مرتضى بن حسن بن علي – الرؤية
بغداد.. تلك المدينة الباهرة في أيام مجدها، وفي قلب عالم من المعرفة والفكر والفن، تعودنا أن نطل عليه ونصغي إليه. كان يطلق على العراق ببلاد ما بين النهرين، وأصبح مهداً لحضارات متعاقبة قبل نحو عشرة آلاف سنة، وأهدى العالم أول أبجدية في تاريخ البشرية وحكمته الإمبراطوريات المحلية، من السومرية، والآكدية، والبابلية، والآشورية، وبرز على السطح ملوك عظام مثل حمورابي، الملك البابلي المشهور، الذي قام بسن شريعته المشهورة بقانون حمورابي ضّمت الشريعة مجموعةً من القوانين المدنيّة، والأحوال الشخصية، وكذلك العقوبات.
وبسبب أراضيه المنبسطة والخصبة، غزته عدد من الإمبراطوريات الأجنبية. وفي زمن الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب تمكن عمرو بن العاص من فتح العراق، وإزاحة الدولة الساسانية الفارسية في معركة القادسية المشهورة. ولاحقا في زمن الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب، أصبح العراق مركزا للدولة الإسلامية. كما دخل العراق خلال عهد الخلافة العباسية الأولى التي انتهت بوفاة المأمون، عصره الذهبي، والذي دخل بعد وفاته في سلسلة من الصراعات الداخلية بدأ معها الضعف التدريجي للدولة العباسية. وبعد سلسلة من الغزوات والفتوحات أصبح العراق تحت حكم البويهيين والسلاجقة الأتراك إلى أن سقط بيد المغول عام 1258م . ولاحقا أصبح العراق ضمن سيطرة الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، كما أصبح بشكل متقطع تحت السيطرة الصفوية الفارسية والمملوكية.
وعلى أرض العراق، عاش عددٌ كبير من أنبياء اليهود والمسيحيين وأئمة كل المذاهب الإسلامية التي نعرفها كما عاش فيها عدد كبير من المفكرين والشعراء والعلماء المسلمين. وتوجد فيه مواقع كثيرة مهمة من دور العبادة والمقامات للديانات السماوية الثلاثة. وفي جنوب العراق، أنشئت مدينة أور التاريخية التي ولد فيها النبي إبراهيم، وفقا للتوراة، وكذلك توجد المقامات المنسوبة لأنبياء من اليهود والمسيحيين مثل دانيال وحزقيال ويونان (يونس) ونوح، وهود وصالح والنبي ذي الكفل وغيرهم.
كما شهد العراق بعضًا من أشد المعارك دموية بين المسلمين أنفسهم مثل معركة الجمل قرب مدينة الزبير الواقعة في جنوب البصرة. وكانت تلك أول معركة تنشب بين المسلمين أنفسهم، حيث اقتتل فيها أناس يؤمنون بدين واحد، ويتلون كتاباً واحداً، ويصلون إلى قبلة واحدة، ويؤمنون بنبي واحد، بعدما كانوا قبل ذلك، يحاربون أقواماً من غير دينهم، واثقين بأن الحق معهم، وأن الباطل مع أعدائهم. وأُرِيقت في معركة الجمل، سيول من الدماء المسلمة. وكنتيجة لطبيعة المعركة وأطرافها، أصبحت لها أهمية فكرية واجتماعية كبيرة، إذ اشتد الجدال نتيجة لحيرة عدد كبير من الناس الذين كانوا يتساءلون عن الحق في أي جانب يكون؟ أيكون الحق مع علي أمير المؤمنين أم مع عائشة أم المؤمنين؟ ومع كل الجدال كان صعبا أن يصل الناس إلى نتيجة عقلية حاسمة؛ حيث كل فريق يملك من البراهين ما يُؤيد بها موقفه. وكان لا بد من إجابات فلسفية. ووسط هذا الجدال، نشأ مذهب الاعتزال على يد واصل بن عطاء، ونشأ معه علم الكلام. فصارت البصرة من جراء ذلك مباءة للجدل المنطقي والبحث في أصول الدين والفلسفة الإغريقية. وبسبب انتشار التلحين في اللغة العربية، تحولت البصرة إلى أول مدينة تعنى بعلم النحو العربي وتضع أصوله، ولاحقا ظهرت مدرسة الكوفة للنحو، وكونت لها طابعها الخاص واعترضت على مدرسة البصرة النحوية، إذ إنَّ نحاة الكوفة كانوا يعترضون على نحاة البصرة في إخضاع النحو للقياس ويناقشونهم نقاشا عنيفا.. وأدى هذا الصراع لاحقا إلى الخصومة وسفك الدماء، كما أصبحت البصرة أول مدينة يُترجم فيها المنطق.
من العراق أيضا انتقلت جميع المذاهب والفرق الإسلامية تقريبا، والتي بمجموعها أسهمت في نسج هذا الذي نُسمِّيه بالتراث الإسلامي الضخم. كما أقام وعاش فيه كثيرون من علماء وأئمة المسلمين من كل المذاهب الإسلامية.
ففِي مدينة الزبير جنوب البصرة، يوجد مرقد الصحابي الزبير بن العوام، وهو ابن عمة النبي، وأحد المبشرين العشرة بالجنة…وغيرهم. وفِي مدينة البصرة أيضا، والتي كانت تعتبر آنذاك من حواضر العالم الإسلامي، سَكن بها جملة من الصحابة والتابعين، منهم الإمام جابر ابن زيد، الذي بقي متنقلا بين البصرة والحجاز لطلب العلم، كما عاش عدد آخر من الصحابة.
وفي الكوفة، أقام الإمام علي بعد معركة الصفين ونتائجها، وقريب من الكوفة وفِي قرية صغيرة اسمها الحويراء أو حاروراء، تم انتخاب الإمام عبدالله بن وهب الراسبي كخليفة. وفي شرق بغداد على نهر الديالى، جرت معركة رهيبة أخرى بين المسلمين وسميت بمعركة النهروان. وفِي أرض العراق أيضا ولد وعاش ودفن الإمام أبو حنيفة النعمان. كما عاش فيها كل من الأئمة مالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن َحنبَل، والشيخ عبدالقادر الكيلاني، ومسلم بن عقيل، والصحابي سلمان الفارسي، والصحابي حذيفة بن اليمان، وغيرهم. كما عاش في العراق الإمام جعفر الصادق، وعلى أرضها توجد مراقد كل من: علي بن أبي طالب، والحسين بن علي، وأخيه العباس، وبعضا من أفراد عائلته، وموسى الكاظم، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، وحسن العسكري، وزيد بن علي زين العابدين، وأخوه عبدالله… وغيرهم.
وهي ملحمة ذاع صيتها، وكانت بالخط المسماري كُتبت على اثني عشر لوحا طينيا واكتشفت أول مرة بالصدفة، وعرف فيما بعد أن المكان كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري المشهور آشور بانيبال في نينوى شمال العراق، وهي الألواح المحفوظة في المتحف البريطاني في لندن. والملحمة تحمل معاني الخصوصية البشرية في أسمى مراحلها وقلقها وارتباكها وتناقضها الفسيولوجي والروحي. ملحمة عالجت مواضيع عديدة؛ ومن ضمنها: موضوع الديمقراطية بالعراق في تلك الفترة الموغلة في القدم؛ حيث كان شعب بابل الذي شيد الحدائق المعلقة في المدينة التي تقع الآن في وسط العراق: الحلة، كان في تلك الفترة، يخلع ملكه لدقائق ليتنفس حريته بداية كل عام، وهي عادة أقرتها “الآلهة” لكي يعترف خلالها الملك بخطاياه ويلامس فيها طينته ويرى فيها إنسانيته التي أعماه عنها صولجانه وتاجه.
وفي بغداد، نظم الشاعر العباسي علي بن جهم أبياتًا من الشعر، ضمن قصيدة رائعة في أيام الخليفة العباسي العاشر جعفر المتوكل على الله: عيون المها بين الرصافة والجسر، جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري، أعدن لي الشوق القديم ولم، أكن سلوت ولكن زدت جمرا على جمر. وقال أحمد شوقي وعيناه على مياه دجلة المتدفقة التي تفصل بغداد إلى شطرين: الرصافة والكرخ: يا شراعاً في دجلة يجري، في دموعي تجنبتك العوادي. وغنت أم كلثوم أغنيتها الرائعة في العام 1958: “بغداد”. وهي من كلمات الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل، وتلحين الملحن الكبير رياض السنباطي: بغداد يا قلعة الأسوِد، يا كعبة المجد والخلوِد، يا جبهة الشمس للوجوِد، سمعت في فجرك الوليِد، توهج النار في القيوِد، وبيرق النصر من جديد يعود، في ساحة الرشيد.
أصبحت بغداد الآن مدينة جريحة تتلقى الطعنات الدامية من أماكن عديدة، داخلية وخارجية، وهي ُموشكة على الانتفاض لكي تعيد مجدها القديم. بغداد تحاول أن تسمو فوق جراحاتها العديدة. أينما ذهبت تشم رائحة الموت وترى صور الشهداء والأعلام السود.اء ولكن مع ذلك تمتلك الإصرار على الحياة وتحدي الموت وهو مؤشر على أن “كلكامش” يستطيع أن يكتب من جديد ملحمة عراقية جديدة.. فهل ستحقق هذه الأمنية؟