمامها وهدفها وحسب المنهج الذي تتبعه إلى متعلقاتها الأساسية التي فيها تتجلى مظاهر التواصل مع سائر العباد.

العالم الإلهي: فإن أول ما سيصب الاهتمام في هذه المرحلة هو على:الطبيعة الوجودية لصانع الوجود، وصفاته وأسمائه، وشؤون هذا الصانع.

ومن جملة ما سيبحث الإنسان في هذا الصانع هو:هل هذا الصانع كاملٌ أم ناقص؟، وإذا كان ناقصاً .. فهل هناك من هو كامل مطلق أم لا؟، وهل يمكن للوجود أن يخلو من الكامل المطلق؟.

وبعد الانتهاء من التعرف عليه وعلى جميع متعلقاته وشؤونه سوف يتحول البحث إلى معرفة صناعته وخلقه، ومن جملة ما سوف يقوم العقل بالبحث عنه هو: هل لهذا الصانع علقة بالمصنوع أم لا؟، وهل لهذا المصنوع علقة بهذا الصانع أم لا؟، ثم سيرد هذا السؤال: هل لهذا الصانع تواصلات مع خلقه؟.

وإذا ثبت وجود التواصل فسيتحول السؤال إلى: وكيف هي هذه التواصلات؟وإذا ثبت عدم وجود أي تواصل فإن السؤال سيكون: لماذا لا توجد تواصلات بين الصانع والمصنوع؟بل سيرد سؤال أكثر أهمية وأسبق رتبة وهو: هل من الضروري أن تكون هناك تواصلات بين الصانع والمصنوع أم لا؟

ولعل سؤالاً آخر سيكون متقدماً عليه رتبة، وهو: وهل هناك ضرورة تستدعي وجود علاقة بين الصانع والمصنوع بعد الصنع أم لا؟.ولعل هناك سؤالاً آخر مهمٌ جداً، ويفرض وجوده على الإنسان، ويدعوه للتأمل والتفكير الجاد، وهذا السؤال هو:هل يمكن للمصنوع أن ينفصل عن صانعه؟، وهل يمكن للمخلوق أن ينفصل عن خالقه؟.

إن هذه الأسئلة وشبهها تفرض وجودها على الذهن البشري، وتبحث لها عن أجوبة شافية، ورغم أن معظم الأسئلة التي ذكرت خارجة عن محل بحثنا، وتتطلب فتح ملفات تختصها، إلا أن هذا لا يمنع من الإشارة إليها خلال الحلقات إن شاء الله تعالى.

(10)

تأثير المنهج الطولي الهرمي على طبيعة فكر الباحث: ومن طبيعة هذا المنهج الذي ينطلق أساساً من قمة الهرم الوجودية وهو (الله) تعالى أن يترك أثره في رؤيته ونظرته إلى ما سيصدر منه سبحانه، وهو سيغير مسار الفكر والرؤى لدى الناس، وسيقودهم تبعاً إلى السير على صراط سليم لا تخدش معالمه، فأول ما سيرد في البين التساؤل الآتي:

من هو (الله) سبحانه؟، ومنه سوف ترد أسئلة من قبيل وكيف يتواصل مع العباد؟، وسترد في البين تلكم الأسئلة التي سبقت حول التواصل وعدمه، وكيفيته، وإمكانيته، وشموله، وبما أننا هنا نريد أن نتعرف على العلاقة القائمة بين (المرسِل)، و(رسالته)، و(رسله)، فإننا سوف ننطلق من الحديث عن العلقة بين (المرسِل) و(رسالته)، بإذنه تعالى، ونؤكد أن فهم هذه العلقة ضرورية جداً، إذ من خلال هذا الفهم سوف تتضح لنا معالم (الرسول)، ومستوى علاقته بــ(الرسالة)، وبــ(المرسِل) أيضاً.

العلاقة بين (المرسِل) و(الرسالة): ولعل أول سؤال مهمٍ الذي يبحث في العلاقة القائمة بين (المرسِل) و(الرسالة) هو: ترى هل ستكون هذه (الرسالة) المُنَزَّلَة حاكيةً عن علم الله تعالى، أم لا؟!.

ومن الطبيعي أن تتلوه مجموعة من الأسئلة وهي تتمحور حول السؤال المتقدم، من قبيل: 1ـوهل ستكون هذه (الرسالة) معرفةً لله تعالى ولأسمائه ولصفاته أم لا؟!، 2 ـوماذا نتوقع من هذه (الرسالة) أن تحمله من المعارف والعلوم؟.
الجواب: أول ما يمكن أن نقوله هو الرسالة الإلهي حاكية عنه سبحانه وتعالى، فإن الجواب الوجداني المنطقي البديهي هو: من المستحيل أن لا تكون تحمل هذه الرسالة النازلة من الله تعالى تعريفه سبحانه، أو أن تكون غير حاكيةٍ عنه وعن صفاته وأسمائه، وغير مبينة لمعارفه.

وهذه الاستحالة مبنية على أساس: 1 ـ وجدانية اجتماعية: فإننا نشاهد بين الخطابات ورسائل الملوك والحكام الموجهة إلى شعوبهم وبين هؤلاء الملوك والحكام علقة أكيدة، وعلى هذا يبنى الارتكاز العرفي في المجتمع تعاملاته مع هكذا رسائل ذات الطابع الرسمي، 2 ـ السنخية والتناسب: فإن للخطابات الإلهية علقة حقيقية واقعية بـ(مرسلها)، وليس لها علقة اعتبارية.

إن أيّ(رسالة) أو (كتاب) يكتبه الإنسان سواء كان رسمياً أو شخصياً فإنه يعكس بشكل عام نظرة ورؤية صاحبه، وهذا المسألة وجدانية ولا أحد يختلف عليها من البشر، ولذا قامت الأعراف الدولية والبشرية على التعامل مع صاحب الرسالة أو الكتاب من خلال ما كتبه وسطره على الورقة، وإنه صحيح أن الألفاظ باعتبار المعتبر إلا أنها في واقعها تكشف عن علاقة بينها وبين كاتبها، وتؤكد على انتمائها إليه، ونحن ننظر إلى (الرسالة) الإلهية من خلال نفس المنظور العرفي البشري، فإنها من الطبيعي أن تكشف عن صاحبها، وتبين معارفه والطبيعة الوجودية، وكمالاته.

ومن الطبيعي أيضاً أن تكون (رسالة الله) تعالى حاكية عنه، وكاشفة عن المعارف العميقة التي هي له سبحانه، وبما أنها تكون موجهة إلى الإنسان فإنها ستكون واضحة المعالم، ومن الطبيعي أن تتمتع بخصائص فريدة من نوعها، فهي من وجهها الإلهي لا بد وأن تحوي على معارف صاحبها، ومن وجهها الآخر لا بد وأن تكون بمستوى يستطيع الإنسان استيعابها، والرسالة بهذه الصفة لا يمكن أن تصدر من الإنسان، فهذا من المحالات الذاتية، والوجه فيه الاستحالة هو لأن فاقد الشئ لا يعطيه.