Image Not Found

الاعتدال والوسطية

الشيخ هلال اللواتي – عُمان

تمتاز عبادة الحج بميزات خاصة لا تجد مثلها في عبادات أخرى من قبيل التجمع العالمي في محراب مكة المكرمة، الأمر الذي يظلل بظلاله على سائر الشؤون الفكرية والعقدية بل والاجتماعية الإنسانية، وتستوقفنا هذه العبادة على مجموعة من المبادئ والقيم إضافة إلى ما فيها من شعائر دينية تحمل معاني عالية المضامين لبناء الإنسان وحضارته، ولنقف على بعض هذه المضامين وباختصار إن شاء الله تعالى…

أولاً: تقبل الآخر. عندما يجتمع جميع المسلمين بكافة مذاهبهم ومشاربهم وأفكارهم في مكان واحد، ويعبدون رباً واحداً، ويقومون بإحياء شعائر الحج بكيفية مشتركة واحدة، ويبدأون الأعمال كلها في زمن واحد، وفي مكان واحد، وينتهون منها بزمن واحد، وبكيفية واحدة فإن هذا كله يحمل مجموعة من المطالب القيمة من قبيل، أن على الأمة أن تعي أن اختلافها في المذهب والمشرب والفكر ينبغي أن لا يشكل فيما بينهم عائقاً للتواصل والتفاهم والتعامل، فإن عبادة هكذا هو شعائرها ومناسكها وأنهم جميعهم يقومون بعمل مشترك واحد مع عدم إلغاء خصوصية كل مذهب وفكر يدعو إلى أن لا تشكل نفس تلكم الخصوصيات التي يمتازون بها بمذاهبهم وأفكارهم عائقاً يمنعهم من التلاقي والتفاهم خارج موسم الحج.

بل لربما يتأكد التعاون والأواصر والأخوة فيهم بينهم، وأن على الجميع أن يستفيد من هذه شعائر الحج في كافة شؤونهم الحياتية في مجتمعاتهم.

فإن أهم ما تحمله شعائر الحج ومناسكه أنها تثير فكر الإنسان المسلم، وتدعوه إلى التأمل والتفكر في رفع الموانع والحواجب عن الوحدة والتألف والتعايش الجميل فيما بينهم، مثلما الحج يلغي الخصوصيات الخاصة لكل مذهب ويجمع أتباهم تحت مظلة واحدة في عين عدم إلغائها مطلقاً فعلى المسلمين أن يوسعوا من هذه التعليمات لتشمل سائر حياتهم.
إن من إحدى مشكلاتنا التي نعانيها غياب وعي المشتركات والتركيز على المختلفات الأمر الذي يزيد من شرخ أواصر الأمة ووحدتها.

الاهتمام بالآخر: فإن تقبل الآخر يدعو إلى الاهتمام به وإلى وعدم التغاضي عن آلامه ومحنه واحتياجه، فعندما تشاهد الحجاج وهم يتوجهون إلى أداء مناسك الحج وبشكل مرتب ومنظم ويسقط هذا فيأخذ بيده الآخر، وإذا ما سقط الرداء ساعده الآخر، وإذا عطش أحدهم سقاه الآخر، وإذا ما أراد أحدهم الدخول في المطاف مع مجموع من الطائفين ليساعدوه على حفظ عدد طوافه فترى التعاون بينهم على قدم وساق، حتى تكاد تشعر أنك أمام أكبر أسرة في البشرية وهي تقوم بأداء شعائر الحج.

الأمر الذي ينبغي أن ينعكس بدوره على سائر شؤون الحياة الاجتماعية، فإن هذه الروح التي تظهر وتتجلى في الحج أن تبقى جذوتها حاضرة ومتقدة في سلوكيات كل حاج عندما يرجع إلى وطنه، وأن يمارس ما كان يمارسه من الخلق الرفيع مع سائر المسلمين على أرض مكة المكرمة.

ثانياً: الاعتراف. فتارة ننظر إلى الاعتراف بلحاظ الإنسان الآخر، وأخرى ننظر إليه بلحاظ المعاصي والذنوب أما الله تبارك وتعالى، فأما ما يتعلق بالاعتراف بالآخر فنقول: عندما يعيش الجميع تحت سقف مناسك الحج ويقومون بأداء تلكم العبادات العظيمة، مع التفاتهم على وجود خصوصيات يمتاز بها الآخرون، وأن هناك اختلافاً واضحاً في بعض الجزئيات فإن هذا العمل الجماعي يشعر أن هناك اعترافاً ضمنياً بالآخر ويكاد أن يكون صريحاً، ونقصد منه الاعتراف بواقعية ما عليه المذاهب الإسلامية اليوم، وينبغي أن يشكل هذا الاختلاف مانعاً من التآلف فيما بينهم، فهل وجدت الأب يتبرأ من أبنه وهو يحمل مدرسة أخرى على خلاف ما تربى عليه هو، فما دامت هناك مشتركات بين المسلمين فعليهم العمل على التأكيد عليها، وتقبل الجميع على ما هم عليه من العقيدة والفكر والسلوك ما دام هو ضمن النطاق الواحد.

وأما ما يتعلق بالاعتراف أمام الله تبارك وتعالى بالذنوب التي ارتكبناها فهذا يدعو إلى التأمل والتدبر بأن الله تبارك وتعالى يتقبل العبد إذا ما جاء إليه معترفاً على رغم ما يعلمه الله تعالى منه من الذنوب والمعاصي الجسيمة، الأمر الذي يقودنا إلى ما جاء في دعاء كميل إذ يقول فيه الإمام أمير المؤمنين علي -كرم الله وجهه الشريف: «يا سريع الرضا»، فإن الله تبارك وتعالى سريع الرضا، والإنسان مطالب أن يتخلق بأخلاق الله تعالى، فعليه أن يكون أيضا سريع الرضا عن الذين يخطئون في حقه، وأن لا يكون متحاملاً عليه، أو حاقداً عليه، أو راغباً بالانتقام منه، بل عليه أن يتحلى بهذه الصفة الإلهية الجميلة وهي: سريع الرضا.

ثالثاً: التعارف. ذات الإحرام الذي يلبسه المحرم في الحج يدعو إلى الـتأمل والتدبر، فإن النفس الإنسانية مجبولة على الانجذاب إلى الشخص المقابل ما دام يجد هناك مشتركات تجمع بينهما، وهذا الانجذاب من خلال المشتركات يدفعه إلى التعارف، وهو بدوره يقود إلى معرفة الأحوال، والأسماء والجنسيات والآلام والمحن والمسرات.

وكما أن الإحرام يدفع الإنسان المسلم نفسياً إلى رفع الحواجز التي تمنع من التعارف على رغم وجود اختلاف في الجنسية واللون والشكل فإنها تربيه على أن لا يتلفت إلا إلى المشتركات وهي كثيرة بين المسلمين وبين البشر، وأن يجعلها هي المنطلق في تعارفه، وأن لا يضع الاختلاف هو من يقود مسيرته وعلاقاته الإنسان والدينية والإيمانية، فلا بد من إلغاء الاختلافات والتركيز على المشتركات في سبيل التعارف ولتتكامل دائرة هذه التعارفات بين المسلمين.

وهذا التعارف لا يقتصر على الإنسان فيما بينه وبين نوعه، بل إنه يتجاوز إلى التعارف بين الإنسان وبين كل ما يدخل في سبيل تحقيق مناسكه على أكمل وجه، من قبيل: الحجارة، والهدي، والشجر، والحيوانات، بل وحتى الحشرات، وطيب غير ذلك من منافيات الإحرام.

ومثل هذه الأحكام المتعلقة بغير الإنسان بذاته ترفع من منسوب الوعي لدى الإنسان المسلم وهو الشعور بما حوله من الكائنات والاستذكار بأنها أيضاً تملك نسبة من الشعور، وأن عليه أن يتعامل معها من منطق الفرق العمل الواحد، وأن لا يستهين بها أو يستضعفها لأنها كلها تتشارك في بناء منظومة عالم الطبيعة وبنظام متق جميل.

رابعاً: المعرفة. ويمكننا أن نقسم المعرفة التي يقدمها الحج للإنسان المسلم على نحوين رئيسيين وهما:
1- فلو لاحظنا أن كل ما ذكر في البين ينطلق من المعارف الصحيحة وهذه المعارف الصحيحة إذا ما وجدت في حياة الإنسان وتفاعلت معه لترقى العبد إلى حياة أفضل، ومن أهم معاجز القرآن الكريم هو المعرفة، فإن ما جاء به القرآن وما جاءت به السنة الشريفة هو الوحيد الذي يحقق السعادة البشرية للإنسان ويحقق حضارته، وأن على الإنسان أن يعتمد المعارف الصحيحة التي تلامس الهدف للخلقة، وأن لا ينخدع بزخرف المدارس الفكرية والتي في الحقيقة لا تحمل سوى السموم التي تؤدي بالإنسان إلى قتل فكري وأخلاقي وروحي.

2- أن ما يقوم به الحاج من الأعمال خلال أيام قليلة، وما يتحمله من المشاق، ويتحمل كل هذا امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى يدعوه إلى التأمل في قابلياته واستعداداته وإمكانياته، فإن الحياة أيضاً فيها الكثير من المنغصات، وفيها الكثير من الجهد والمشاق، فعلى الإنسان أن يعرف جيداً أنه إذا ما قام من مناسك الحج في غضون أيام قلائل فإن تلكم القابليات لا تنسلخ منه، وهي موجودة معه في حياته الاجتماعية، فكما أنه تحمل مشاق الحج في سبيل الله فعليه أيضاً أن يتحمل مشاق الحياة في سبيل الله تعالى، فإن الأهداف واحدة وإن اختلف المضمار.

إن الحج رمز من أهم رموز الولاية الإلهية والبراءة من كل ما يبعد الإنسان عن التوحيد الخالص، التوحيد الذي لا يجامعه شرك لا الشرك الجلي ولا الشرك الخفي، وهذا الجانب من معارف التوحيد ليوقفنا على أن التوحيد لا يقتصر بحثه على الجانب العلمي، بل هو أساساً متميز بالجانب العملي، ومتميز بالحضور الدائم في كل مناح من مناحي الحياة، فكما أن الحج محراب العبادة الزماني والمكاني فإن الحياة كلها محراب التوحيد وزمان ومكان، ولهذا يرى بعض أولياء الله أن الحياة كلها محراب ينبغي على العبد أن يستحضر الرقابة الإلهية، وان لا يرتكب أي مناف من منافيات العبودية الحقة، ولا أي مناف من منافيات التوحيد.
ومن أبرز مظاهر التوحيد الوحدة بين المسلمين انطلاقاً من وحدة مناسك الحج والعبادات جميعاً، وأن على جميع المسلمين إدراك هذه الحقيقة الجميلة، لأنها حقاً تقدم للإنسان رؤية إنسانية صحيحة لا إفراط فيها ولا تفريط، بل تقوم على أساس مبدأ الاعتدال والعدال والوسطية والصراط المستقيم.