الشيخ هلال بن حسن اللواتي
«9»
وبعد أن عرفنا المنهج الأساسي التي ينبغي أن يتخذ في سبيل حقوق كل شيء، وفي سبیل حقوق الإنسان، بدأنا بوضع خطوات العمل، وقد ذكرنا أن هناك أربع خطوات في هذا السياق وهي: معرفة الإنسان، ومعرفة احتياجاته الذاتية، وتحديد حقوقه، وتحقيق الحقوق. تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا المنهج فطري وجداني عقلی، متعرف عليه لدى العقلاء، وهو لا يختص بالإنسان فقط، بل يشكل كل الكائنات على الإطلاق، فإذا أردت أن اتعامل مع الماء أو مع التراب، أو مع طعام أو أية مادة فإن مقتضى الدراسة أن تكون بالخطوات التي ذكرت، وإلا لن يكون التعامل مع الأشياء بالشكل الصحيح، ولربما يؤدي إلى نتائج عكسية، فلو أردت التعامل مع (بذرة التفاح)، وودت أن أزرع التفاح في هذه الحالة لابد من دراسة مكوناتها، ودراسة الأرضية التي تساهم في زراعتها، وفي المناخ المناسب لذلك، وفي المعوقات، وفي الأمراض التي قد تصيب الشجرة، وهكذا تطول قائمة مواد الدراسة، فإن لم أخذ كل ذلك بالحسبان فإني سوف اتحير في حينها، ولربما تسوء الأمور، ويضيع المشروع.
إن الإنسان لا يخرج عن ذلك المنهح أبدا، وسوف نتحدث عن النقاط التي ذكرناها سابقا وبشكل مختصر إن شاء الله تعالى لننظر من خلالها أين تكمن المشكلة عند الإنسان في دراسة صنفه، فإلى الخطوة الأولى وهي معرفة الإنسان: لا شك آن معرفة الإنسان من المسائل التي لها تشعبات كثيرة جدا، ولكن ليس كل ما يكون داخلا في معرفة الإنسان هو موضع اهتمامنا في هذا البحث، كلا فإننا سوف نركز على موضع الحاجة من هذه المعرفة الضرورية جدا، فنقول وبنحو إجمالي، مختصر: نستطيع أن تقول بأن معرفة الإنسان لابد من أن نتناول أمرين أساسيين، وهما: الأمر الأول على ما صممت عليه ذات الإنسان تكوينا، والأمر الثاني: ما هي التركيبة التي ركب عليها الإنسان. فإلى شرح وبيان هذين الأمرين بعون الله تعالى. الأمر الأول: التصميم الخلقي للإنسان، ويعبر عن العنوان المتقدم بعنوان آخر وهو: (التجهيز الذاتي التكويني)، حيث يتجه بنا البحث إلى معرفة ما صممت الإنسان وقت خلقتها لما أن بدأ إيجادها في رحم هذا وجودها.
التصميم الذاتي: (حب الذات ) و ( الفقر الوجودي)،
من الملاحظ في عملية الخلقة التي مرت بالإنسان لحظة وجوده أنها كانت تتضمن عنصرين أساسيين له، وهما ليسا من الأمور الاعتبارية التي تقبل (الخلف) أو (التخلف)، كلا بل هما من الأمور الوجودية الواقعية في وجوده، وهما اللذان سيشكلان الدافع الذاتي الذي سيدفع هذا الإنسان من داخله إلى الحركة والاندفاع والنشاط والانطلاقة والنمو والتطور في كافة الميدان الحياتية، وهذان العنصران هما: العنصر الذاتي الأول: حب الذات، والعنصر الثاني: وجود النقص. فلنشرح هذين العنصرين بما يتناسب ومستوى هذا البحث بعون الله تعالی.
حقيقة العنصر الأول: حب الذات، أما هذا العنصر فإنه فيض من فيوضات “الله” تبارك وتعالى، وهو بحكم البصمة الوجودية في عملية الإيجاد والخلقة، وهو يعد من ذاتيات الخلقة، ومن صميم تركيبته الوجودية، وهو الذي يمكن الإنسان من جذب كل لذيذ إليه، وكل جمیل نحوه، وكل كمال باتجاهه، حقيقة العنصر الذاتي الثاني: النقص، ويوجد هذا النقص لدى الإنسان بحكم موقعه الوجودي، فبما أنه (مخلوق) فإن هذه الصفة تلازم وجوده ملازمة الزوجية الأربعة، وزوالها من المجالات الذاتية، فلا يمكن لل(فقير ذاتا) أن يتحول وينقلب إلى ال(غني بالذات)، فسيتبقى هذه الصفة ملازمة إياه ما دام موجودا. فهذان العنصران اللذان وجدا في صميم خلقة الإنسان، وتركيت ذاته منهما، فإذا لم يضع الدارس هذين العنصرين في دراسته، ولم يتعرف عليهما فكيف يمكنه أن يضع مشاريع وبرامج لإدارة الذات وتنميتها وتطويرها ورفعها وتهذيبها وتزكيتها؟!، أظن الإجابة واضحة لديك عزيزي القاري وعزيزتي القارئة. إن الوقوف على هذين العنصرين بمهدان الكثير من المطالب والمسائل على الدارس للإنسان، لأنه سوف يبدأ بالبحث عما يساهم في تحقيهما بالشكل المطلوب، ويحاول الوقوف بدقة على كل ما قد يؤثر سلبا على الإنسان، إذ لا شك سترد على الذهن الكثير من التساؤلات والتي منها: ما هو الشي الذي يحقق ذات الإنسان»؟! ما هو الشئ الذي يزيد من الشعور بالنقص لديه؟! هل البرنامج (أ) يحقق ما ركبت عليه ذات الإنسان أم لا؟! فإذا هو لا يحقق فهل ستكون له نتائج عكسية أم لا؟! ترى ما هي المشاريع الفكرية والعقلية والنفسية والسلوكية والروحية التي يحتاجها الإنسان بالدقة؟! هل المشروع (ب) سوف يحقق ذاته الإنسان وساهم في تنميته وتطويره وتزكيته ؟! هل كل ما هو جاذب في نظر الإنسان متوافق مع ما ركبت عليه ذات الإنسان أم لا؟! (لأنه ثبت لدى العقل والعقلاء وكذا الأعراف البشرية أن الإنسان قد يختار لنفسه شيء وهو في الحقيقة مضر له، وقد يدفع عن نفسه شيء وهو في الحقيقة يصب في نفعه ومصلحته) فكيف يمكنه أن يميز تلكم الجوانب ؟! وكيف يمكن معرفة ما يدخل ضمن نطاق احتياجاته الذاتي التي صممت عليه ذاته، وكيف يمكن معرفة ما لا يدخل ضمن هذا النطاق؟!. وأسئلة كثيرة ترد في البين، نتركها الآن لاطمئنانئا أن القارئ العزيز قد استوعب ما نقوله وما نذكره.
«10»
إن معرفة الإنسان وما تحتاجه ذاته حسب تصميمها الخلقي وصناعتها وتركيبتها الوجودية هو الأساس لوضع برامج ومشاريع تستطيع إسعاده وإنجاح مسيرته، وبناء على هذه التركيبة والتصميم تتحدد بنود الحقوق لهذا الإنسان، وإلا فسيكون وضع البنود نحوا من الرجم بالغيب الذي لا يتجاوز المخبلة والوهم البشرية.
وبمزيد من التأمل في هذا الإنسان فسنجده مرکبا من الأول: البدن والثاني: الروح.
وبالنظر إلى هذين الأمرين الوجوديين نقف على حقيقتين مختلفتين مترابطتين (وحتى مع الفرض من يقول أن لا وجود للروح وهو رأي الأقلية من الناس وهو لا يستند على حقيقية علمية بل مجرد تكهنات فإنه لا يمكن التغاضي عن حقيقة وهي أن آثار الأمرين مختلفة عيانا ووجدانا وعلميا، فلا يمكن التغافل عنها أبدا ) وهذا الاختلاف بذاته يوجب نحو من التعامل الخاص معه، ولازمه وضع بنود في عالم الحقوق تلبي الاحتياج الذاتي لكل منهما، وهنا نرجع إلى نفس الأسئلة التي سبق وأن ذكرناها في الحلقة السابقة، والتي تتلخص في ماهية هذا الاختلاف، وماهية البنود الحقوقية التي ينبغي أن توضع لكل منهما كمستقلين، ثم ماهية البنود الحقوقية التي ينبغي أن توضع لهما كوحدة واحدة ارتباطية، وكيفية العمل على تحقيق ذلك، وكيفية رفع الموانع، أجل إن مسألة الحقوق ليست بالأمر السهل الذي قد يتصوره البعض. وبعد هذه الخلاصة والموجز السريع في استعراض ما تقدم، نرجع إلى بحثنا، ونتصدره بهذا السؤال: إذا كان الإنسان مزودا بالعنصرين المتقدمين من أصل خلقته، وهما شكلا حركة في وجوده المادي والمعنوي، فما هي العلاقة لهذه التشكيلة الخلقية بموضوع (الحق وحقوق الإنسان)؟ الجواب: إن مجرد وضع العنصرين وما يلازمه من الحركة الجوهرية غير كاف في وصول الإنسان إلى هدفه الذي خلق لأجله، بل هو محتاج إلى تزويده ب(نفس) تملك مقومات التمييز بين (الخير) و ( الشر)، فزودت هذه النفس بأربعة قوی، امتزجت معها، وميزت بصفانها، وهذه القوى الأربع هي أولا: القوة العقلية، وثانيا: القوة الغضبية، وثالثا: القوة الشهوية. ورابعا: القوة الوهمية. وتفصيل هذه القوى الأربعة موكول في محله من كتاب (الفطرة والمشكلة الإنسانية)، وفي كتاب (دروس في علم الأخلاق) ولكن لنتحدث عن هذه القوى الأربعة وبشكل موجز ومختصر بعون الله تعالى: ولكن قبل تعريف هذه القوى الأربع، لا باس بالإشارة إلى ما إليها بتوضيح بسيط.
فنقول: أن انتبه أيها القارئ العزيز إلى أن قول الإعلام بوجود قوی أريع في هذه النفس البشرية لا يعني أن النفس البشرية مركبة منها، بل أن النفس هي هذه القوى الأربع، فهي هي، وإن ذكر هذه القوى النفسانية ليس من باب تكثرها في النفس وتعددها، وانما هي حالات النفس فأفرزت من خلال تجلیاتها، وعرفت من خلال أفعالها، ووصفت من خلال ظهوراتها المختلفة.
ولما أن علمنا أن الله تعالی تبارك وتعالى قد خلق الإنسان ولازمه الفقر الوجودي الذاتي، وكذا لازمه حب الذات، ومنهما انطلق هذا الإنسان إلى البحث عن الكمال المطلق، فإن تلكم الخصلتين شملت كل مكونات شخصيته، وكل ما فيها من القوى، ولو نظرنا إلى القوى الأربع لوجدناها تختلف مع بعضها البعض في صفات معينة، وفي الوقت نفسه تجمع بیتها صفات مشتركة أخرى، فلنتعرف على هذا التقسيم إن شاء الله تعالی بذكر العناوين فقط، وتفصيله في غير هذا الموضوع، إذ يمكن أن تقسم صفات القوى الأربع إلى قسمين رئيسيين، وهما: القسم الأول: الصفات المشتركة، وهي الصفات التي تشترك فيها كل (القوى الأربع)، القسم الثاني: الصفات المختصة، وهي التي تختص بها كل قوة من القوى الأربع دون غيرها ، فإن هذه التركية تدخل في تكوين بنود الحقوق للإنسان والغفلة عنها تؤدي بالنتائج إلى غير ما ينبغي عليه، وهذا يؤثر بدوره على موضوع الحقوق برمته.