Image Not Found

من يعتلي البارجة “أبراهام لينكولن”؟

محمد بن رضا اللواتي – الرؤية

فيما يترقَّب العالم حذراً من حجم الدمار الذي ستحصده البارجة الحربية المروعة، والتي تحمل على متنها أشد آلات الحرب فتكاً وتُدعى “أبراهام لينكولن”، بعد أن تحركت في مياه المحيطات والبحار في مطقتنا لتضيف على مُنجزات الحضارة الأشد توحشاً في تاريخ البشرية، مزيدا من أعمال الإبادة التي تمتهنها بجدارة، ربما كان ينبغي علينا أن نلقي نظرة عن كثب على أؤلئك الذين يعتلون متنها وفي الصف الأمامي تحديدًا.

إنهم كل الفلاسفة “العدميين”، الذين عملوا على إفقاد العقل الغربي القدرة على إدراك الغاية من الوجود، من قبيل ماكس شيرنر الذي لم يعترف إلا بالحرية المطلقة للإنسان وتدمير كل ما يضادها، وفسر الوجود بأنَّه “حرب لا نهائية: الكل ضد الجميع”، ومن أمثال ميخائيل باكونين الذي وصف الشغف بالتدمير “بالشغف الإبداعي”، وأمثال آدم سمث الذي أقام المال مقام “الأنبياء” عندما قال: “جمعوا..جمعوا! تلك هي الشريعة والأنبياء”، وانتهى المطاف بالعدمية إلى “خنق الإله”- كما زعموا إفكا وتضليلا والعياذ بالله، حتى عثر نيتشه على جثته، ليكون ذلك الحدث الأكثر بشاعة في أوروبا حينها.

كيف اعتلى هؤلاء جميعًا متن هذه البارجة المدمرة؟

للإجابة عن هذا التساؤل، لعله من اللازم لنا أن نتعقب مسارها الملاحي، لنرى أنَّها في الواقع لم تتحرك في ظل الظروف الحالية من الاحتقانات السياسية الشديدة، بل تحركت منذ مئات السنين، وتحديداً عندما انحرف العلم عن مساره في الغرب- بحسب “نيتشه”- وانتشر الكسل الأخلاقي المُفضي إلى وجود عبثي وخيبة أمل وغياب الهدف والمعنى، وبالتالي ظهور العبثية المنتجة للتشاؤم والكفر الميتافيزيقي.

لذلك صاح “نيتشه” محذرًا الغرب، وبرفيع الصوت، من أن “البربرية قادمة”!

متى حدث هذا؟

حدث هذا- وبتعبير ديورانت- “عندما كان كل شيء يتطور إلا الإنسان”!

فلقد فشلت فلسفات الغرب في إيجاد أي معنى للحياة، ولم يتمكن الغربي من أن يُفسر سبب اختيار سلوك دون آخر، وخُلُقٌ دون غيره، وبتعبير ريتشاد دورتي كما سجله في كتابه بعنوان: “من المنطق إلى اللغة إلى اللعب” قال: “لا شيء يبرر ممارساتنا ولا شيء يدلنا على الطريقة التي تتواصل بها الأشياء”.

فإذا كان الفكر البشري عاجزا تمامًا عن الوصول لأدنى مبرر على ضوئه يختار نهجا دون غيره، حينها تصبح الحرية المُطلقة والأنانية والسعي للمصلحة الشخصية هي الخيار.

وبتعبير ألبير كامو كما في كتابه “العصيان”: “يؤدي اضمحلال الميتافيزيقا إلى انتصار العدمية المتسمة بالكراهية والعنف”. وتوضح كارين كار الأمر ذاته إذ تقول: “إذا كانت جميع وجهات النظر متساوية في كونها غير ملزمة فإنَّ الغطرسة الفكرية أو المعنوية ستحدد المنظور الذي له الأسبقية”.

إذن، العجز الفكري المفضي إلى عدم فهم الوجود، أنتج الوجودية التي لا ترى غير الأنا البشرية الأعلى، فانحرف العلم من أن يكون وسيلة لتطور الإنسان إلى وسيلة لمراكز القوة والتكبر إلى بسط السيطرة على مقدرات الشعوب، فعوضا عن أن يستمر في حصد الأوبئة التي تفتك بملايين البشر، وإذا به يصبح أداة لتدمير 60 مليون إنسانا من عام 1939 وحتى “هيروشيما”. وإذا بأرقى المدنيات البشرية بات همها الأوحد النهب العلني لثروات الشعوب والتجوال ببوارج القمع التي لا نظير لها، استعراضاً للإمبريالية، لتكون أسوأ مدنية شهدتها البشرية على الإطلاق من زاوية التعطش للحروب ولعق مقدرات المستضعفين في العالم.

إنه مجتمع بتعبير غارودي “يحمل في طياته الجريمة ويولدها بالضرورة… حضارة مؤهلة للانتحار”.

يُؤيد ذلك ما خلص إليه اشبنجلر، في دراسته حول “أسباب تراجع الغرب”؛ إذ رأى أن “الحضارة الغربية قد ولجت مسبقاً مراحل متقدمة من الانهيار مع الأشكال الثلاثة للعدمية التي تعمل على تقويض السلطة الابستمولوجية والتأسيس الانطولوجي الوجودي”.

وكتب كامو في “السقوط” عام 1956م: “الجميع أياديهم ملطخة بالدماء، لأننا مسؤولون في خلق هذه الحالة المؤسفة وجعل عالمنا أسوأ بسبب خذلاننا وأنانياتنا على حد سواء”.

وإذ تمت تنحية العالم الروحي القائم بذاته وإزالته على يد الإنسان- بحسب تفسير هيدغر لمعنى موت الإله- لم يجد نيتشه بديلاً له إلا “الإنسان السوبر” ليجلس في مقعده! إذ إنَّ النقطة الأعمق في العدمية وكما يصفها لنا فرانز فوت بادر هي: “منازعة الله ليكون الإنسان مكانه”.

وإذا به- نيتشه – يدشن تعريفًا للحياة مخيفًا للغاية، وهو: “إرادة القوة والسيطرة والاستيلاء والتسلط والاخضاع”، وبحسب عبدالرحمن بدوي في موسوعته الفلسفية الذي يكتب للخير تعريفًا مروعًا أيضاً فيقول “ما الخير إلا إرادة القوة”، أما الشر فهو “الضعف”، وعليه فالسعادة هي أن “ثمَّة مقاومة ما قد قُضي عليها”، والمحصلة: “ينبغي على الضعفاء أن يفنوا”!

لذلك هؤلاء جميعًا يعتلون متن أشد البوارج الحربية تدميرا في العالم، والتي ستظل تجوب البحار بحثًا عن مزيد من مواقع المستضعفين لتفتيتها، إلى أن يجد الإنسان الغربي فلسفة تعيد للغيب الطريد مكانته فيه لكي يتبوأها، فيترجل “الإنسان السوبر” من كرسي الإله الذي يظن أنه يشغله.

فهل إلى ذلك كان يُشير نيتشه عندما قال إنَّ ثمة أفكارا لم تتولد بعد، وتتنظر دورها في دورة الكون؟ وهل حقاً أن العثور على فلسفة متينة، أو حادثة مفارقة، قد تعمل على جعل العقل الإمبريالي يعيد حساباته؟

من الصعب فعلاً الجزم بذلك، خصوصا وأن آلان برات في كتابه “أفكار حول مستقبل الحياة” قال إنَّ العدمية كانت “جزءا من التقليد الفكري الغربي منذ البداية”.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.