الشيخ هلال بن حسن اللواتي – الوطن
قلنا أن الأمر الإلهي يتكون من قسمين أساسيين، أو أمرين أساسيين، وهما:الأمر الأول: الأمر الاعتباري الذي لسانه لسان الاعتبار، والأمر الثاني: وهو ما يكون وراء الأمر الاعتباري، وهنا توقفنا، وسوف نكمل الكلام فيه بإذنه تعالى.
فالأمر الثاني: هو أمرٌ واقعي تكويني، والأمر الاعتباري يستظل تحت مظلته، فنجد أن العلاقة بين الأمرين هي: أن الأمر التكويني متقدمٌ على الأمر الاعتباري وجوداً ورتبةٌ، وما يكون في الأمر الاعتباري فله أُصوله التكوينية الواقعية، وهذا الاختلاف يعد من أهم الفروقات الجوهرية بين (الإمر الاعتباري الوضعي الأرضي) السائد في التعارفات القانونية في المجتمع الإنساني، وبين (الأمر الاعتباري السماوي)، وهذا يعني أن الدور الذي سيناط بالجعل السماوي سيكون (الدور التنظيمي) وليس الايجادي، وسيتضح المطلب فيما سيأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.
الفرق بين اللسان الاعتباري والحكم الواقعي بلحاظ احتياج الفرد الواقعية: وتُفَرِّق هذه المدرسة بين وجود علقةٍ بين الأمر الإلهي والاحتياج التكويني للإنسان وبين اللسان الاعتباري المصاغ لتنظيم هذه العلاقة، فالأمر في هذه الحالة يكون أمراً طبيعياً وضرورياً ـ كما تقدم ذكره سابقاً في تعريف معنى (الجعل الوضعي) ـ فالتفكيك بين حاق المطلب وبين الصياغة البيانية غير مضر في أصل المطلب البتة، فالجعل السماوي وإن كان لسان وضعه اعتبارياً إلا أنه غير مستقلٍ عن الحقيقة الواقعية للإنسان والمخلوق الموجود، فإن كل الأوامر التشريعية تنظر في حاقها الضرورة الإنسانية من الاحتياج والمتطلبات والقابليات، فمرجع الجعل التشريع السماوي هو(الاحتياج الذاتي)، وهذا ما عنيناه بأن ما عليه دور الجعل السماوي هو (الدور التنظيمي)، وليس (الدور الإيجادي)، ومن هنا سوف ننتقل إلى معرفة معنى (الاحتياج الذاتي)، وإلى تبيين حقيقة (الدور التنظيمي) الذي تقوم عليه النصوص السماوية.
المنشأ الذاتي الطبيعي للحقوق: بطوي المقدمات العقلية المبرهنة على إثبات وجود خالق لهذا الوجود الضخم، فإن هذه الحقيقة تقودنا إلى القول بتركيبةٍ منتظمةٍ موحدةٍ للعالم والوجود، وهذا ما يقودنا إليه النظام الوجودي المترابط، الذي يكشف لنا عن وجود (إدارة) واحدة لكل الكائنات والمخلوقات، وهذه (الإدارة الوجودية الموحدة) وما في هذا العالم والوجود من إنتظام الحركات والسكنات؛ ودقة الوظيفة لكل شئ على الإطلاق من الكواكب والمجرات العديدة وما فوقها إلى الكورات وما دونها، ليقودنا إلى أن نقول:
إن هذه الوظائف لهذه الكائنات والمخلوقات ـ سواءً لو نظرنا إليها بلحاظ تشخصها الخاص، أم نظرنا إليها بلحاظ تكيفها وحركتها ضمن مجموعة أجزاء المحيط ـ تكون ضمن تقنين منتظم دقيق توجب القول .. أن لو وضعت أمامها ـ وبشكل عشوائي ـ موانعٌ تشل من حركتها، أو تمنعها من استعداداتها للحركة، أو تحرف حركتها من اتجاه إلى آخر لاختل بذلك النظام الطبيعي العالمي والكوني، فإن طبيعة الغابات أن تزود الأرض بمخزون من الغازات التي هي بدورها تساهم في إيجاد توازنات على مستوى الأُكسجين وغيرها، وقطعها بشكل عشوائي ليؤدي اختلال بيئي طبيعي، وإن وجود مسافات بين الكواكب ووجود الجاذبية ذات الأثر المزدوج وهو الجذب والدفع، لأمر وجودي واقعي ضروري تحتاجه هذه الكواكب وكذا المجرات، ولكن .. لو قلصت هذه المسافات أو تباعدت وبشكل عشوائي لأدى ذلك إلى اختلالٍ كونيٍ طبيعيٍ، وهذا ما يعبر يمكن التعبير عنه بـ (النظام الكوني) الذي لا يمكن تصور أي كائن من الكائنات الموجودة فيها غير مشمولة به، أو مستثنية عنه، فإن ما نشهد من الواقع من جهة، وما تثبته الأجهزة المخبرية من جهة أُخرى، وما تثبته الدراسات الميدانية من جهة ثالثة ليقودنا إلى تبني هذه الحقيقة والاعتراف بها.