هلال بن علي اللواتي – عُمان
«لا يظنن من يترشح لمكان كمجلس الشورى أو لمنصب آخر بالدولة أو في المجتمع أو في مؤسسة أنه مخلي السرب بما سيقوم به، ففي حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب، وألا يظنن أنه بعيد عن القانون التكويني، فإن كل تصرفاته من الحركات بل وحتى السكنات ملحوظة بعين القانون التكويني، فإن غفل عنه القانون الوضعي بحيل ومكر، فلا يفوت القانون التكويني أي شيء على الاطلاق، ويكفي معرفة أن من يشاهد كل تصرفاته هو الله تعالى، وهو الحاكم، وهناك من وضعهم سبحانه لمعرفة ما يقوم به قذة بقذة، «وكل سيئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين وكلتهم بحفظ ما يكون مني، وجعلتهم شهوداً علي مع جوارحي، وكنت أنت الرقيب علي من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم».
قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)، الآية الكريمة في مقام الامتنان والفضل على المسلمين بما أنعم الله تعالى عليهم من نبي هو الرحمة، فكان كل سلوكه وتصرفاته مظاهر الرحمة الإلهية، ولا شك في هذا وقد صرحت الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، بأن إرساله كان رحمة.
ولنرجع إلى ما ذكر في الآية المتقدمة من سورة آل عمران، إذ نجد السياق هو التلطف بالمسلمين وعدم الغلظة وترك الفظاظة، ولما أن ذكرت الآية الكريمة كلمة القلب علمنا أن المطلوب غير منحصر على مستوى السلوك الخارجي، إذ قد يتكلف المرء بإظهار خلاف ما يبطنه من باب المجاملة والمداراة، فالآية المباركة قد أثبتت لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين كان متجلياً بذات الرحمة فكان هو الرحمة الإلهية، فكان قلبه صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين وباطنه كله رحمة، ومن كان كذلك فإن ما سيظهر منه لن يكون متكلفاً أو يكون أمراً خارجاً عن الطبع والعادة.
وعندما ننظر إلى طلب الإعفاء والاستغفار عن الذين حوله نعلم أن مسألة صدور الاشتباهات أو الأخطاء أمر طبيعي من الإنسان وعلى المقابل أن يتحلى بقلب يتسع لهم، وأن يقف على مسافة واحدة من الجميع كي يشملهم بلطفه ورحمته بلا استثناء، ثم بلحاظ كل ما تقدم فإن الآية الكريمة صرحت بمشاورتهم في «الأمر»، ولا حاجة هنا الآن للبحث عن مفاد «ال» الداخلة على الأمر، فهل هي عهدية أم جنسية أو استغراقية، فالمهم هو أن هناك طلب من الله تعالى للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين بمشاورة من حوله، مع أنه صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين غني عن ذلك لما يوحى إليه، قال العلامة إسماعيل المزني في مختصره: 299: «… قال الحسن إن كان النبي صلى الله عليه وسلم عن مشاورتهم لغنياً ولكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده …» انتهى كلامه، وعرف عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين أنه كان يستشير من كان حوله من المسلمين ومن الأصحاب، ودون التاريخ المواضع التي استشارهم فيها، نعم وأما الأمور التشريعية وما يتعلق بالبعد العقدي فإنه صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين كان ينتظر فيها الوحي.
وعرف التشاور بأنه طلب رأي أو آراء أهل العلم والرأي وهو الذي يعرف بــ(Consultation)، وهو ما تعارف عليه البشر بلا خلاف، وقد اتفقت كلمة العقلاء أن التشاور لا يكون لفاسد أو لغير متخصص أو لصاحب صفات رذائلية فإنه لا يشير إلا بما تملي عليه صفاته الباطنية القلبية، وهنا يفيدنا ما جاء في قوله تعالى: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ)، إشارة إلى استحكام الصفات بالإنسان وسلوكه، فإن من استحكمت صفاته وملكاته بشخصيته كان سلوكه مترجماً لها، فعلى هذا يكون اختيار المستشار بناء على ملكاته وصفاته ومستوى تحليه بالفضيلة لا بالرذيلة، وفي هذا وردت مجموعة من الروايات والأخبار الشريفة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتي فيها نهي عن استشارة الجبان، البخيل، الحريص، المستبد برأيه، وبالمقابل جاء الحث على مشاورة من يتصفون بصفات الفضيلة ممن يخاف الله تعالى ويخشاه، العاقل الناصح، من ذوي الألباب والتجارب، وذوي النهى والعلم، والحزم.
وهذا يتأكد لمن يريد يتصدى لشؤون المجتمع على مستوى رسمي كمجلس الشورى، وما بحكمه، فإن الملحوظ فيه هو: أن يختار الناخب من يمثله في مجلس وطني رسمي، وهو أشبه بمجالس البلدة حيث يجلس فيها الوجهاء والعقلاء والحكماء لتدارس شؤون القبيلة أو البلدة، ففي مجالس الشورى والبرلمان يقوم الشعب بانتخاب من يمثله للتحدث بالنيابة عنه، ونقل ملاحظاته وتعليقاته، وهذا يتطلب إضافة وظيفة مهمة في شأن هذا المترشح وهي: أن تكون له جلسات دورية مع أبناء الولاية التي انتخبته، وبالخصوص إذا كانت هناك مواضيع مهمة تطرح في المجلس الشورى فأن يستشير ذوي العقول والألباب والحكماء وذوي التجربة والعلم والحصافة كي ينقل رأيهم إلى المجلس بأمانة رغبة في المساهمة في بناء الوطن.
الأمر الآخر الذي يُشاهد في حال الانتخابات وما يتقدمه من طلب من المترشح إلى الجهات المعنية هو ظهور شخصيات وبشكل مفاجئ على الساحة، ولا يعلم منها سوى القليل من حالها بعنوان من العناوين، في حين إذا نظرنا إلى حال الشورى والمشورة وأنها عملية مشاركة في صناعة وبناء الوطن فإن من يترشح يجب أن يكون متصفاً بالصفات التي ذكرت آنفاً، وهذا لا يعرف إلا إذا كانت هناك مجالس لذوي الألباب والعقول والوجهاء والحكماء يجلسون وبشكل دوري في مجالسهم يتباحثون أمور مجتمعهم وقريتهم أو حلتهم، ومن هنا تفرز الشخصيات لأجل أن تحتل المواقع المهمة في مجتمعهم من قبيل «شيخ القبيلة»، أو «شيخ العشيرة»، ومنها تفرز أيضاً الشخصيات التي ينبغي أن تكون الناطقة عنها في الدوائر الحكومية، ومنها في مجلس الشورى.
وهنا سوف يتشخص لنا موضوع آخر عمن يستحق أن يتأهل ليكون الممثل عن الولاية أو المدينة في مجلس الشورى، فإن المناط ليس بحمل الشهادات العالية أو بحسابات بنكية أو بوجاهات اجتماعية بل المناط هو الصفات التي تتفق عليها كلمة الحكماء والعقلاء ومستوى حضورها في ذات المترشح، فكم من حامل للشهادات العليا فاقد للحكمة والعقل، وكم من فاقد للشهادات واجد للحكمة والعقل، وهذا لن يعرف إلا بالتجارب الاجتماعية، والجلسات التي يحضر فيها العقلاء فيعرف من خلال مشاركة المشارك مستوى عقله وحكمته وتجربته ووعيه وتحمله وصبره وسعة أفقه، ومن هنا من الضروري جداً تفعيل مجالس القبيلة والعشيرة والبلدية تمهيداً لاختيار الشخصيات للمواقع الاجتماعية والسياسية كمجلس الشورى مستقبلاً، ومثل هذه المجالس سوف تغنينا كثيراً عن مجالسة المترشح للاستماع إلى برنامجه الانتخابي، فإن جلسة وجلستين بل وحتى عشر والتي فيها يبرمج الشخص نفسه بتكلف أمام الحضور فلا يمكن معرفة صفاته وملكاته وأخلاقه وسعة أفقه من خلال تلكم الجلسات الطارئة.