محمد أنور خميس اللواتي – الرؤية
أحد أكبر التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي المُعاصر هو سوء توزيع الثروة. ورغم أنَّ العولمة قضت على الحدود الأفقية بين الدول بجعل العالم قرية صغيرة مترابطة، إلا أنها ساهمت في خلق حدود عمودية في كل دولة عن طريق خلق طبقات اقتصادية بحيث يمكن القول بأنَّ العولمة لا تعود بالنفع على الجميع، وإنما هي حكر على عدد قليل من الناس. تشير التقارير إلى أن أغنى 1% من سكان الأرض يمتلكون قرابة نصف ثروة العالم، وأغنى 100 شخص يمتلكون أكثر مما يمتلكه الأربعة مليارات الأكثر فقرًا.
والتوزيع غير العادل للثروة لا ينافي القيم الأخلاقية وحدها، بل يخلق مشاكل اجتماعية وسياسية تؤثر على نسيج المجتمعات، وتمنع استدامة النمو الاقتصادي. لذا فإنَّ هذا الوضع الاقتصادي المقلق الذي سيطر على العالم قوبل بردات فعل قوية جدًا في مختلف المناطق والدول، بحيث ساهم في بروز أحزاب سياسية ذات توجهات رأسمالية ودخول أحزاب أخرى “شعبوية”. فمثلا ظهرت حركة “احتلال وول ستريت”، والربيع العربي، وبريكست، وأصحاب السترات الصفر في فرنسا، ووصل ترامب “الشعبوي” للسلطة في أمريكا، وصعد الشعبويون في أوروبا. وتسعى الحركات الشعبوية بشكل عام إلى دعم حقوق الشعب، والاهتمام بمطالبه، لتحقيق تنمية شاملة. وشرع المنتدى الاقتصادي العالمي في قياس “مؤشر التنمية الشاملة” لتقديم صورة أكثر شمولية من “الناتج المحلي الإجمالي” لقياس التنمية الاقتصادية، حيث تصدرت النرويج كأفضل الاقتصادات أداءً من بين 103 دول شملها التقرير.
رغم وجود خصوصيات في كل دولة، إلا أنَّ السلطنة تعد جزءًا من المنظومة الاقتصادية العالمية، وتتأثر بها. بالإضافة إلى ذلك فإنّه نتيجة لانخفاض أسعار النفط ــ العمود الفقري لاقتصاد السلطنة ــ تمر السلطنة بوضع اقتصادي ضاغط يصعب تقويمه. ويعمل أصحاب القرار على مواجهة التحديات عبر معالجات مختلفة مثل خلق الوظائف، وتعزيز الموازنة العامة للدولة، ودفع عجلة التنويع الاقتصادي. إلا أنَّ تضييق الفوارق الاقتصادية بين فئات المجتمع العماني تعد من التحديات الكبيرة التي لم تعمل الجهات المختصة على معالجتها بشكل كاف.
وهناك عدة مؤشرات لقياس مدى التفاوت الاقتصادي في السلطنة. ويعد معامل جيني (GINI) أحد أشهر المؤشرات لقياس المساواة في الدخل أو الثروة، حيث يشير الرقم صفر إلى المساواة الكاملة في الدخل أو الثروة، والرقم 1 إلى الانعدام التام للمساواة. يشير تقرير “الثروات العالمية 2018” الذي تصدره كريديت سويس إلى أن “معامل جيني للثروة” في السلطنة هو 0.788 حيث جاءت في المرتبة الـ 129 عالميًا في التوزيع العادل للثروة! كما يعد مؤشر “حصة الأغنى 1% والأغنى 10% من إجمالي الثروة” أحد أهم المؤشرات لقياس التفاوت الاقتصادي في المجتمع، غير أنَّ موقع المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لا يحتوي على تلك البيانات للسلطنة.
وتشير البيانات إلى أن حوالي 112 ألف موظف عماني يتقاضون أجرا شهريا أقل من 400 ريال عماني، بما يعادل ربع العاملين العمانيين. في المقابل تكشف التقارير السنوية لعام 2018م للشركات المدرجة في سوق مسقط للأوراق المالية عن أرقام فلكية لرواتب ومكافآت الإدارات العليا في العديد من تلك الشركات. فمثلاً بلغت مرتبات ومكافآت أكبر خمس موظفين في أحد البنوك العمانية حوالي 5.85 مليون ريال عماني بمتوسط 97,450 ريالا عمانيا للموظف الواحد في الشهر الواحد، فيما بلغت مخصصات أكبر خمسة موظفين في إحدى شركات الاتصالات العمانية حوالي 1.97 مليون ريال عُماني بمتوسط 32,832 ريالا للموظف الواحد في الشهر الواحد، وبلغت مكافآت أكبر خمسة موظفين في إحدى شركات الخدمات العمانية حوالي 1.65 مليون ريال عماني بمتوسط 27,494 ريالاً عمانياً للموظف الواحد في الشهر الواحد.
إن التوزيع العادل للثروة هو مسؤولية الحكومة في المقام الأول، إلا أنَّ جميع أفراد المجتمع مطالبين بمحاربة النسيج الجديد المبني على الأنظمة المستوردة والمبنية على الطبقية الاقتصادية. إننا مطالبون في السلطنة بالتحرك سريعًا لمُعالجة مشكلة التوزيع غير العادل للثروة في بلدنا عن طريق اتخاذ قرارات جريئة، والقيام بإصلاحات هيكلية تعمل على تحقيق تنمية شاملة تصون حياة كريمة للجميع.
حدد الإسلام مجموعة من القيم التي تشكل في مجملها النظام الاقتصادي الإسلامي. ولسنا هنا في وارد تحليل المذهب الاقتصادي الإسلامي، إلا أن من المهم معرفة بعض هذه القيم. إن أول عمل اقتصادي باشره الرسول الكريم في دولته هو حث المسلمين على الإنفاق، مرسخًا بذلك مبدأ التكافل الاجتماعي لتحقيق العدالة. وربط الإسلام القيم الإيمانية مع التنمية الاقتصادية. كما لا يعتبر الإسلام الإنتاج هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة للتوزيع العادل للثروة. هذا بالإضافة إلى التشريعات المتعلقة بالزكاة والخمس لتلافي تكدس الثروة عند الأغنياء، وضبط مصادر الإنتاج مثل قوانين إحياء الأرض الموات. كما ربط الإسلام الاقتصاد بالتشريع الجنائي حماية للمصلحة العامة مثل القوانين المتعلقة بالسرقة، والاحتكار.
ويلعب النظام الضريبي دورًا محوريًا في تحقيق العدالة الاجتماعية حيث يمكنه خفض التفاوت في الدخل والثروة. فمن الضروري إعادة صياغة النظام الضريبي في السلطنة ليعمل على تضييق فجوة الدخل والثروة بدلًا عن فرض ضرائب ورسوم عشوائية بحيث لا يراعى فيها سير الأعمال، وتؤثر على قوت الأقل دخلا. يطرح توماس بيكيتي في كتابه “الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين” فكرة أن تفاوت الثروة في تزايد، لأنَّ العائد على رأس المال أعلى من نسب النمو، ويرى الحل في فرض “ضريبة تصاعدية على الثروة”. قد تكون هذه الفكرة الجديرة تحتاج إلى تنسيق دولي، ولا يُمكن تطبيقها في السلطنة على انفراد بسبب ما قد تسببه من هروب رأس المال، إلا أنه لا يمكن تجاهل إحدى أشهر الضرائب التي تعمل على تحقيق المساواة الاقتصادية وهي الضريبة التصاعدية على الدخل، والتي يزيد فيها معدل الضريبة بارتفاع دخل الفرد.
ولم تجرم التشريعات في السلطنة الاحتكار ردحًا من الزمن، بل وفرت له غطاء قانونيا عمل على تراكم التفاوت الاقتصادي بين أبناء المجتمع. فرغم صدور قوانين منع الاحتكار عام 2014م، ومؤخرًا إنشاء مركز حماية المنافسة ومنع الاحتكار، إلا أن الإرث الاحتكاري الذي ورثناه يتطلب العمل الجاد على خلق بيئة عمل تضمن تكافؤ الفرص، ومحاربة الاحتكار، ومُعالجة تبعاته السيئة لأن ذلك من شأنه دفع القطاعات المنتجة في البلد بدلاً عن تركيز أصحاب المال لمواردهم في “القطاعات الاحتكارية” غير المنتجة. كما أن تفعيل القوانين الجنائية ضد الفساد والرشاوي والتهرب الضريبي والاستعمال الجائر للسلطة وتعارض المصالح والعمل بناءً على معلومات داخلية، إضافة إلى تفعيل دور المؤسسات المدنية يعتبر ضرورة لتحقيق أنظمة يقل فيها التفاوت الاقتصادي.
إننا أمام منعطف خطير جدًا يحتم علينا معالجة التفاوت الاقتصادي. إن الطبقية التي تفرضها الأنظمة الاقتصادية الحالية باتت تولد طبقات اقتصادية داخل المجتمع فتجد طبقة اقتصادية عليا تستطيع توفير أفضل أنواع التعليم والصحة لها ولأبنائها، وطبقة أخرى لا تستطيع توفير نفس المستوى من التعليم والصحة لها ولأبنائها. إن خطط الخصخصة التي تنتهجها الحكومة خصوصًا في مجالات التعليم والصحة قد تساهم في خلق طبقية في النظام الاجتماعي في السلطنة. لذا من المهم جدًا وضع التفاوت الاقتصادي بين المواطنين في أولوية اهتمامات سياسات الخصخصة التي تنتهجها الحكومة لتحقيق العدالة الاقتصادية، إضافة إلى العمل على الإصلاحات الضريبية، وتطبيق القوانين الجنائية المتعلقة بالفساد، وتفعيل دور المؤسسات المدنية، وتحقيق أنظمة تعليم وصحة عالية الجودة للجميع.