محمد بن رضا اللواتي – شرق غرب
يضعُ هذا العدد من هذه المجلَّة الثقافية، بين يدي قُرَّائه، حواريْن مهمَّيْن لشخصيتيْن لهما من الشُّهرَة المقدار الذي يمنحهما مجالهما لأن يَشتَهِرا؛ الأول “أدونيس” الذي يُبحر على مَركب الشعرِ في مُحيط الأدب، يُجدِّف بالنحو الذي يُشبه كما لو كان يعزفُ في واسعِ المحيط، فتَتَهادى على الشُّطآن فنونًا من الأمواج، لا يسعُ المرء إلا أن يُصغِي لها إنصاتًا، وكأنَّه يسمعُ لحنًا مستمدًّا من ألقِ النجوم. والآخر “خنجر حمية” الذي يُحلقُّ على متن التصوُّف والعِرفان صَوْب ميتافزيقا وجودية تملكُ الإجابةَ الدامغة عن سؤال المغزى، والذي يُولد مع الإنسان ويظل لصيقا به، لا يُفارقه ألبتة، مهما ابتعدَ عنه في متاهات الحياة، وإذا بلحظات ضَعف، تجعل الحيرة تعود مجددا.. ليسأل: لماذا؟
ما لوحِظ رابطًا بين الرَّجُلين؛ هو: التجربة الصوفية، مع الفارق أنَّ “حمية” يوجد بينها -ليس فحسب بين أسئلة الوجود الكُبرى، بل وحتى بين التديُّن الطقوسي- علاقة حميمة، بخلاف “أدونيس” الذي يَرَاها ليست طريقة للتديُّن بل للحياة. إنَّه يريد من خلالها أن يُعرِّف نفسه، ويَعْرِف الآخر كذلك. “حمية” يتحدث عن التجربة العرفانية -أو التأملات الروحانية كما يُسمِّيها- لإيجاد التوازن في عالم غارقٍ في اللا معنى، في حين كان “أدونيس” يُحدِّثنا -وهو يرتشفُ القهوة العُمانية- عن الألوهية مقطوعة الصلة بالوحي، ولا عَجَب بعد هذا أن يقبل خبرًا مرويًّا في بطون بعض كُتُب التاريخ التي لم تُحقَّق بعد، عن أنَّ الأنبياء يسرقون وينهبون!
”حمية” في الوقت الذي يرى فيه أنَّ الحداثة وليدة عصر الأنوار، أفضتْ إلى جعل الإنسان سيِّدا للعالم، وأسهمت في فوضى القيم وسقوط الأخلاق، وإذا “بأدونيس” يتحدث عن ضرورة نقل تجربة المجتمع المدني الغربي إلى العالم العربي! أما “داعش”، فهي إفرازٌ للشعور بالثأر، يُعشعش في وجدان الغرب تجاه العرب؛ لما فعلوه بهم في سوالف الأزمان!!
مع “حمية” لم أقع ضحية الأفكار المتضاربة، رُبَّما لأن المنهج الذي يعتنقه هذا المفكِّر -وهو منح الصرامة الفلسفية سُلطة على التأملات الروحية الشاردة، حتى لا تتبعثر في خضم التيارات الفكرية المتناقضة- بينما تتملكني حالة من الميلان، تارة يمينًا، وأخرى يسارًا، مع “أدونيس” وهو مرَّة ينفي عن نفسه تُهمة مُعَاداة الدِّين، لكنه يجعل من الأنبياء يبتكرون نصوصًا مُقدَّسة لتبرير جشعِهم. وأخرى تجعل من المجتمع الغربي مثاليًّا فيما يُطبقه من مساواة، إلا أنه وفي الوقت نفسه يلعب دورَ الضرير بنجاح منقطع النظير؛ فلا يرى كيف يُنجب ذلك المجتمع المثالي حربًا تلو حرب، ويخلقُ أزمةً بعد أخرى، ويصنعُ سلاحًا، ويُلجِم كافة منظمات حقوق الإنسان عن شجب أبشع أنواع الفتك بالأبرياء.
لم أستطع أبدًا أن أفهمَ البؤس العربي حين لا ينطقُ مُعترِضًا على جرائم “داعش” ضد الإنسانية كما يصفها “أدونيس”، وفي الوقت ذاته التوقير الكبير الذي يصبغه على مُجتمع المساواة الغربي، الذي وإن كان له يد في صناعة “داعش” -اعتراف كان مَشُوبًا ببحَّة صَوْت- إلا أنَّ ذلك كان لأجل الاقتصاص من جرائم العرب التاريخية في حقه!
لم أستطع أن أفهم، إطلاقا، ضرورة إعادة قراءة التاريخ المقدَّس، كما يدعو إليه “أدونيس”، فلعلَّ عقولًا صغيرة قرأت خطابًا عظيمًا فسكبته بحجم صِغرها، وفي الوقت ذاته، علينا أن نقبل المرويات مهما كانت شاذة، طالما تتوافق مع ما نميل إليه من توجُّه لا صلة له بالتحقيق والبحث والاستدلال!
سيبقَى الرجلان مفكريْن، ومبدعيْن، ووجهيْن للتنوع الفكري الهائل الذي غَمَس العالم العربي رأسه فيه؛ لدرجة أنك ترى في أطروحاتهما كيف أنَّ الروح تُعانق العقل، كما كيف يتناقض العقل مع نفسه.. فهل هذا هو سر الإبداع وسبب الإعجاب؟
سؤالٌ.. تسقط الإجابات على عتباته مُنهَكَة من شِدة التَّعب.