عباس آل حميد – شرق غرب
من نحن؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ماضون؟ وهل يمكننا التحكم بحياتنا ومصيرنا؟ كيف؟ هذا ما تتمحور حوله المنظومة الفكرية الإسلامية.
تنبثق الرؤية الإسلامية للحياة من قوله عز وجل: *﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾* (البقرة، 156).
تبدأ الرؤية االإسلامية من الله سبحانه وتعالى حيث كونه محض الفيض والكرم والقدرة، ولذا فقد من الله على الخلق والكائنات بأن أوجدها، حسب إمكانياتها وقابلياتها، وفق قانون العلية *﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾* (القمر، 49) وذلك لأن وجود الكائنات يقتضي سعادتها.
ولرحمته سبحانه وتعالى بالخلق ولطفه بهم، ولحكمته فإن الله لم يجعل الخلق والكون في وضعية ثابتة، وإنما خلقه بطبيعة ذاتية متحركة نحو التكامل وتطور الوجود النوعي. شئ أشبه ما يكون بتطور وتحول دودة القز الى فراشة رائعة الجمال، غير أنه أرقى وأروع منه بمليارات المرات، حيث تدفعنا هذه الحركة الذاتية فينا نحو الله عز وجل. *﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾* (المؤمنون، 115)، *﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (الإنشقاق، 6)
هذه الحركة الذاتية نحو التطور والتكامل (الرجوع والقرب إلى الله) تمتد عبر مراحل الحياة المتعاقبة، ابتداء من عالم الدنيا، وتستمر حتى عالم الآخرة، وفق قوانين وسنن كونية لا تتخلف. *﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا﴾* (فاطر، 43).
الإنسان هو أعظم الكائنات والمخلوقات على الاطلاق، فهو محور الكون، وقد جعله الله خليفته، لما يتميز به من إرادة وإدراك، وصفات جعلته أوحدا في هذا المقام الذي لم تعطه حتى الملائكة قال الله تعالى للملائكة: *﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾* (الحجر، 28 – 29).
وبقدر العظمة والقدرة التي يملكها المخلوق تكون عبوديته لله وتكون مسؤوليته، ولذا فقد حمل الإنسان مسؤولية عجزت عنه جميع الكائنات الأخرى *﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾* (الأحزاب، 72).
لم يكن الله ليلقي هذه المسؤولية الثقيلة، التي تعجز عنها السماوات والأرض، على الإنسان ويتركه سدى من دون دعم ولطف منه سبحانه، لتمكينه من النجاح في مسؤوليته. *﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾* (القيامة، 36).
ولذا فقد جعل الله الملائكة وجميع الكائنات خاضعة للإنسان لمساعدته للسير والقرب إليه سبحانه وتعالى. *﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾* (الجاثية، 13).
ولكن ماذا يعني رجوع الإنسان إلى الله (القرب إليه سبحانه وتعالى) وهو الهدف الذي من أجله خلقنا الله، وهي المسؤولية التي ألقاها سبحانه وتعالى على الإنسان؟
إن قربنا إليه سبحانه يعنى تكاملنا وتطورنا في وجودنا، واكتمال إدراكنا التام لعبوديتنا لله سبحانه، وحبه، لأن الله كمال مطلق، لا متناه، فهو ذات الوجود جل جلاله *﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾* (الواقعة 10 – 11).
وبالرغم من أن الكون كله خلق لإعانة الإنسان للقرب إليه سبحانه، إلا أن الإنسان هو وحده من يحدد مسيرته إلى الله، وما إذا كان سيقترب إليه سبحانه، أم سيبتعد عنه، وذلك من خلال الكدح والعمل في هذه الدنيا باستخدام إرادته، وبالاستفادة من حكمته وقدراته الاخرى التي وهبها له الله تعالى. *﴿فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾* (النازعات 37 – 41).
إن إحساسنا بالسعادة والشقاء، والجزاء الأخروي ليس سوى نتيجة وانعكاس طبيعي تكويني لقربنا إليه سبحانه أو بعدنا عنه، وفق القوانين والسنن الكونية التي خلقها الله. *﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾* (الزلزلة 6 – 8).
ولخطورة وشدة هذا الشقاء الذي يصيب الإنسان جراء ابتعاده عن الله، فقد منّ الله على البشرية بالهداية. فبلطفه سبحانه وتعالى بعث الرسل، والأئمة والهداة بالكتب والشرائع السماوية لهداية البشرية إلى الله، وكان أعظم وآخر الرسل نبينا محمد “ص”، وأعظم وآخر الكتب القرآن الكريم، وأعظم وآخر الشرائع الإسلام. *﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾* (الجمعة، 2).
ولأن الإنسان كائن اجتماعي يعيش في معمعة الحياة، فيؤثر فيها ويتأثر بها، ولا يمكنه التطور إلا من خلال الكدح فيها، وشحذ طاقاته من خلال معتركها. وحيث أن حبنا لخلق الله، وبالأخص الإنسان، والتفاني في العطاء من أنبل الصفات التي تقربنا إلى الله، فقد عد الإسلام مسؤولية مساعدة الإنسان على التحرر من جميع أنواع الظلم والفساد، وتحفيزه للانطلاق نحو التطور والتكامل مسؤولية الأمة الإسلامية جمعاء، بكل فرد مسلم فيها. *﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾* (العصر 1 – 3).
لكن من جهة أخرى فإن انشغال الإنسان في حياته اليومية، والتحديات التي يواجهها، والشهوات التي تأسره، تجعله في العادة في غفلة عن هذه المسؤولية، وعن هذه العقيدة. *﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾* (التكاثر 1 – 2)، ولذا لم تكتف المنظومة الإسلامية من الإنسان بالإيمان بهذه الكلمات الطيبة من العقيدة، ولم تكتف أيضاً بما وضعه الله تكويناً من لطف إلهي لهداية البشر، وإنما شرع الله سبحانه منظومة محكمة من الممارسات التي تغرس في الإنسان تلقائياً هذه العقيدة والمسؤولية تجاه نفسه وتجاه الكون، وترسخها في أعماقه، لتجعل نظرته للكون وحركته فيه بنّاءةً وإيجابيةً. من هذه الممارسات منظومة العبادات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومودة الرسول (ص) وأهل بيته (ع)، وغيرها. قال تعالى: *﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾* (فاطر، 10)، وقال تعالى: *﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾* (العنكبوت، 45).
*لمعرفة المزيد عن هذه المحاور الإسلامية الثلاثة، الرؤية، والعقيدة، والممارسات، وكيفية تشابكها مع بعضها البعض، يمكن الرجوع إلى كتاب “الرؤية الإسلامية للحياة”*