مرتضى حسن علي – الرؤية
تقلَّد جلالة السُّلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- الحكم بتاريخ ٢٣ يوليو عام ١٩٧٠، وفِي فجر يوم السبت الموافق ١١/١/٢٠٢٠ أفاق العمانيون على خبر مفجع أليم، حيث نعى ديوان البلاط السلطاني الشعب العُماني، خبر انتقال السلطان قابوس إلى الرفيق الأعلى عن عمر يناهز ٧٩ عامًا.
وفاة جلالة السُّلطان قابوس أتت بعد نهضة شاملة، أرسى دعائمها خلال ٥٠ سنة من خلال مسيرة شملت عُمان من أقصاها إلى أدناها، اتبع خلالها سياسات مُتزنة، شهد لها العالم أجمع وهو الثامن من أسرة آل سعيد التي أسسها الإمام أحمد بن سعيد عام ١٧٤١، وتعد من أقدم الأسر الحاكمة في العالم العربي.
كانت عُمان قبل استلام جلالته الحكم، بلدا متأخرا بكل المقاييس، كانت هناك ثلاث مدارس ابتدائية وثلاثة مستوصفات تابعة للإرسالية الأمريكية، ونحو عشرة كيلومترات من الطرق المُعبدة، أما الخدمات الأخرى فكانت شبه منعدمة. كان الجزء الجنوبي من عُمان يُعاني من حركة ماركسية مسلحة تهدد منطقة الخليج بأسرها، وفي ١٩٧٥، وبمساعدة القوات الصديقة تم القضاء على الحركة المسلحة، ليركز بعدها جهوده لخوض حرب أخرى أكثر خطورة، وهي الحرب ضد الفقر والجهل والمرض، فعين مجلسًا للتنمية وضع أول خطة تنموية شاملة لعُمان الحديثة “١٩٧٦-١٩٨٠.”
ومنذ أن تقلد مقاليد الحكم، أصدر جلالته عفوا عن كل المعارضين لحكم والده، سواء في داخل عُمان أو خارجها، كما دعا جميع العُمانيين في الخارج للعودة إلى بلادهم، والمساهمة في بناء عمان جديدة.حرص أيضًا على توحيد العمانيين جميعهم، بغض النظر عن مذاهبهم وأصولهم ومعتقداتهم، فوضع بذلك أول حجر في بناء الدولة العُمانية الحديثة. ثم غير اسم عُمان من سلطنة مسقط وعمان إلى اسم سلطنة عمان، وكل هذه الخطوات مهدت لمسار تحقيق السلم الاجتماعي، ووضع حدا لمخاطر الانقسام بين صفوف العُمانيين عبر جمعهم نحو هدف اهتمام واحد ومشترك، وهو الانتماء إلى عُمان كوطن لكل العمانيين بدون تفرقة. بدأ أيضًا بتطوير الجهاز الإداري للدولة، وتحويله إلى أداة دمج وتماسك العمانيين بكافة أطيافهم ومعتقداتهم، مؤمنًا بأن الدين لله والوطن للجميع. وفي عام ١٩٨١ اتخذ خطوة أخرى لبناء مؤسسات الدولة الحديثة بطريقة متدرجة، فتم إنشاء المجلس الاستشاري، وتم تعيين كل الأعضاء لتقديم الاقتراحات للحكومة، ثم تم استبداله في عام ١٩٩٠ بمجلس الشورى، عبر انتخاب أعضائه عن طريق انتخابات محدودة، وبعد ذلك عن طريق الانتخاب الكلي في عام ١٩٩٧. وفي نفس السنة تم إنشاء مجلس الدولة الذي ضم عناصر من كل فئات المجتمع العُماني، مدنيين وعسكريين، من أجل الاستماع إلى مقترحاتهم.
كرس الفقيد الراحل جهوده لتحقيق صالح عُمان ومواطنيها. قاد عُمان دولة ومجتمعا، وحقق لها الأمن والأمان والاستقرار والازدهار. ورغم ما كانت تشهده المنطقة من صراعات، فقد حرص الفقيد الراحل على اتباع سياسة الحياد إزاء الكثير من القضايا الإقليمية والدولية المعقدة، ارتبط بعلاقات صداقة مع معظم دول العالم، ركّز على شؤون عمان الداخلية وتجنب التدخل في شؤون الدول المجاورة. كان من مؤسسي مجلس دول التعاون الخليجي وحرص على اتباع سياسة الحياد بين كافة الأطراف الخليجية، كما لعب دور الوسيط في الكثير من النزاعات في المنطقة، ولا سيما تلك المتعلقة بإيران المجاورة، كموقف عُمان المحايد من الحرب العراقية الإيرانية. ذلك الحياد ساعده على استضافة المحادثات السرية في مسقط لإنهاء حرب الثماني سنوات بين البلدين. قامت عُمان لاحقا بالتوسط في العديد من الأزمات الدبلوماسية التي كانت إيران طرفًا فيها، وفي نفس الوقت قاومت الضغوط التي يمكن أن تفرض قيودا على استقلالها السياسي.
وبسبب علاقات عُمان المتوازنة بين الولايات المتحدة وإيران، استطاعت أن تقنع الطرفين بإجراء محادثات سرية في مسقط، تلك المحادثات التي تُوجت بالاتفاق النووي، وهو الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس ترامب لاحقاً في عام ٢٠١٨م. ولهذا السبب حرص كثيرون من قادة العالم على الاستئناس برأي السلطان الراحل.
من الصعوبة بمكان ذكر جميع محاسن وإنجازات ومناقب الراحل الكبير، الذي تمكن من تجنيب بلاده مآسي الحروب العبثية التي اندلعت في عهده، فكان العنوان الأبرز لسياساته الحكمة والعقلانية، ولذلك شعر كل عُماني أنه أصيب في الصميم عندما سمع خبر وفاته. حاولت السلطنة أن تبتعد عن سياسة المحاور واتخاذ دور المحايد الراغب في حل المشاكل. وحتى عندما كانت تختلف، فإنها كانت تبدي رأيها في منتهى الكياسة.اتبعت سياسة التوازن في علاقاتها الداخلية والخارجية.
وبسبب بعد نظر السلطان الراحل، لم يرغب أن يترك أي فراغ في السلطة بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى. وهكذا أصدر في ٦ نوفمبر عام ١٩٩٦ القانون الأساسي للدولة حيث تضمنت المادة السادسة منه:
” يقوم مجلس العائلة الحاكمة، خلال ثلاثة أيّام من شغور منصب السلطان بتحديد من تنتقل إليه ولاية الحكم. فإذا لم يتفق مجلس العائلة الحاكمة على اختيار سلطان البلاد، قام مجلس الدفاع بتثبيت من أشار بِه السلطان في رسالته إلى مجلس العائلة.”
ولهذا السبب تم حسم موضوع انتقال الحكم بسرعة أذهلت المراقبين،عبر اتفاق بين أفراد الأسرة الحاكمة بتطبيق وصية جلالة السلطان الراحل التي تليت في اجتماع لمجلس الدفاع الأعلى وبحضور رئيس المحكمة العليا واثنين من أقدم أعضائه ورئيسي مجلسي الدولة والشورى.غلبت السلاسة والتواضع على عملية نقل الحكم وتم اختيار جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور، بثت وعلى الهواء مباشرة. وقبل مراسم الدفن أدى جلالة السلطان هيثم بن تيمور “اليمين القانونية” أمام مجلس عمان الذي يضم كلاً من مجلسي الدولة والشورى سلطانًا جديدًا لعُمان، وذلك بموجب النظام الأساسي للدولة. بعد ذلك جرت مراسم الدفن التي لم تتأخر كثيرا. وكانت عملية الدفن ذاتها في منتهى البساطة والتحضر واقتصرت على أبناء عمان .
قال جلالة السلطان الراحل في أول خطاب له بعد تقلده الحكم:”أيها الشعب سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم سعداء لمستقبل أفضل، وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب.”
وفي أول خطاب لجلالة السلطان هيثم بن تيمور أمام مجلس عمان أثناء تنصيبه سلطانا جديدا لعمان، قال:
“إن الأمانة الملقاة على عاتقنا عظيمة والمسؤوليات جسيمة وعلينا جميعا أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه وأن نسير قدما نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل ولن يتأتى ذلك إلا بمساندتكم وتعاونكم وتضافر جميع الجهود للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى وأن تقدموا كل ما يسهم في إثراء هذه الجهود.”
كما تعهد جلالته بمواصلة ذات النهج الذي اتبعته عُمان في سياساتها الخارجية التي وصفها بالتعايش السلمي والحفاظ على العلاقات الودية مع كل الدول، داعيًا في كلمته إلى بذل الجهود لتنمية البلد والسير على نهج سلفه جلالة السلطان قابوس- طيب الله ثراه-.
ودّعت عُمان سلطانها الراحل بكل مظاهر الحزن والأسى، حيث رأت فيه كل الخير والعطاء وكل الحب والوفاء، سلطان سوف يعيش في ضمائر الشعب وفي أحلامه.
وعمان وهي تستقبل عهدها الجديد، فإنها واثقة أن السلطان هيثم بن طارق بن تيمور سيواصل طريق سلفه، مدركاً أن عمان تواجه مشاكل وتحديات تختلف عن تلك التي واجهتها في عام ١٩٧٠. وبسبب المزايا العديدة للسلطان هيثم، فإنَّ عمان تشعر بثقة أوفر بنفسها وتتمتع بقدرة أكبر على الحوار المستمر مع الأطراف والأحداث والأزمان، كما ترى أن من حقها وواجبها أن تُراجع تجاربها وخياراتها، لأن المراجعة الأمينة حساب يجمع ويطرح، وهو في النهاية يضيف منجزات أو يضيف خبرات ويصبح تراكمها أرصدة توفر الطمأنينة ويساعدها على المساهمة بشكل أكبر على تحمل رسالة أوسع. وعمان كدولة عريقة وتقع في منطقة استراتيجية متوترة، ترى من حقها وواجبها أن تبني نفسها وتحمي وجودها دون أن تهدد أحدا وتحاول أن تصون السلام لها ولمن حولها بقدر ما تقدر وتطيق.