د. حيدر بن عبدالرضا اللواتي
تنوعت الأسئلة التي تم طرحها على بعض المواطنين في الاستبيان الذي أعددته مؤخرا حول (سياسات وتوجهات الادخار لدى المجتمع العماني) بغرض الحصول على الدرجة العلمية في «الدكتوراة». ونتناول هنا محورا واحدا يتعلق بالادخار والعمل التجاري. ومن خلال أجوبة أفراد العينة حول السؤال الذي تم طرحه عليهم «إن كانوا يدخرون مبالغهم من أجل أي عمل تجاري مستقبلا»، فقد أفاد أكثر من 88% من الشباب الواعي في المجتمع العماني بأن هدفهم استغلال ادخاراتهم في التجارة والاستثمار مستقبلا سواء في العمل التجاري المباشر أو من خلال الاستثمار في سوق المال أوالعقار، وغيرها من الفرص التجارية الأخرى في مجالات الصناعة والأسماك والسياحة والخدمات اللوجستية. فقد أجاب 34.6% و54.1% على التوالي بـ (موافق بشدة، وموافق) على هذا التساؤل في إطار تشجيع الحكومة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في ممارسة الأعمال التجارية الحرة، الأمر الذي يتطلب تسهيل المزيد من الإجراءات الاستثمارية وتحفيز العمانيين نحو التوجه للعمل التجاري في مختلف الحقول المتاحة.
ووفقا لبيانات الشركات المنتسبة لغرفة تجارة وصناعة عمان فقد بلغ عددها حوالي 240 ألف شركة في عام 2015 تتنوع في فئاتها ودرجاتها لتشمل الشركات المحلية والشركات الاستشارية والعالمية ومن مختلف الدرجات الأخرى الممتازة والأولى والثانية والثالثة والرابعة، والتي تسعى معظمها إلى الاستفادة من مناخ الاستثمار الموجود بالسلطنة. وتشير بيانات وزارة التجارة والصناعة من جانبها إلى أن هناك زيادة بنسبة 41.2% في إجمالي عدد المؤسسات المسجلة في السجل التجاري في السلطنة خلال عام 2015، مقارنة بانخفاض قدره 21.8% خلال عام 2014. وتشكّل المؤسسات التي يبلغ رأس مالها أقل من 10 آلاف ريال عماني نحو خمسي المؤسسات المسجلة في السلطنة خلال عام 2015 بنصيب 38.9% من إجمالي المؤسسات، وتأتي في المرتبة الثانية المؤسسات التي يتراوح رأس مالها بين 20 إلى أقل من 50 ألف ريال عماني بنسبة 32.1%. أما نسبة المؤسسات المسجلة في السجل التجاري في السلطنة خلال عام 2015 والتي يبلغ رأس مالها مليون ريال عماني فأكثر، فقد بلغت 0.1% فقط من إجمالي المؤسسات. وتستحوذ محافظة مسقط على أعلى نسبة من إجمالي المؤسسات المسجلة في السجل التجاري في السلطنة خلال عام 2015 بنصيب 29.6%، تليها محافظة ظفار بنصيب 16.7%، وتأتي في المرتبة الثالثة محافظة شمال الباطنة بنصيب 14.7% ثم المحافظات الأخرى. أما إجمالي عدد المؤسسات المسجلة في السجل التجاري لدى وزارة التجارة والصناعة فقد بلغ 312651 مؤسسة مع نهاية 2015، ولكن تم إلغاء الكثير من تلك المؤسسات لاحقا نتيجة للمخالفات التي تم رصدها في تلك السجلات، قبل البدء بشعار «استثمر بسهولة». ونتائج هذه السجلات الوهمية يتم اكتشافها كل مرة من قبل المؤسسات المعنية. ومؤخرا تم محاكمة أحد المواطنين الذي كان يمتلك أكثر من 88 سجلا تجاريا، ويتلاعب في الحصول على مأذونيات للأيدي العاملة الوافدة والاستفادة من ورائها من خلال الأساليب الملتوية.
ويمكن تفسير تلك النتائج في ضوء ذلك إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع أفراد العينة يرون أهمية الادخار من أجل التجارة مستقبلا، بينما يرى أقل من الربع من هؤلاء الأفراد بأن هدف الادخار لديهم هو من أجل تحقيق أمور أخرى مستقبلا، حيث بلغت نسبتهم 8.1% و3.3% على التوالي ممن أجاب بـ (غير موافق، وغير موافق بشدة)، الأمر الذي يوحي بأن عدد العمانيين الذين سيدخلون في قطاع التجارة في المستقبل سوف يتزايد في حال صدور التشريعات والقوانين الجديدة التي تهيئ لهم الأرضية المناسبة لإدارة مشاريعهم الخاصة، مع العمل على محاربة التجارة المستترة التي تدار من قبل بعض التجار الوافدين الآسيويين المسيطرين على معظم الأعمال التجارية في البلاد.
إن تحفيز وتفعيل قطاع الاستثمار والتجارة في البلاد وتوفير بيئة مثالية لتطوير وتنمية هذا القطاع الحيوي سيكون لها دور فعال ليس فقط في تحقيق منظومة تنويع مصادر الدخل التي تسعى السلطنة لتجسيدها على أرض الواقع لمواجهة انخفاض أسعار النفط، بل أيضا في توفير فرص وظيفية للشباب العماني خلال المرحلة المقبلة التي ستشهد دخول الآلاف من العمانيين إلى سوق العمل. فالسلطنة بحاجة لتوفير آلاف فرص العمل للمواطنين الذين سيدخلون سوق العمل حتى العام المقبل 2020، الأمر الذي يتطلب وضع خطة مدروسة تركز على استقطاب استثمارات كبيرة وجديدة، مع العمل على تطوير الاستثمارات الموجودة في مختلف القطاعات. فأي استثمار في القطاع الاقتصادي يجب أن يحمل معه فرصا وظيفية واعدة للشباب العماني، فيما يؤكد الكثير من المهتمين بأن القطاع التجاري بحاجة الى المراجعة الشاملة ليتلاءم مع متطلبات المرحلة الراهنة، إذ ان الكثير من التشريعات والقوانين التي تنظم هذا القطاع بحاجة الى مراجعة وتحديث مع التركيز على توفير حزمة من التسهيلات والحوافز وتبسيط الإجراءات وجمعها تحت مظلة واحدة تخفف على المستثمرين عناء التنقل بين مختلف الجهات، خاصة وان السلطنة قطعت شوطا كبيرا في تحقيق الحكومة الإلكترونية ومن خلال سياسة (استثمر بسهولة).
والأمر الآخر أن السلطنة تتمتع ببيئة خالية من الإرهاب، الأمر الذي يساعد على تعزيز الاستثمارات والمبادلات التجارية مع العالم. فمؤشر الإرهاب العالمي في عمان «صفر» وفق التقارير الدولية، وهذا إنجاز غير عادي خاصة انه تحقق في وقت يعيش فيه العالم على فوهة بركان ويشهد صراعات عديدة. ويعزى ذلك إلى أن الوعي الذي تتحلى به الحكومة العمانية والمواطنون والمقيمون جعلهم يعيشون حالة من الاستقرار الأمني الشامل، الأمر الذي يتطلب استثمار هذا العامل بطريقة مدروسة، باعتبار أن المستثمر يولي عنصر الاستقرار أهمية قصوى في اختياره لوجهة مشاريعه، بجانب تقديم التسهيلات والحوافر، وتبسيط الإجراءات لاستقطاب الاستثمارات المحلية والأجنبية، خاصة وان هناك منافسة شرسة بين الدول لجذب المستثمرين في ظل الأزمة الاقتصادية التي مست معظم دول العالم مع الانخفاض المتواصل لأسعار النفط. ومن هنا يأتي ضرورة تفعيل وتطوير المؤسسات الصغيرة لبناء اقتصاد قوي ونوعي. ونرى اليوم أن هناك إقبالا كبيرا من الشباب العماني على قطاع ريادة الأعمال، الأمر الذي يؤكد الطموح الكبير الذي يتحلى به جيل المستقبل ورغبته الشديدة في بناء مستقبله والمساهمة في التنمية الوطنية الشاملة. فعدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تم تأسيسها في البلاد بنهاية شهر مارس من العام الماضي بلغ 33 ألفًا و652 مؤسسة، مقارنة بـ31 ألفًا و835 مؤسسة بنهاية العام 2017.
إن تحفيز الشباب بالتوجه نحو العمل الحر وتأسيس المشروعات الصغرى والصغيرة باتت ظاهرة في معظم الدول العربية نتيجة لتراجع فرص العمل بها. وهذا ما يجب عمله في الوقت الحاضر، خاصة وأن معدل البطالة في الدول العربية عموما يزيد عن 11% ، وتتركز بين الشباب المتعلم، حيث ان واحدا من كل أربعة عاطلين عن العمل متحصل على شهادة جامعية وفق بيانات التقرير الاقتصادي الموحد لعام 2015. كما أن ارتفاع معدلات البطالة في الدول العربية يرجع بالأساس إلى عدم قدرة الاقتصاديات العربية على توفير فرص عمل كافية للمتعلمين وأصحاب المهارات العالية نتيجة لعدم تنوعها وتخصص العديد منها في إنتاج المواد الأولية وفي السلع ذات القيمة المضافة المتدنية. وعليه يرى التقرير أن تنويع الاقتصاديات وتسريع وتيرة النمو والارتقاء في سلم التخصص العالمي يبقى من التحديات التي يتوجب مواجهتها بالموازاة مع إصلاح التشوهات في السياسات والحوافز الخاصة بأسواق العمل والتعليم وتدني مستوى المخرجات التعليمية. وأخيرا سوف نتناول لاحقا فيما ورد في هذه الدراسة بشأن التوجهات الأخرى للعمانيين في مجال الادخار.