علي بن عبد الحسين اللواتي – الرؤية
تذكر الدراسات المهتمة بشأن الإدارة بإن المؤسسات تعاني من أزمة ما يسمى “الموظف السام” (Toxic Employee). ومن سمات هذا الموظف أنه يسعى لإبراز قدراته لدى المسؤولين من جهة ومن جهة أخرى يعمل على تثبيط المجموعة العاملة معه عن الإنتاج والعمل مما يضمن “للموظف السام” البقاء لأطول فتره ممكنة والترقي في المدارج الوظيفية في الوقت الذي تتحول فيه المؤسسة الى مؤسسة غير منتجة بالشكل المطلوب والعاملين متأثرين بوعي أوبدون وعي بما يخلقه من بيئة عمل سلبية ويتحرك “الموظف السام” بعدة أساليب منها كما ذكر أهل الاختصاص:
“نعم سيدي”.. إنه يتعامل مع رؤسائه في العمل على أساس أنه المنقذ وهو يستطيع فعل ما يعجز عنه الآخرون.
“النمام” وبكل سهولة ويسر مع قوله “نعم سيدي” يسحب البساط من الآخرين بطرح سلبياتهم وإبرازها مما يخلق حاجزا نفسيا لدى الإدارة العليا من الموظفين وبالتالي يشكل إحباطا عاما وترددا في عطائهم العملي والفكري.
البقاء لأوقات طويلة في المكتب حتى من دون أي عمل مفيد لإظهار تواجده.. كما يفعل المروج للإعلان بأن تكرار إظهاره أمام العميل سيبقيه في ذهنه.
انتقاد كل شيء صغيرا كان أو كبيرا مما يخلق بيئة عمل لا تطاق إلا من خلال ما يريد تحقيقه “الموظف السام”.
من المقدمة البسيطة أعلاه أريد أن أتطرق إلى معنى مهم ظهر في الواقع العماني خلال العقود الماضية والذي أدعي بإن جملة من الوافدين استطاعوا التعامل معه بذكاء على حين غفلة من المواطن أيا كان موقعه. لقد استطاع بعض هؤلاء من تنميط المواطن العماني بأنه “لا يعمل وهو غير منتج” ومن خلال تكرار هذه الجملة والشعار استطاعوا أن يزرعوا هذا الفهم وبشكل مرتب وغير مسبوق في عقل متخذي القرار. ومن هنا فإن كل محاولات التعمين كانت غير فعالة لأسباب سنتحدث عنها خلال المقال ولكن السبب الأساسي عدم قناعة القطاع الخاص بل وحتى كثير من متخذي القرار في القطاع العام بجدوى التعمين في مؤسساتهم.
فهل الواقع أن المواطن غير كفءٍ وغير منتج؟ أم أنه تم خلق بيئة ذهنية وعملية لخلق مواطن غير منتج أو لخلق واقع لا يعين المواطن على الإنتاج والعمل؟ وبعد العمل في القطاع الخاص خلال ما يقرب من ثلاثين سنة اتضح أن “تسميم” الأذهان له تأثير مخيف ومفزع رغم ما نرى أن الواقع مغاير لذلك. فإذا سلمنا جدلا بإن المواطن غير مؤهل لعمل معين فالسؤال الذي يطرح نفسه من الذي قام بتعليمه وتدريبه في مختلف المؤسسات؟ أليس هو الضيف الوافد! حينما تلج الى الكليات والمعاهد والجامعات الخاصة ستجد كما هائلا من المدرسين والمحاضرين الوافدين يقومون على التدريب والتأهيل لشبابنا فإن كان مخرجات هذه الصروح العلمية تنتج مخرجات “لا تعمل ولا تنتج” فإن الملام فيها ليس المواطن فقط بل أولئك القائمين على تعليمهم وتدريبهم. ولكننا لم نسمع يوما من الأيام شعار “أن الوافد في العملية التعليمية فاشل”.. رغم أن وزارة القوى العاملة بين فترة وأخرى تغلق معاهدَ لعدم كفاءتها ولم نسمع بشعار يتحدث أن الآسيوي غير منتج في العملية التعليمية. والأهم من ذلك كله هل من مصلحة هؤلاء تأسيس وتأهيل شباب يستطيع سحب بساط العمل من أبناء جالياتهم في المستقبل؟
وكذلك أظن أن كثيرا ممن يقرأ هذه المقالة تعامل بشكل مباشر أو غير مباشر مع شركات الإنشاء والمقاولات أو سمع على الأقل عن مشاكل البناء سواء من ناحية الجودة أومن إتمام العمل ضمن الفترة الزمنية المحددة ولكننا لم نسمع بأن “الوافدين فاشلين وغير ماهرين في مجال البناء”.
والأسوأ من ذلك كله، ففي العقود الماضية أفلست بعض المصارف والشركات الكبرى كبنك الإعتماد والتجارة الدولي وبعض شركات التأمين والتمويل وغيرها ومجموعة من المصانع وكانت إدارتها من الوافدين وخسر الاقتصاد بشكل عام مبالغ كثيرة وفقد المواطنون وظائفهم وأيضا لم نسمع أن “الوافدين فاشلون في إدارة المصارف والمصانع و….”.
بل الأدهى وأمر من ذلك كله، جانب الثقة والأمانة؛ حيث إن كثيرا من التجار يثقون في الوافدين ويأتمنونهم أكثر من المواطن خصوصا فيما يتعلق الأمر بالعمليات النقدية.. وأنا أعتقد جازما بأن جملة ممن يطالع هذه المقالة تورط أو سمع ممن تورط مع الوافدين ضمن ما يسمى بالتجارة المستترة وخسر كل رأس ماله، والأمثلة حاضرة في أذهاننا وأيضا لم نسمع أن “الوافد لا يمكن الوثوق به”. بينما يُشهر بالمواطن في كل مكان ولو كان الجرم محدودا في كمه وكيفه. فالنتيجة إن هذا العمل المدروس والمتقن من بعض الجاليات الوافدة في تنميط المواطن بالقول “إن العماني غير مفيد” وتسميم ذهن متخذي القرار بطريقة ممنهجة مما أدى الى خلق معضلة في أذهان متخذي القرار والقطاع الخاص، وكذلك المواطن ذاته الذي فقد الثقة في نفسه. إن هذا التنميط “العماني لا ينفع في العمل” من جهة وتسميم العقول بهذا الشعار أدى الى تحجيم عملية التعمين ولا يمكن أن تتوسع مهما بذلت الحكومة من المساعي وفتحت الجامعات والمعاهد ما لم يعالج الخلل الحقيقي في إعادة بناء الثقة في جيل الشباب والاهتمام بجودة التعليم والتدريب خارج نطاق هؤلاء الذين لا يريدون التطوير لكوادرنا الوطنية.
على سبيل المثال، كنت أدرس في إحدى الجهات الأكاديمية وبعد الامتحان الأول لم يوفق طالبان في الشعبة من النجاح.. فتحدث معي رئيس القسم محاولا إقناعي بضرورة التساهل معهما بحجة إن هذين الطالبين ظروفهما المالية صعبة وهما موظفان فوقتهما لا يسعفهما للمذاكرة، وكذلك نريد أن تكون نسبة النجاح متميزة… فأجبته: “عزيزي إذا كانت المخرجات هزيلة سوف يأتي زميلك الوافد ويقول ’المواطن لا ينفع في العمل‘”. وقد ذكرني أحد الزملاء بإن هذا المعنى دارج في الأفلام.. فعلى سبيل المثال في السينما المصرية القديمة ولعل الحديث منها أيضا، كانت تظهر أن البواب إما أن يكون صعيديًا أو نوبيًا، وهذا جعل عند الكثير حينما ينظر الى أهل الصعيد الشرفاء بأنهم قليلي الفهم والعقل رغم أن الزعيم جمال عبدالناصر كان منهم.
إن دائرة المشكلة واضحة جدا والحلول ليست بعزيزة ولا تحتاج إلى معجزة، لقد استطاعت بعض الدول الخليجية من التنبه إلى هذه المعضلة من وقت مبكر فلم تسلم زمام الأمور إلى جالية محددة لتستأثر بالسوق وبالقرار، فإن التنوع في جنسيات الوافدين يحول دون خلق كتلة أو قوة يصعب التعامل معها بعكس ما حصل في السلطنة؛ حيث تستحوذ جالية أو إثنتين على 80% من جنسيات الوافدين ويتمسكون بزمام الأمور، وهذا يشكل تحديا كبيرا، لكنه ليس مستحيلا.
إن إعادة الثقة إلى قلب الشباب وخصوصا أولئك الذي لم يتمكنوا من التحصيل الدراسي الجيد وتغيير سلوك أصحاب الأعمال الذين حولوا وللأسف مؤسساتهم مهما كان حجمها إلى تجارة مستترة، وذلك من خلال بذل الوقت والجهد لإزالة تلك الصورة النمطية والمسمومة عن المواطن. ويتعين على المُشرع عدم الاكتفاء بتشكيل اللجان والمناقشات في الغرف المغلقة وإصدار التشريعات التي تؤتي أكلها بعد حين بعيد المنال.. وإنما النزول إلى واقع المشكلة والانخراط بصورة يومية ودائمة مع الجهات الثلاثة “الشباب- القطاع الخاص- متخذو القرار”، بهدف بناء لبنة قوية وفعالة لغسل تلك الأدران آنفة وسيئة الذكر.