مُحمَّد بن رضا اللواتي – الرؤية
لأوَّل مرة، رُبما، اضطرت دولٌ بكل أحجامها وإمكاناتها، أنْ تُمارس فنَّ إدارة الأزمة، بتمَام أحجامِها وإمكاناتها، هَذا منذ أن خرج “كوفيد 19” يتنزه بين البشر، وإذا به يُغلق الكرة الأرضية برُمتها، حتى إنَّ صديقا علَّق يقول بأنه طالما كان يتساءل عن معنى: “يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه”، تساؤلً غير خالٍ من عدم قناعة؛ إذ كيف للمرء أن يهرب من ذويه؟ ولماذا؟ وأيُّ شأن ذاك من الممكن أن يجعله يفر من والدته مثلا؟ وإذا به، يرى تأويل تلك الآية في الدنيا قبل الآخرة!!
وما يهمُّنا هو الأسلوب الذي اتبعناه نحن العمانيين في إدارة هذه الأزمة، التي تجاوزت البُعد الصحي لتشمل: الاجتماعي والاقتصادي. يجب الاعتراف بأنَّ التجربة كانت جديدة علينا، ومن المُتوقَّع لكل تجربة جديدة أنْ تواجه في مَسيرتها الميدانية عثرات ما، هنا وهناك، إلا أنَّ الأمر في إجماله قد فَاق نجاحه التوقعات؛ فالخطوات التي اتبعتها اللجنة العليا للتعامل مع هذا الوباء قد حازتْ إشادات عالمية، لا سيما عندما تمَّ عزل ولاية مطرح عن باقي مناطق السلطنة؛ فلقد رَاود حينها الناس شعورٌ غير مسبوق، بالجدية التامة والحزم الشديد، لوأد بؤر هذا الفيروس، والذي اتخذته الجهات المعنية؛ مما جعلهم يمتلؤون شعورًا بالأمن والأمان، وكأنهم وُضعوا في حصن حصين، يحُول دون وصول المرض إليهم، ولسان حالهم ينادي برفيع الصوت بأنَّ المعزولين هم الفائزون.. وإلا، فالله وحده العالم إلى ماذا كانت ستؤول إليه الأحوال، بعد اكتشاف البؤر، وتركها دونما ردم. وما من شك أنَّ هذا أيضًا سيكون لسان حال المناطق التي -ربما- قد يقع عليها خيار العزل.
الجُهود المُضنية التي تبذلها وزارة الصحة في التعامل مع الأزمة، وما يقوم به أولئك الجنود المجهولون الذين اتخذوا موقع مواجهة الفيروس في الخط الأول، لا شك، قد حظي بتقدير لا نظير له، ولن يمضي الوقت طويلا حتى تأتي اللحظة التي سيجد فيها المجتمع العُماني بكافة مؤسساته المدنية، أنه يستطيع الآن أن يُعبر عن عميق امتنانه لهم، ولا أروع من الاهتمام التام بهذا التخصص العلمي المهم عبر تخصيص ميزانية أوفر لهذا القطاع، أولا، ورفع المخصصات المالية للعاملين فيه من الأطباء وغيرهم، ثانيا.
رغم صعوبة الحال، المشُوب بمشاعر تتوقَّع الأسوأ في قادم الأيام، إلا أنَّنا وجدنا أن التكاتف والتناغم الاجتماعي العُماني ينبض بالحياة؛ فعصب الحياة متاح عندما نكون في مسيس الحاجة إليه، وها هي سبعة وعشرين مليونا من الريالات العمانية -حتى كتابة هذه الأسطر- قد حصدها حساب وزارة الصحة لمكافحة الجائحة، بل إنَّ صندوق الأمان الوظيفي أيضا كانت له حصة من تلك التبرعات. ولا يزال الناس في انتظار لمعرفة اختصاصات هذا الصندوق ووقت تفعيله، وتُخالجهم أمنية أن يجدوا على رأس إداراتها ممن لم تمتلئ المقاعد بهم، فُعمان ما عَقِمت عن إنجاب العقول الفذة.
نهضنَا كذلك، على واقع يُؤكد أنَّ العقول العُمانية قادرة على الابداع، وفي أحلك الأوقات، فوزارة التجارة والصناعة دعتْ كافة المبدعين العُمانيين من باحثين ومبتكرين إلى تقديم ابتكارتهم المتعلقة بعلاج الفيروس المستجد؛ سواء كان هذا عبر اكتشاف العلاج أو الكشف المبكر أو إنتاج أجهزة مساعدة، بل كل المبادرات التي تخدم القطاع الصحي. يُذكِّرني هذا بجولات فريق جريدة “الرؤية” منذ سبعة أعوام وإلى يومنا هذا، في أرجاء السلطنة من أقصاها إلى أقصاها، يدعو المبدعين إلى تقديم إبداعاتهم في شتى الحقول، يبدو أن الأوان قد آن، لاعتبار أن هذه الجولات، للجريدة هذه، يجب أن تؤخذ بتمام محامل الجد.
مُعقِّمات الأيدي العُمانية أخذت تتدفق، وبخلاصة اللبان كذلك، وقسم الكيمياء في بعض الشركات الكبرى، تمكن من تصنيعها في غضون 3 أيام، ووزارة الصحة العُمانية تعاقدت مع شباب من عُمان لابتكار أجهزة التنفس، وآخرين ابتكروا تطبيقًا يتتبع المحجوزين في العزل الصحي، وجميعة خيرية تبرَّعت بمبادرة توزيع حواسب آلية للطلاب من فئة الضمان الاجتماعي، ومؤسسة عُمانية في مجال التكنولوجيا استثمرتْ في مشاريع عمانية ضمن مبادرة المليون ريال، تصبُّ كلها في إطار التغلب على الجائحة المستجدة. علاوة على أن عددا التجار أوقفوا مبانيهم كاملة تحت تصرف وزارة الصحة من أجل استخدمها في العزل المؤسسي.
وزارة التربية والتعليم، والتي أبتْ طوال السنوات الفائتة -وفق البعض- من التفكير حتى في مشاريع إدخال عنصر التكنولوجيا الجاد في نظام التعليم العماني بشكل من الأشكال، إذا بها تُحِيل التعليم لتتم ممارسته “عن بُعد”! جامعة السلطان قابوس التي علَّقت الدراسة في بادئ الأمر، عادت لتُعلن أنها قد أحالتها إلى “عن بُعد” كذلك! وربما كان التعليق في البداية عائدًا إلى غياب البنى الأساسية لخدمات توافر الإنترنت في بعض مناطق السلطنة؛ مما يدعو هيئة تنظيم الاتصالات لأن تتحمَّل مسؤوليتها كاملة للتأكد من توافر هذه الخدمة التي باتت عصب الحياة العصرية، في كافة أرجاء السلطنة.
من جانبه، القطاع الخاص، وبنسبة جيدة منه، أحال فئة من الموظفين لأداء الأعمال من خلال المنزل؛ أكان هذا كله مُمكن التحقق؟ بل أكان التفكير فيه حتى مُتاحا ما قبل هذه الجائحة؟ أكنا فعلا ننادي المبدعين العُمانيين بالظهور كما فعلنا الآن؟
لنطوِ الصفحات الفائتة، فأمامُنا عمل مضنٍ، وجاد للغاية، لأجل تعافي الاقتصاد العماني، وهو التحدي الأكبر اليوم أمامنا؛ بالايمان بطاقاتنا المتجددة التي لم تنضب، ومنحها فرصة البروز والتفكير خارج الصندوق؛ لإيجاد الحلول المتسقة مع الوتيرة التي يمضي بها العصر.
والحق يُقال، إن علينا أن نفتخر بأنَّ الحزم التي أبدتها اللجنة العليا في مكافحة الجائحة، ووقوف الجهات المعنية المختلفة معها، قد ألهب مُختلف قطاعات السلطنة، سواء بالتوافق أم الاضطرار، إلى المُضي قُدما نحو التفكير بطريقة مختلفة، نرجو لها البقاء والاستمرار، وليس التبدد بخمود عنفوان هذه الأزمة.
وما يتمنَّاه الناس اليوم، أن يتم اتخاذ القرارات الضرورية للتغلب على الجائحة، اليوم وليس بعد غد.