د. حيدر بن أحمد اللواتي – شرق غرب
يعدُّ علم الفيزياء العلمَ الأساسيَّ الأولَ، والقاعدةَ الرئيسيَّة الذي تبني عليه كل العلوم الطبيعية بُنيانها، ومن هنا فإنَّ للتطورات المهمة في علم الفيزياء أثرَها البالغ في تطوُّر بقية العلوم الطبيعية، وعندما انفتحَ العربُ على دراسة العلوم اليونانية، لاحظوا أنَّ مفهوم الحركة في الفكر اليوناني يَكاد يقتصرُ على المفهوم الفلسفي، واستمروا هم كذلك على هذا النحو في دراسة الحركة، سوى بعض التطبيقات الميكانيكية البسيطة، كما أن فكر أرسطو العلمي -ولاعتماده على الفكر المجرد والتأملات الذوقية- أنتج عددا من النظريات الأساسية الخاطئة في مجال العلوم التطبيقية؛ من أهمها: أنَّ الأرض مركز هذا العالم، وكل الأفلاك الأخرى تدور حول مركز هذا الكون، كما أنَّ أرسطو تبنَّى النظرية التي تتحدَّث عن المكوِّن الأصلي للمادة، والتي قال عنها إنها تتكوَّن من أربعة مكونات تتشكل بأشكال مختلفة؛ هي: الماء، والهواء، والتربة، والنار، وقد أخذ العرب بهاتين النظريتين وأقروا بصحتيهما.
وكما قلنا آنفا، فإنَّ العرب أكملوا ما بدأه اليونانيون ولم يقوموا بثورة علمية على المفاهيم الرئيسية التي أخذوها من الحضارة اليونانية؛ لهذا فلقد أسهموا في تطوير العلوم مساهمة فاعلة، ووصلوا إلى مدى عال من المعرفة العلمية، يكاد يصل حدَّ التشبع، وكان لِزَاما عليهم لكي يستمروا في تطوير العلوم الطبيعية أن يقُوموا بثورة علمية، وأن يُرَاجعوا مراجعة علمية دقيقة للقواعد العلمية السائدة.
لكنَّ المسلمين لم يُبدو اهتماما واضحا بالتنظير للعلوم الطبيعية، ويكاد ينحصر اهتمامهم بالأبعاد التطبيقية لهذه العلوم، ولربما فَطِن بعضُ علماء الطبيعة العرب -كابن الشاطر الدمشقي- لوجود تحديات جمة في تفسير عدد من الظواهر الطبيعية؛ باعتماد النموذج الفلكي السائد الذي يدَّعي مركزية الأرض، وينسب له أنه قام بتصحيحات مهمة في هذا المجال.
لكنَّنا نعتقدُ أنَّ البيئة الحاضنة كانت سببا آخر رئيسيا على عدم قدرة المسلمين القيام بثورة علمية على ما ورثوه من نظريات علمية؛ فمن المهم أن نُدرك أنَّ التطور العلمي ما هو إلا نوع معين من نشاط بشري يقوم به عدد من العلماء يتأثرون بالواقع المحيط في أفكارهم وتوجهاتهم؛ لهذا فالبيئة والمجتمع لهما دَور بالغ في تطور البحث العلمي، ويُخطئ من يظن أننا سنكون قادرين على الولوج في البحث العلمي، وإنتاج معرفة علمية من خلال تطوير مختبرات ضخمة، أو إنشاء جامعات على أرقى النظم الحديثة والتقنيات التكنولوجية، بل لابد من زرع ثقافة البحث والتفكير العلمي في المجتمعات؛ بحيث يصل وعيُها إلى درجة تدرك قيمة المعرفة العلمية وأهميتها، وتسعى بجد واجتهاد نحوها.
لقد ظلَّت العلوم الطبيعية في المجتمعات الإسلامية تُعرف بـ”العلوم الأجنبية أو علوم الأوليين”؛ وذلك حتى في القرنين العاشر والحادي عشر، وظلت العلوم المرتبطة بالدين والشريعة هي العلوم الأصيلة، وبطبيعة الحال فإنَّ وسم العلوم الطبيعية بالعلوم الأجنبية أو علوم الأوليين له تأثيرٌ كبيرٌ على ذهنية الناس عموما، وانصرافهم عن تعلمها والإقبال على العلوم الأصيلة.
كما أنَّ النُّظم التعليمية ظلَّت في إطار فردي ضيِّق؛ ففي أغلب الأحيان ظلت العلوم الطبيعية تدرس بشكل شخصي عند الأستاذ العالم لمن يرغب في ذلك، وكان هذا الأستاذ يمنح تلميذه إجازة فيما تعلمه منه، وهكذا لم تتطوَّر عملية تعليم العلوم الطبيعية إلى تعليم مؤسسي؛ فلا تُوجد هيئات علمية تمنح الطالب شهادة علمية، بل كانت مُقتصرة تماما على التقييم الشخصي للمدرس، أما المدارس الوقفية فكانت تُعلِّم وبشكل شبه كامل العلوم المرتبطة بالشريعة، ونادرا ما كانت تعلم العلوم الطبيعية، عدا تلك التي لها ارتباط بعلوم الشريعة كالحساب المرتبط بالمواريث، والفلك المرتبط بتحديد مطالع الشهور الهجرية، وكان من نتائج الصِّبغة الشخصية لتدريس العلوم الطبيعية أنَّها كانت تزدهر، ويخف بريقها اعتمادًا على اهتمام السلطات السياسية وأصحاب النفوذ في المجتمعات الإسلامية؛ فاهتمام السلطات السياسية بالعلم كان يُؤدي لتقريب العلماء وإتاحة الفرص لهم لإجراء تجاربهم العلمية، وتكفل لهم الموارد المالية التي يحتاجونها لبحوثهم، وتوفر لهم فرصَ العيش الكريمة؛ وبالمقابل فإنَّ غياب المؤسسات العلمية جعل العلم حكرًا على مجاميع معينة من أفراد المجتمع، ولم يخلق قاعدة واسعة من المهتمين بالعلوم الطبيعية.
ولرُبما كانت هناك محاولات لإنشاء دور مستقلة لتدريس العلوم المختلفة، كما قد يفهم مما أورده المقريزي عن الخليفة المعتضد بالله (892-901م)؛ حيث ذكر أنه يريد “ليبني دوراً ومساكن ومقاصير يرتب فيها موضع رؤساء لكل صناعة مذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية وتجري عليهم الأرزاق السنوية ليقصد كل من اختار علماً أو صناعة ما يختاره فيأخذ عنه”، ويبدو أنها لم تشيد إذ إنَّ المؤرخين لم يتحدثوا عنها فيما بعد.
كما كان لتقييدات الحريات الفكرية الذي بدأ يحكم الخناق على العلماء وأصحاب الأفكار الثورية أثر مهم؛ فلقد وصل الأمر في حالات معينة إلى تحريم تدريس الفلسفة وتجريم أصحابها وحرق الكتب المرتبطة بها، ونظرا لارتباط العلوم الطبيعية آنذاك بالفلسفة، فلقد تأثرت هي الأخرى وتعرَّض بعض العلماء والفلاسفة لمضايقات شديدة؛ ومن أشهرهم: العالم الكبير ابن رشد؛ وذلك في القرن الثالث عشر، وهكذا فإن التضييق على الحريات الفكرية كانت له مؤشرات مهمة وأولية تشير إلى قرب أفول الحضارة الإسلامية.
.. إنَّ الإشكالية الرئيسية الناتجة عن محاربة الفلسفة أنَّ الفلسفة بمعناها العام تَعنِي إعمالًا للعقل، وعندما تبدأ دعوات للوقوف في وجه الفلسفة، فإنَّ ذلك يؤدي بالضرورة للوقوف بوجه أغلب العلوم التي تعتمدُ على إعمال العقل؛ لهذا فمن الملاحظ أنَّ الفترة الزمنية التي تمَّ الوقوف بها في وجه الفلسفة، هي الفترة ذاتها التي صاحبت انتشارَ الأفكار الصوفية في المجتمعات الإسلامية.
لهذا؛ فإنَّ إهمال الفلسفة وغيرها من العلوم النظرية في مجتمعاتنا العربية، له أثرٌ بالغٌ في التراجع الكبير الذي يشهده العالم الإسلامي؛ فالعلوم التطبيقية لا تنهض دون قواعد عقلية وتفكير علمي سليم؛ فالتنظير العلمي ذو أهمية فائقة؛ فهو القاعدة التي من خلالها يوجَّه البحث العلمي في اتجاهات معينة، وهو الذي يقود بوصلة البحث العلمي في الاتجاه الصحيح، ليكون نتاجا ثريا تسعد به المجتمعات وترتقي به.
وأخيرا.. فلا أشك أنَّ تدهورَ الوضع السياسي في العالم الإسلامي والحروب الصليبية أثَّر سلبًا على مسيرة العلوم، وبدأ العالم يشهد أفولا لهذه الحضارة العظيمة، ليستلم الغرب مشعلها، ويمضي بها قدما نحو أفق رحب لا يعرف له نهاية.
المصادر الرئيسية:
1- “مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام”، أحمد سليم سعيدان.
2- “فجر العلم الحديث”.. توبي أ هف، ترجمة د. محمد عصفور.
3- “تاريخ العلوم المصور”، الجزء الأول والثاني، سائر بصمه جي.