حيدر بن عبدالرضا اللواتي – عُمان
[email protected] –
تتفاقم قضايا الطاقة في العالم الغربي نتيجة لتوفرها لدى بعض الدول وعدم تواجدها في دول أخرى. فهذا الأمر يؤدي أحيانا إلى حصول صراعات بين الدول الغربية للحصول على الطاقة خصوصا إذا كان ذلك لا يتوافق مع التوجهات الجديدة لأمريكا في العالم. ومؤخراً تفجّر الصراع بين دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها ألمانيا من جهة، وبين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى في مسألة الطاقة بشأن الغاز الروسي. فالبرغم من التحذيرات التي وجهتها أمريكا للحكومة الألمانية بعدم الاستمرار في السماح لخط أنابيب الغاز الروسي المتجه إلى أوروبا «نورد ستريم 2» بالوصول إلى ألمانيا، إلا أن دول الاتحاد الأوروبي ومعها ألمانيا ماضية في مساعيها للحصول على الغاز الروسي. وإزاء ذلك أقر مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخرا قانوناً يتضمن عقوبات على هذا الخط الذي من المتوقع أن يفتح مزيداً من العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الطرفين مستقبلاً.
وجاء إقرار القانون الأمريكي بأغلبية ساحقة كما أوردتها وكالات الأنباء العالمية بواقع 86 مقابل 8 أعضاء بعدما أقره مجلس النواب الأمريكي في الأسبوع الماضي، في الوقت الذي نددّت فيه دول الاتحاد الأوروبي وبرلين بالعقوبات التي تريد أمريكا فرضها على الشركات التي تنجز هذا المشروع، معتبرة أن ذلك يمثّل تدخلاً أمريكيا في سياسة الطاقة الأوروبية. وقانون العقوبات الأخير يحتاج إلى اعتماده من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يمر اليوم بمحنة بسبب خلافه مع الديمقراطيين والاتهامات التي وجهت إليه في مجلس النواب نتيجة اتصالاته مع الرئيس الأوكراني لاستغلال سلطته لتحريك تحقيقات فساد ضد منافسه المحتمل جو بايدن في الانتخابات الأمريكية المقبلة.
الكونجرس الأمريكي يرى أن أنبوب الغاز الروسي سوف يعزّز نفوذ موسكو في أوروبا مستقبلا، ويفتح مزيداً من العلاقات والقنوات السياسية والاقتصادية بين الكتلة الأوروبية وروسيا، فيما سبق لبعض سفراء أمريكا في عدة دول أوروبية شريكة لألمانيا في الاتحاد الأوروبي أن طالبوا بدعم مقترحات تشريعية استهدفت وضع ضوابط وتنظيم لهذا الخط المثير للجدل. HYPERLINK «https://www.dw.com/ar/الاتحاد-الأوروبي-يتبنى-تسوية-فرنسية-ألمانية-حول-الغاز-الروسي/a-47432426»
وفي حال اعتمادها من الرئيس الأمريكي فإن العقوبات الأمريكية المحتملة من المتوقع لها أن تسري على الشركات والأفراد المتعاملين، بالرغم من أن هذا الموضوع مستبعد جداً في هذه الظروف. ويأتي ذلك في إطار محاولات الحكومة الأمريكية بالحد من النفوذ الروسي على سوق الغاز الطبيعي في أوروبا الذي سيبدأ سريانه اعتبارا من بداية العام المقبل 2020 بنقل كميات من الغاز مباشرة من روسيا إلى ألمانيا.
الضغوطات الأمريكية في هذا الشأن بإقرار العقوبات المحتملة تأتي بهدف تعطيل العمل في هذا المشروع وتوقيف بقية الأشغال التي يمكن تحقيقها، حيث تشير البيانات إلى إنجاز 80% من أعمال المشروع قبل أشهر مضت، فيما بقي القليل لتنفيذه ليبدأ تشغيله في بداية العام المقبل، مع مضاعفة شحنات الغاز الروسي التي تحتاج إليها ألمانيا وبقية الدول الأوروبية مستقبلاً. فهذه الدول غير مقتنعة بالتهديدات والعقوبات التي تريد أمريكا فرضها على الشركات والأفراد، وترى أن ذلك يشكل تدخلاً أمريكياً في سياساتها ومدى حاجتها من الطاقة للأغراض الاقتصادية والمؤسساتية والشخصية للأفراد. وقد أعرب وزير الخارجية الألماني هايكو ماس مؤخرا عن أمله في الحيلولة دون فرض تلك العقوبات مطالبا مجلس الشيوخ الأمريكي بعدم الاستجابة لتلك التهديدات من خلال تغريداته المستمرة، معتبراً أن أي قرار لمجلس النواب الأمريكي في هذا الشأن يعتبر أمراً غير مقبول في حق ألمانيا والدول الأوروبية، ومؤكداً في الوقت نفسه بأن أي «تجاوب سوف يؤثر على القرارات المستقلة المتخذة من الدول الأوروبية، قائلا أن ألمانيا ترفض التدخل الخارجي والعقوبات خارج الحدود من حيث المبدأ».
وفي هذا الاتجاه، كان للمفوض الأوروبي فيل هوغان المكلف بملف التجارة رأي صريح في هذا الموضوع، هو أن بروكسل «تعارض فرض عقوبات على أي شركات أوروبية تقوم بصفقات تجارية شرعية»، مضيفا أن «هدف المفوضية الأوروبية كان دائما التحقق من أن أنبوب نورد ستريم 2 يعمل بشفافية ودون تمييز». أمريكا وبعض الحلفاء مثل أوكرانيا وبولندا يرون أن أنبوب الغاز الروسي يمثل تهديداً لأمن الطاقة في القارة الأوروبية، بجانب أنه يعتبر استفزازا تمارسه الحكومة الروسية لزيادة نفوذها في المستقبل، الأمر الذي سيزيد من ارتهان الأوروبيين للغاز الروسي، في الوقت الذي تناصفت فيه الاستثمارات في هذا المشروع الحيوي الذي يبلغ قيمته 10 مليارات دولارات، نصفها تأتي من مجموعة غازبروم الروسية ونصفها الآخر من خمس شركات أوروبية، في الوقت الذي يشارك في تنفيذه عدد من الشركات الألمانية لبناء المسار البالغ طوله 1200 كيلومتر بين منبع الغاز ومحطته الأخيرة عبر بحر البلطيق.
أمريكا ترى أن تحقيق هذا المشروع سوف يجعل دول الاتحاد تعتمد على روسيا في تأمين الطاقة، وأنه يمثل الخطر للشركات الأوروبية، وينتج عنه خسارة السمعة والعقوبات التي ستكون مرتبطة به. فهناك عدة شركات مساهمة في هذا المشروع بجانب شركة «غازبروم» الروسية لتنفيذ خط أنابيب الغاز «نورد ستريم2»، حيث وقعت الشركة الروسية اتفاقات تمويل مع شركتي «فينترشال» و« أونيبر» الألمانيتين وكذلك شركة «شل» الهولندية-البريطانية وشركة «إنجي» من فرنسا ومجموعة « أو إم في» من النمسا.
الاتهامات الأمريكية لألمانيا مستمرة كنوع من الضغوطات على هذه الدولة، ومنذ مدة مضت يتهم الرئيس الأمريكي ترامب ألمانيا بأنها «أسيرة» لموسكو بسبب اعتمادها على الطاقة الروسية، ويحثها على وقف العمل في خط هذا الأنبوب، بينما ترى ألمانيا أنه لا يمكن لأمريكا خارج حدودها تطبيق قوانينها على الآخرين، خاصة وأن الاتحاد الأوروبي قام بمراجعة ما يسمى بالقاعدة التوجيهية بشأن الغاز التي يمكن لها أن تتيح للمفوضية الأوروبية وضع ضوابط لأجزاء من خط أنابيب الغاز الموجودة بالفعل قيد الإنشاء، مثل عدم السماح بأن يكون مورد الغاز هو نفسه مشغل الخط في الوقت ذاته.
الموضوع بدأ اليوم يأخذ أبعاداً عديدة في الدول الأوروبية تجاه نوايا موسكو في تصدير الغاز الروسي، حيث نقلت إحدى الصحف الفرنسية عن مصادر داخل الحكومة الفرنسية أن باريس تعتزم التصويت ضد المشروع، باعتبار أنها لا تريد زيادة الاعتماد على روسيا، مع استمرار الإضرار بمصالح دول الاتحاد الأوروبي. لكن لم يأت التأكيد أو النفي من جانب الحكومة الفرنسية في هذا الشأن، ولا رد فعل من قبل برلين إزاء ما تضمّنه تقرير الصحيفة. وفي مثل هذه الحالة ستكون هناك أبعاداً جديدة في الموضوع، في الوقت الذي تعتقد فيه ألمانيا أن محاولات أمريكا بانتقاد هذا المشروع وتعارضها يأتي لأسباب تجارية، لأنها تفضل تسويق صادراتها من الغاز إلى أوروبا. والأخبار القادمة تشير إلى أن مجموعة (أو.إم.في) النمساوية للنفط والغاز أعلنت مؤخرا بأن ما يقرب من 25% من خط أنابيب غاز «نورد ستريم 2» جاهزة للعمل.
نقول إنه في مثل هذه المشاريع الضخمة والحساسة هناك صراع دائم من أجل المصالح التجارية للدول الكبرى، ولكن المتغير في هذا الموضوع هو وجود روسيا من جهة، وألمانيا من جهة أخرى، الأمر الذي لا يمكن من خلاله إصدار أية قوانين أو اتخاذ إجراءات مضادة تجاههما، وتصعيد مزيد من الصراعات السياسية والاقتصادية الضارة للعالم والاقتصاد العالمي الذي يمر بمحن اقتصادية. فالمصالح التجارية تبحث دائما عن المخارج المناسبة لاستمرار الناس والشركات في تعاملاتهم اليومية، وهذا ما بُني عليه خط الغاز «نورد ستريم 2» الذي من المؤكد أن الكثير من دول الاتحاد الأوروبي سوف تنتفع منه في أعمالها الصناعية، في الوقت الذي يفتح هذا المشروع الباب لدول أخرى منطقة الشرق الأوسط بفتح خطوط غاز ثانية إلى أوروبا في حال توقف الصراعات العسكرية في المنطقة.
مرتبط