صَادِقْ حَسَنْ اَللَّوَاتِي
مَفْهُومُ حِوَارِ اَلْحَضَارَاتِ أَصْبَحَ مِنْ اَلْمَفَاهِيمِ اَلْأَكْثَرِ تَدَاوُلاً بَيْنَ اَلْبَاحِثِينَ وَالْمُفَكِّرِينَ وَالسِّيَاسِيِّينَ ، حَيْثُ أَصْبَحَ اَلْحِوَارُ وَتَبَادُلُ اَلثَّقَافَاتِ اَلْإِنْسَانِيَّةِ بَيْنَ اَلْحَضَارَاتِ اَلْمُخْتَلِفَةِ أَمْر لَيْسَ مِنْهُ مَفَرٍّ . وَهَذِهِ اَلْمُمَارَسَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَلْعَبَ دَوْرَهَا إِلَّا بِالتَّفَوُّقِ وَالتَّعَايُشِ اَلْحَضَارِيِّ فِي رَفْعِ مُسْتَوَى اَلْعَلَاقَاتِ بَيْنَ اَلشُّعُوبِ ،
وَالسُّؤَالُ اَلَّذِي يَفْرِضُ نَفْسَهُ : مَا هِيَ أَكْثَرُ اَلْحَضَارَاتِ اِنْتِشَارًا فِي اَلْعَالَمِ اَلْيَوْمِ ؟ حَسَبَ اَلْإِحْصَائِيَّاتِ أَنَّ اَلْحَضَارَةَ اَلْمَسِيحِيَّةَ أَكْثَرَ اِنْتِشَارًا مِنْ اَلْحَضَارَةِ اَلْإِسْلَامِيَّةِ حَيْثُ يُمَثِّلُ اَلْمَسِيحِيُّونَ 31 % مِنْ عَدَدِ سُكَّانِ اَلْعَالَمِ وَيَأْتِي اَلْمُسْلِمُونَ فِي اَلْمَرْتَبَةِ اَلثَّانِيَةِ حَيْثُ يُمَثِّلُونَ 23 % مِنْ عَدَدِ سُكَّانِ اَلْعَالَمِ .
مَجَلَّةُ اَلْأَنْدَلُسِ لِلْعُلُومِ اَلْإِنْسَانِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي عَدَدِهَا 12 بِتَارِيخِ 15 – أُكْتُوبَرُ 2015 م ذَكَرَتْ ” أَنَّ اَلْإِسْلَامَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَوْرًا بَارِزًا فِي حِوَارِ اَلْحَضَارَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَشْرُوعًا وَاضِحًا ” .
وَنَحْنُ نَسْأَلُ هَلْ فِعْلاً لَا يُوجَدُ مَشْرُوعٌ فِي اَلْإِسْلَامِ بِالنِّسْبَةِ لِحِوَارِ اَلْحَضَارَاتِ ؟ اَلْجَوَابُ مَشْرُوعَ حِوَارِ اَلْحَضَارَاتِ مَوْجُودٌ فِي اَلْإِسْلَامِ وَلَكِنْ اَلْمُسْلِمُونَ لَمْ يُقَدِّمُوا لِلْعَالَمِ هَذَا اَلْمَشْرُوعِ بِنُسْخَتِهِ اَلْأَصْلِيَّةِ . لِمَاذَا ؟
قَبِلَ اَلْإِجَابَةَ عَلَى هَذَا اَلسُّؤَالِ تَعَالَوْا مَعِي لِنَتَعَرَّفَ عَلَى هَذَا اَلْمَشْرُوعِ وَكَيْفَ بَدَأَ .
أَعِيرُونِي اِنْتِبَاهَكُمْ يَا سَادَةً . لِأَنَّ اَلْمَوْضُوعَ مُهِمٌّ سَيَأْخُذُنَا إِلَى مَرْحَلَةِ صَدَّامْ اَلْحَضَارَاتِ ثُمَّ إِلَى بُرُوزِ اَلْعَوْلَمَةِ وَمَشْرُوعِ اَلْمَهْدَوِي اَلْعَالَمِيَّ .
بَدَأَ ت اَلدَّعْوَةَ اَلْإِسْلَامِيَّةَ ضِمْنَ رِسَالَتِي ، اَلرِّسَالَةُ اَلْمَكِّيَّةُ اَلْأُولَى وَالرِّسَالَةُ اَلْمَدَنِيَّةُ اَلثَّانِيَةُ ، اَلْأُولَى اِسْتَمَرَّتْ عَشَرَ سَنَوَاتٍ لَمْ يَعْتَنِقْ فِيهَا اَلْإِسْلَامُ سِوَى نَيِّفٍ وَمِئَة مِنْ اَلْعَبِيدِ وَالْفُقَرَاءِ ،
وَهَذِهِ اَلْمَرْحَلَةُ كَانَتْ اَلْمَرْحَلَةُ اَلتَّأْسِيسِيَّةُ اَلْأَصْلِيَّةُ وَلَكِنْ لَيْسَتْ عَلَى مُسْتَوَى اَلتَّشْرِيعِ ، فَلَا تُوجَدُ فِي اَلرِّسَالَةِ اَلْمَكِّيَّةِ شَرَائِعَ مِثْل أَحْكَامِ اَلْحُرُوبِ وَالْغَنَائِمِ وَتَوْزِيعِهَا ، فَالْإِسْلَامُ بَدَأَ غَرِيبًا لِأَنَّهُ لَا تُوجَدُ هُنَاكَ دَوْلَةُ وَالرَّسُولُ ( ص ) لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ ، إِذْنُ اَلْغَرَابَةِ أَيْنَ كَانَتْ ؟
كَانَتْ فِي اَلتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ ، هَذِهِ اَلْأُصُولِ هِيَ أُسُسٌ بُنِيَ عَلَيْهَا اَلْإِسْلَامُ ، وَهِيَ اَلرِّسَالَةُ اَلْمَكِّيَّةُ اَلْأُولَى . سُؤَالٌ : مَنْ كَانَ يَسْمَعُ صَوْتَ مُحَمَّدْ ( ص ) وَهُوَ يَدْعُو إِلَى اَلتَّوْحِيدِ ؟ اَلْجَوَابُ : سُكَّانُ مَكَّةَ وَضَوَاحِيهَا بِمَعْنَى جَمِيعِ أَصْحَابِ اَلدِّيَانَاتِ اَلْإِبْرَاهِيمِيَّةِ مِنْ اَلْمَسِيحِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالدِّيَانَاتِ اَلْأُخْرَى كَالْهِنْدُوسِيَّةِ وَالْكُونْفُوشِيَّةِ وَالزَّرَادُشْتِيَّةِ ، إِضَافَةٌ إِلَى اَلْوَثَنِيَّةِ . فَمُحَمَّدْ ( ص ) هَلْ بَعَثَ لِلْمُوَحَّدِينَ أُمٍّ لِغَيْرِ اَلْمُوَحِّدِينَ ؟ اَلْمُوَحَّدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَبِالْمُعَادِ لَا يَحْتَاجُونَ لِدَعْوَتِهِمْ لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِالْمُعَادِ .
إِذْنُ مَاذَا بَقِيَ لِلْمُوَحِّدِينَ كَيْ يَعْتَنِقُوا اَلْإِسْلَامُ ؟ اَلْجَوَابُ : اَلْإِيمَانُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدْ ( ص ) ، وَهَذَا اَلْإِيمَانُ مَاذَا يَحْتَاجُ لَهُ مِنْ اِسْتِعْدَادَاتٍ ؟ يَحْتَاجَ لَهُ قَوَاعِدُ شَرْعِيَّةٌ وَأَحْكَامُ اَلتَّعَايُشِ . سُؤَالٌ : هَلْ هَذَا كَانَ مُمْكِنًا فِي اَلْعَهْدِ اَلْمَكِّيِّ أَنْ يُبْرَمَ اَلرَّسُولُ ( ص ) مَعَ أَصْحَابِ اَلدِّيَانَاتِ اَلسَّمَاوِيَّةِ اِتِّفَاقَ أَمْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا ؟ اَلْجَوَابُ : طَبْعًا لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا ، لِأَنَّ قُرَيْشَ كَانَتْ لَهَا اَلْيَدُ اَلطُّولَى وَالْمُهَيْمِنَةِ عَلَى جَمِيعِ مَفَاصِلِ اَلْحَيَاةِ فِي مَكَّةَ .
عَلِمَا أَنَّ اَلرَّسُولَ ( ص ) خِلَالَ اَلْعَهْدِ اَلْمَكِّيِّ أَقَامَ عَلَاقَاتٍ وَطِيدَةً مَعَ اَلْقَبَائِلِ اَلْمَسِيحِيَّةِ كَنَصَارَى نَجْرَان وَمِنْ تَنَصَّرَتْ مِنْهَا مِنْ قَبَائِلَ قُرَيْشِ مِثْلٍ بَنِي أَسَدٍ خِلَالَ فَتْرَةِ اَلتَّجَمُّعَاتِ اَلتِّجَارِيَّةِ وَفِي رِحْلَةَ اَلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، وَهَذِهِ اَلْعَلَاقَاتُ أَعْطَتْ ثِمَارَهَا مَا أَنْ وَطِئَتْ قَدَمَاهُ اَلشَّرِيفَتَانِ أَرْضُ اَلْمَدِينَةِ ، حَيْثُ بَدَأَ دَوْرُ اَلرِّسَالَةِ اَلْمَدَنِيَّةِ اَلثَّانِيَةِ . بِنَى اَلرَّسُولِ ( ص ) اَلْمَسْجِدُ وَأَعْطَى لِلْمَسِيحِيِّينَ حَقَّ إِقَامَةِ شَعَائِرِهِمْ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلنَّبَوِيِّ ،
وَكَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ اَلْقُبْلَةُ مِنْ جِهَةِ اَلْمَشْرِقِ فِي صِلَاتِهِمْ ( دَلَائِل اَلنُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ ج 5 ص 382 ) هَذَا اَلْعُمْقِ فِي اَلِاتِّصَالِ اَلدِّينِيِّ مَعَ اَلْمَسِيحِيَّةِ أَعْطَى دَفْعَةً قَوِيَّةً فِي تَثْبِيتِ اَلْعَلَاقَاتِ بَيْنَ اَلْمُوَحِّدِينَ ، حَتَّى قَالَ اَلرَّسُولُ ( ص ) لِعَلِي يَوْمًا ” أَنَّ لَكَ شَبَهًا بِعِيسَى ” ( شَرْحُ نَهْجِ اَلْبَلَاغَةِ ج 4 ص 105 ) فَأَحَبَّهُ اَلنَّصَارَى وَأَبْغَضهُ اَلْيَهُودِ .
وَلَمَّا دَعَا اَلرَّسُولُ ( ص ) وَفَدَ نَصَارَى نَجْرَانِ إِلَى اَلْإِيمَانِ بِهِ كَرَسُولِ بَعَثَ إِلَى اَلْعَالَمَيْنِ رَفَضُوا فَطَلَبَ مَبَاهْلَتْهَمْ رَفَضُوا أَيْضًا ، فَقَالُوا لَهُ ” أَتُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكُ كَمَا عَبَّدَ اَلنَّصَارَى عِيسَى اَلْمَسِيحِ ” فَقَالَ ( ص ) ” مُعَاذْ اَللَّهِ أَنَّ أَمْرَ بِعِبَادَتِي ” فَوَقَعَ مَعَهُمْ مُعَاهَدَةً وَأَصْدَرَ وَثِيقَةً تُسَمَّى بِوَثِيقَةِ اَلْمَدِينَةِ ( تَارِيخُ اِبْنْ هِشَامْ ج 1 ص 341 ) وَاعْتَبَرَتْ سَارِيَةً اَلْمَفْعُولِ عَلَى جَمِيعِ مُوَاطِنِي اَلدَّوْلَةِ اَلْإِسْلَامِيَّةِ ، نَذْكُرُ بَعْضُ أَهَمِّ بُنُودِهَا :
1 – مَبْدَأُ اَلتَّعَايُشِ ” اَلْمُوَاطَنَةِ ” بَيْنَ جَمِيعِ شَرَائِحِ اَلْمُجْتَمَعِ اَلْإِسْلَامِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ اَلْمُجْتَمَعَاتِ .
2 – اَلتَّكَافُلُ اَلِاجْتِمَاعِيُّ .
3 – اَلْمُحَافَظَةُ عَلَى أَمْنِ اَلدَّوْلَةِ وَالْمُجْتَمَعِ .
4- مَبْدَأُ اَلْمُسَاوَاةِ فِي اَلْإِدَارَةِ اَلذَّاتِيَّةِ .
5 – مَبْدَأُ اَلدِّفَاعِ اَلْمُشْتَرَكِ .
6 – مَبْدَأُ حُرِّيَّةِ اَلِاعْتِقَادِ وَتَقْرِيرِ اَلْمَصِيرِ .
7 – مَبْدَأُ سِيَادَةِ وَحَاكِمِيَّةِ اَلرَّسُولْ مُحَمَّدْ ( ص ) .
بِهَذَا تَكُونُ هَذِهِ أَوَّلَ وَثِيقَةٍ دُسْتُورِيَّةٍ مَدَنِيَّةٍ سِيَاسِيَّةٍ اِجْتِمَاعِيَّةٍ حُقُوقِيَّةٍ يُوَقِّعُهَا أَوَّلَ نَبِيِّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اَللَّهِ عَلَى مُسْتَوَى اَلْعَلَاقَاتِ اَلدَّوْلِيَّةِ فِي تَارِيخِ اَلدَّوْلَةِ اَلْإِسْلَامِيَّةِ وَتُظْهِرُ إِلَى اَلْوُجُودِ وَتَنْسَجِمُ مَعَ اَلْفِطْرَةِ اَلْإِنْسَانِيَّةِ وَتَكُونُ لَهَا آثَارٌ قَانُونِيَّةٌ مُلْزِمَةٌ .
وَهُوَ أَوَّلُ مَشْرُوعِ حِوَارِ اَلْحَضَارَاتِ عَلَى مُسْتَوَى اَلْعَالَمِ تَمَّ إِقْرَارُهُ فِي اِتِّفَاقِيَّةِ لَاهَايْ بَيْنَ عَامَيْ 1899 م و 1907 م كَوَثِيقَةٍ مَدَنِيَّةٍ فِي حُوَارَالْحَضَارَاتْ وَكَقَانُونِ دَوْلِيٍّ فِي حِفْظِ اَلْحُقُوقِ اَلْبَشَرِيَّةِ ( مَحْمُودْ شَرِيفْ بَسْيُونِي – اَلْوَثَائِقَ اَلدَّوْلِيَّةَ اَلْمَعْنِيَّةَ بِحُقُوقِ اَلْإِنْسَانِ – اَلْمُجَلَّدِ اَلثَّانِي ) .
وَقَدْ حَقَّقَ هَذَا اَلْمَشْرُوعِ اَلْحَضَارِيِّ مَصَالِحَ جَمِيعِ اَلْأَطْرَافِ فِي اَلْحَضَارَاتِ اَلْمُخْتَلِفَةِ وَتُوَافِقُ عَلَيْهِ اَلْجَمِيعَ ، وَاَلَّذِي حَالَ دُونَ وُقُوعِ اَلصِّدَامِ بَيْنَهُمْ قُرُونًا عَدِيدَةً .
إِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، سُؤَالٌ : مَا اَلَّذِي دَفَعَ بِهَذَا اَلْحِوَارِ إِلَى اَلصِّدَامِ بَيْنَ اَلْحَضَارَاتِ اَلَّذِي نَرَاهُ فِي عَصْرِنَا اَلْحَاضِرِ ؟
هَذَا اَلسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ سَأُجِيبُ عَلَيْهِمْ فِي اَلْحَلْقَةِ اَلْقَادِمَةِ ( صَدَّامْ اَلْحَضَارَاتِ وَإِخْفَاقَاتِ اَلْمَرْجِعِيَّةِ اَلدِّينِيَّةِ ) .
إِلَى اَللِّقَاءِ .