حيدر بن عبدالرضا اللواتي – عُمان
[email protected] –
لم تكن لديّ – مثل الكثيرين من أمثالي – فكرة واضحة عن أهمية مدينة الدقم الاقتصادية الخاصة، والمشاريع التي تقام بهذه المدينة، بالرغم من أنني تناولتُ تلك المشروعات في بعض كتاباتي السابقة دون أن أدرك أهمية هذه المشروعات ومستقبلها بالنسبة للاقتصاد العماني. وخيرا فَعلت جمعية الصحفيين العمانية بتنظيم الزيارة إلى هذه المنطقة المهمة. فالمثل يقول «ليس من رأى كمن سمع». فهذه المدينة بشواطئها البكرة التي كانت تستقبل بعض سفن الصيد التقليدية، والمعدات الخفيفة قبل عقد فترة من الزمن، أصبحت اليوم تستقبل كبريات السفن والبواخر العملاقة التي ترسو على مينائها التجاري الجديد محملة بأنابيب النفط والغاز الضخمة، والمعدات الثقيلة وأجهزة النقل والاتصالات والعربات وغيرها من المواد والمنتجات التي تحتاج إليها المدينة من أجل تكملة المشروعات التي تقام بها في المجالات الصناعية والنفطية والسياحية والسمكية والمعدنية وغيرها، ناهيك عن السفن العملاقة الأخرى التي ترسو من أجل الحصول على الصيانة وتغيير هياكلها بالحوض الجاف المقام بالقرب من هذا الميناء، وهو الحوض الثاني من نوعه في العالم من حيث المساحة والخدمات والتسهيلات المتوفرة به من أجل إصلاح السفن. وهذا ما أدى بالعديد من شركات الدول الأوروبية والآسيوية والخليجية بأن توصي بإصلاح سفنها في هذا الحوض الذي لا يهدأ به العمل طول فترات السنة.
إن اسم مدينة «الدقم» لا يتداول اليوم على المستوى المحلي والإقليمي فحسب، بل أصبح يذاع اسمها في القنوات الإعلامية والصحافة العربية والعالمية اليومية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي العالمي، وفي منتديات دولية كانت آخرها في العاصمة الروسية «موسكو» في شهر يونيو من العام الحالي، حيث تناول المسؤولون في هيئة الدقم الاقتصادية والهيئة العامة لترويج الاستثمار وتنمية الصادرات (إثراء) مع المسؤولين الروس كل ما يتعلق بهذه المنطقة الاقتصادية الخاصة وإمكاناتها ومقوماتها، ومشروعات البنية الأساسية المتوفرة بها بجانب المشروعات المقبلة التي ستقام بها، مؤكدين لهم أن استقلال الهيئة في قراراتها وأعمالها تميزّها عن سائر المناطق الصناعية الأخرى في السلطنة تقديم مختلف التسهيلات والحوافز التي تحتاج إليها الشركات الاستثمارية العالمية. فقد سبق تداول اسم «الدقم» في عدة دول صناعية أخرى في القارات الأوروبية والآسيوية والأمريكية خلال السنوات الماضية، الأمر الذي أدى إلى استقطاب الاستثمارات الأجنبية لهذه المنطقة التي يصفها الكثير من المهتمين بأنها «المدينة الاقتصادية الواعدة» للسلطنة. وهذه الحملات التي تنظمها هيئة الدقم تزيد من معرفة المستثمرين الأجانب والصناديق السيادية والمؤسسات التمويلية العالمية بالمنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم. ومن خلال هذه الأنشطة يتم استكشاف بعض الأسواق المهمة التي يمكن أن تعزز من الفرص الاستثمارية للشركات الأجنبية التي تبحث عن الاستقرار والأمن والأمان والبيئة الاستثمارية الخصبة باعتبارها بعيدة عن مواقع الاضطرابات والمناوشات في المنطقة، بجانب موقعها الاستراتيجي المهام على واحدة من المحيطات العالمية ألا وهو المحيط الهندي وبحر العرب، والتي يمكن الوصول إليها بجميع الطرق البرية والبحرية والجوية دون المرور عبر مضيق هرمز.
لقد أدى توافر البنية الأساسية الجيدة اليوم بمدينة الدقم الاقتصادية كوجود ميناء التجاري متعدد الأغراض، والحوض الجاف لإصلاح وصيانة السفن، ومطار الدقم وحركة الطيران اليومية بين مسقط وهذه المدينة، بجانب وجود المجمع العمالي الضخم الذي يسهّل من عمل الشركات في تسكين القوى الوطنية والأجنبية طوال فترات السنة، بجانب توافر البنى الأساسية الأخرى من طرق وكهرباء ومياه واتصالات، والتشريعات المشجعة للاستثمار التي تبنتها الهيئة للعمل الاقتصادي والاستثماري لهذه المنطقة أدى جميعها إلى وجود العشرات من الشركات الاستثمارية والخدمية بها، والتي ستحوّلها في ظروف العقدين المقبلين إلى قبلة للمشروعات العملاقة في المنطقة، فيما تستمر الهيئة في حملاتها الترويجية لاستقطاب المزيد من الشركات العالمية الكبرى للاستثمار في القطاعات التي تحتاج إلى الخدمات في مجال بناء السفن، ومجمعات التكنولوجيا، والشركات الصناعية الكبرى بجانب المشروعات التعليمية والصحية والتدريبية وغيرها.
ومن هذا المنطلق تعمل المنطقة الاقتصادية الحرة بالدقم على توفير كل الخدمات التي تضمن الاستثمار الأمثل عبر إيجادها «المحطة الواحدة» التي يستطيع المستثمر من خلالها إنهاء جميع الإجراءات المتعلقة لتأسيس مشروعه والحصول على الأرض المخصصة لكل نشاط في فترة وجيزة من الزمن تتراوح من 3 إلى 5 أيام.
إن النظر إلى المساحة التي تم تخصيصها للمنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم توضح بأنها تتعدى مساحة بعض الدول القائمة في المنطقة وخارجها. فمساحة المنطقة الاقتصادية تبلغ 2000 كيلومتر مربع وبطول ساحلي يمتد لأكثر من 90 كيلومترا. إذًا فمساحة المنطقة الاقتصادية تتجاوز مساحة جزيرة هونج كونج بحوالي ضعفين تقريبا والتي تبلغ مساحتها 1108 كيلومترات مربعة، كما تتجاوز مساحة مملكة البحرين بمرتين ونصف المرة والتي تبلغ مساحتها 760 كيلومترا مربعا، وسنغافورة بثلاث مرات التي تبلغ مساحتها 697 كيلومترا مربعا، ومالطا بسبع مرات والتي تبلغ مساحتها 316 كيلومترا مربعا وعدد من الدول الأخرى في العالم أعضاء في منظمة الأمم المتحدة. وهذه المنطقة اليوم لا تهدأ ليل نهار نتيجة للمشروعات التي تؤسس بها في مختلف أرجائها، فيما ترى اليوم العديد من الشباب العماني يعمل في تلك المشروعات بجانب العمال الذين جاءوا من مختلف الجنسيات طوعا من 54 دولة للمشاركة في تنفيذ هذه المشروعات الضخمة وهي عديدة نذكر منها مشروع مصفاة الدقم الذي يقام باستثمار كويتي/عماني بتكلفة 5.7 مليار دولار لإنتاج المنتجات النفطية من الديزل ووقود الطائرات والنفط المستخدم في صناعة البتروكيماويات وغيرها. كما يقام في مدينة الدقم مشروع المدينة الصينية التي يجري العمل بها بتكلفة 10.7 مليار دولار، حيث سيتم بناء 12 مصنعا لإنتاج مواد البناء من الزجاج، والمواد الكيماوية، والألمنيوم وغيرها، إضافة إلى إنشاء فنادق ومنطقة سياحية كبيرة وسوق صيني كبير لبيع تلك المواد، الأمر الذي سيعزز من الحركة السياحية والتجارية لأبناء دول المنطقة والأجانب إلى الدقم فور الانتهاء من هذا المشروع في عام 2022. كما من المتوقع أن ينهي العمل في بعض المشروعات المقامة هناك مثل مشروع ميناء الصيد الضخم، ومصنع زيت الخروع ومصانع مسحوق زيت السمك وتجميد الأسماك، بجانب مشروعات صناعية وخدمية أخرى يجري العمل بها مثل مشروع تصنيع الغاز والذي يتزامن مع وصول أنبوب الغاز إلى محطته الأخيرة في ميناء الدقم العام المقبل 2020م، ومصنع تجميع وتصنيع الحافلات والسيارات بتكلفة 88.3 مليون دولار الذي يتم تأسيسه مع وزارة المواصلات بدولة قطر الشقيقة، ومصانع أخرى بجانب إنشاء 77 شاليه ومجمعات سكنية التي تحتاج إليها المنطقة خلال السنوات المقبلة، فيما يسعى القائمون على المدينة إلى تحقيق والانتهاء من هذه المشروعات بأسرع وقت ممكن.
لقد أدت هذه المشروعات الاستراتيجية إلى تعزيز الحركة الجوية بين مسقط والدقم على مدار الأسبوع خاصة مع افتتاح مطار الدقم خلال الفترة الماضية، في حين عزّز وجود المجمع العمالي الضخم لقرية النهضة الذي يستوعب اليوم 13 ألف عامل إلى تعزيز حركة القوى العاملة التي تحتاج إليها المشروعات، فيما تعمل الإدارة المشرفة لقرية النهضة على إيجاد مباني أخرى لتصل الطاقة الاستيعابية إلى 32 ألف عامل في السنوات المقبلة، مع توفير جميع متطلبات الراحة للعامل من خدمات السكن والتغذية والنطافة والعلاج والترفيه وغيرها.
علينا أن نتخيل اليوم حجم الناتج المحلي الإجمالي للسلطنة في حال الانتهاء من تشغيل هذه المشروعات الاستراتيجية الضخمة، وفرص العمل والكفاءات العمانية التي ستنضم إلى هذه المشروعات، في الوقت الذي تحرص فيه هيئة المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم على تسهيل عملية الوصول إلى المعلومات والخدمات المتوفرة بالمنطقة والاستجابة للمستثمرين في وقت قصير، الأمر الذي يدفع الكثير من الشركات العمانية والأجنبية بفتح مكاتبها ومشروعاتها في هذه المنطقة الحيوية الذي تسير فيه الأعمال بوتيرة متسارعة سواء فيما يتعلق بمشروعات البنية الأساسية أو في جانب بناء المشروعات الفندقية لاستيعاب القادمين لهذه المنطقة.