د. حيدر بن أحمد اللواتي** – شرق غرب
على الرَّغم من أنَّ الإسلام نَشَأ في بيئة أميَّة يُحيط بها الجهل من كلِّ جانب، وعلى الرَّغم من أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أميًّا لا يعرفُ القراءة والكتابة، إلا أنَّ الإسلام استطاع أنْ يبنِي حضارةً عريقةً تُنسب له، ولم يحدُث في التاريخ أنْ تنسب حضارة إلى دين مُعيَّن؛ فأغلب الحضارات تُنسب إلى المناطق الجغرافية التي قامتْ بها كالحضارة البابلية واليونانية والرومانية، ولعلَّ أحدَ أهم الأسباب التي أدَّت إلى المُسَاهمة الفاعِلَة للحضَارة الإسلاميَّة في تطوير العلوم الطبيعية؛ هو: أنَّ الاسلام رَفَع من قيمة العلم والعلماء بشكلٍ مُنقطع النظير، وهذا الأمر له دَلَالات عظيمة ويحقُّ للمسلم أنْ يُفَاخر بأنَّ دينه من أكثر الأديان -إن لم يكن أكثرها على الإطلاق- تعظيمًا لمقام العلم والعلماء، ولم يَكتف الإسلام برفع مقام العلم والعلماء فحسب، بل انفردَ بأسلوبٍ فريدٍ في حثِّ المسلمين على طلب العلم؛ فقد اعتبر طلب العلم فريضة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، ولم يَحُدها بحدٍّ لا زمانا ولا مكانا ولا مصدرا، فقد رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”؛ فلا يُوجد هناك سن للتقاعد عن طلب العلم، بل على الإنسان أن يَسعَى لطلب العلم حتى نهاية حياته. أما الحد المكاني، فقد حثَّ الإسلام حثًّا شديدًا على السفر لطلب العلم، واعتبَر الإنسان الذي يُتوفى في سفره شهيدًا، كما ورد عنه قوله: “اطلبوا العلم ولو في الصين”، وقد أشار صلى الله عليه وسلم الى الصين ككناية عن البعد؛ فلم يعتبر الفاصلَ المكانيَّ حاجزًا يقف حجر عثرة أمام المسلم لطلب العلم، وأخيرًا حثَّ الإسلامُ المسلمَ على طلب العلم حتى من غير المسلم.
ومن هذا المنطلق، فلا غَرابة أنْ شيدت الحضارة الإسلامية وأسهمتْ مُساهمة فاعلة في تطوير العلوم الطبيعية؛ فكانتْ مُسَاهمة العرب واضحة في علوم: الأحياء، والكيمياء، والفيزياء، والفلك، والرياضيات.
ويُمكن أنْ نُقسِّم إسهامات المسلمين الى نَمطَيْن أساسييْن؛ النمط الأول: المساهمة المُبدِعة في بعض العلوم الطبيعية والرياضيات، وهنا يبرز الدور الفاعل للمسلمين في علم الجبر؛ حيث إنهم أبدعوا العلم، وكان لهم قصب السبق فيه، كما أنَّ العالِمَ العربيَّ الكبيرَ الحسن ابن الهيثم أبدع في علم البصريات، وقام بفتح جديد فيه. أما النمط الآخر: تَكْمِلة لما بدأ به اليونانيون، وكانت لهم فيه مُسَاهمات فاعلة، لكنها لا تصل إلى حدِّ الإبداع كمُساهمتهم في علم الكيمياء والأحياء. ومن الملاحظ أنَّ عُلماء الحضارة الإسلامية اهتمُّوا كثيرًا بالجانب العملي والتطبيقي للعلوم، ولم يُبدوا اهتماما كبيرا في التنظير وتعميم القوانين العلمية، ويبدو أنَّ هذا التوجُّه طاغٍ على الحضارات الشرقية عمومًا؛ فعلى الرَّغم من أنَّ العرب اعتمدوا كثيرًا على التجريب والملاحظة في أبحاثهم، إلا أنهم لم يؤصلوا بشكل واضح وصريح للمنهج التجريبي، وإن قاموا باستخدامه بل مارسوه بشكل كبير جدًّا؛ فنجد جابر بن حيان عالم الكيمياء الأكثر شهرة في العالم الإسلامي قاطبة، والذي حَضَر حلقة الإمام جعفر الصادق، ودرس فيها العلوم الكيميائية واللغوية والشرعية، أبدع في تحضير عدد من الأحماض، وأكد على استخدام المنهج التجريبي، إلا أنه لم يُؤصِّل لعلم الكيمياء على المستوى التنظيري، فلم يهتم كثيرًا بأصل المادة، ولا بمفهوم الذرَّة.
ومِنَ الأمور الأخرى اللافتة للنَّظَر أنَّ عُلماء الحضارة الإسلامية على الرغم من إسهامِهِم وإبداعهِم في علم الجبر والحساب، إلا أنَّ استخدامَ المعادلات الكَميَّة في العلوم الطبيعية ظلَّ محدودًا جدًّا، وغلب الطابع الوصفي في مناهجهم العلمية، إنَّ استخدامَ الوصف الكمِّي في العلوم الطبيعية كان واحدا من أهم الإنجازات البشرية التي فَتَحت الباب على مِصرَاعيه أمام البشرية؛ للاستفادة بشكلٍ منقطع النظير من العلوم الطبيعية.
فعلى سبيل المثال: اقتصرَ موضوع الحركة عند المسلمين على الدراسة الوصفية، بل يكاد يسيطر عليها البُعد الفلسفي؛ فعلى الرَّغم من وجود مُؤشرات قد يُستفاد منها، إلا أنَّ بعضَ قوانين الحركة قد أشار إليها عدد من علماء المسلمين، ولكن لا يُمكننا أنْ ننسب الفضلَ في اكتشاف هذه القوانين إلى علماء المسلمين، بل الفضل يعُود لنيوتن؛ وذلك لأنَّ ما ورد في كُتب بعض علماء المسلمين من إشارات إنَّما هي قوانين وصفية لم تشتقُّ منها مُعَادلات رياضية واضحة، ولم يُشِر فيها إلى استخدام المنهج التجريبي. أما نيوتن، فقد قامَ بصِياغة قوانين الحركة الثلاثة صياغة رياضية متكاملة، وبصورة رياضية دقيقة، ثمَّ قام بإثبات هذه القوانين بتجارب عملية، واستفادت الحضارة البشرية منه استفادة عظمى.
ولا يُمكنَنا في هذه العجالة أنْ نتناول أسبابَ النهضة العلمية الرائدة التي قام بها المسلمون، ولكن نشير هنا إلى عددٍ منها لأهميتها، أو للفت الانتباه إليها.
لا شكَّ أنَّ الترجمة من اللغات المختلفة إلى العربية لعبت دورا مهمًّ جدًّا في تطور العلوم الطبيعية في زمن الحضارة الإسلامية؛ فكان بيت الحكمة مركزًا فكريًّا ضخمًا احتوى كُتبًا من مختلف الحضارات: الفارسية، واليونانية، وتمت ترجمتها إلى العربية؛ لذا فإذا أردنا أن نقُوم بنهضة علمية حقيقية فلابد من العمل بجد على إيجاد مؤسسات تقوم بعملية الترجمة من اللغات المختلفة إلى العربية، وهذا سيُؤدِّي إلى توطين البحث العلمي في عالمنا الإسلامي؛ فالعلوم الطبيعة في الوقت الحالي تعدُّ غريبة عن واقعنا الإسلامي؛ لأنها أجنبية اللسان. ومن اللافت للنظر أنَّ هناك عددًا من المؤسسات في الوقت الحاضر تُعنى بترجمة الكتب العربية إلى اللغات الأخرى؛ بهدف إبراز دور الثقافات الشرقية إلى الغرب، إلا أننا نرى أنَّ هذا النوع من الترجمة أقل فائدة لنا، لكنه يفيد الآخرين، ويُسدِي لهم خدمات جليلة.
الأمر الآخر الذي يَجِب أن نُدركه أنَّ التطوُّر العلمي له ارتباط وثيق بالحريات الفكرية، وقد نجد ذلك جليًّا في العصر العباسي؛ فمساحة الحرية الفكرية كانت واسعة نسبيًّا؛ فقد انتشرت مُختلف الأفكار على مُستوى العقيدة والفلسفة، ومن ثمار الحريات الفكرية: حرية مواجهة الأفكار العلمية المسلَّم بها في آن ما؛ فابن الهيثم مثلًا واجه مُسلَّمة علمية ورثها المسلمون من اليونان حول الضوء، وضرب بها عرض الحائط، وأثبت خطأها بتجارب علمية دقيقة ومُبهرة.
وقد يشكل البعض على مفهوم الحرية الفكرية بأنَّ ذلك سيعرِّض المجتمعات إلى أفكار سيئة ومفاهيم خاطئة، وهذا أمرٌ وإن بَدَا صحيحًا إلا أنَّ المتتبِّع لتطوُّر العلوم الطبيعية، يجد أنَّ تطورها يكون مُوَاكِبا للحرية الفكرية في أغلب الحالات، وكأنَّ الثمن الذي تدفعه المجتمعات للتطوُّر العلمي هو إيجاد مِسَاحة كبيرة للحرية الفكرية؛ لأنَّ الأفكار المبدعة والرائعة لا تتولَّد من فراغ، بل لابد من عصفٍ ذهنيٍّ تقوم به المجتمعات ككل، تطرح فيها مختلف الأفكار -الغث منها والسمين- وفي نهاية المطاف يبقَى للمجتمع حُريَّة الاختيار بين الأفكار التي تنهض به وتلك التي تُرجِعه إلى الوراء، وهنا تبرُز أهميَّة بناء الفرد في المجتمع على التفكير الناقد والسليم، حتى يستطيع أن يُميِّز بين الأفكار ويقيمها.
أخيرا.. لابُد من الاشارة إلى قُدرة الحضارة الإسلامية على استيعاب الآخرين من أصحاب الديانات المختلفة، أو الأصول غير العربية؛ فلقد غَدَا يُوحنا بن ماسويه وابن سينا والفارابي والخوارزمي… وغيرهم، أبناءً للحضارة الإسلامية؛ إذ إنهم قاموا بنشر أفكارهم بلغة الحضارة الإسلامية وهي العربية؛ فانتماء الإنسان لا يكون بنَسَبه، وإنما باللغة التي ينشر فيها فكره، وهؤلاء جميعًا نشروا علومهم وأفكارهم بلغة الحضارة الإسلامية، وهي اللغة العربية، والتي تعدُّ وعاءَ الحضارة الإسلامية؛ لذا فهُم أبناء العربية، حالهم كحال ابن الهيثم والكندي… وغيرهما.
بَقِي سؤالٌ أخير ليس من السَّهل الإجابة عنه، وقد يكون موضعَ خلافٍ بين الكثيرين؛ وهو: هل يُمكن أن نعتبِر أنَّ الحضارة الإسلامية قامت بثورة علمية، أم أنَّها أسهمتْ بشكلٍ تراكميٍّ في تطوُّر العلوم الطبيعية؟ حيث يعتبر البعض أنَّ العلم كما أنه تراكمي البنيان، فإنه يمرُّ بمراحل نستطيع أن نُعبِّر عنها بمراحل الثورة العلمية؛ حيث يقول العالم المعروف توماس كوهن في كتابه “بنية الثورات العلمية”: إنَّ التطور العلمي ليس فقط سلسلة تراكمية، بل إنَّه يحدث ويتقدَّم بسبب أحداث
ثورية ناجمة عن حالات شاذة، أو نتائج غير مُتوقعة بناءً على النموذج العلمي الموجود؛ فهل قامت الحضارة الإسلامية بثورة علمية، أم أنَّ مُساهمة الحضارة الإسلامية كانت مُكمِّلة لما بدأه اليونانيون؟
عِندَما نحاول أنْ نَقُوم بتقييم لإنجازات الحضارة الإسلامية بحياديَّة، فإننا نجد أنَّ الحضارة الإسلامية أسهمت مُسَاهمة فاعِلة في تطوير العلوم الطبيعية، إلا أنه من الصَّعب القول بأنها قامتْ بثورة علمية؛ فهي لم تقلب الطاولة على ما ورثته من النموذج العلمي الذي بدأه اليونانيون، إلا في حدود ضيِّقة جدًّا، ولكن هذا لا يقلِّل من حجم المساهمة الكبيرة للحضارة الإسلامية في تطوير العلوم الطبيعية.
استمرَّ وَهَج الحضارة الإسلامية يُنِير العالم بأسره لقرون من الزمان، وخمدت جذوته في القرن الخامس عشر الميلادي؛ فمن القرن السادس عشر الميلادي وحتى القرن العشرين لم تُسهم الحضارة الإسلامية في مجال العلوم الطبيعية بشيء مُؤثِّر في مسيرة العلوم الطبيعية في التاريخ البشري؛ اذ قامتْ الحضارة الغربية في أوروبا بنقل وترجمة علوم الحضارة الإسلامية إليها، ونهلت منها، ثم قدَّمت للعالم نموذجًا علميًّا جديدا، وقادتْ البشرية إلى تطوُّر علمي لم يسبق له مثيل.
المصادر:
* “قوانين الحركة والجاذبية.. اكتشاف نيوتن أم المسلمين؟”، أ.د. راغب السرجاني، موقع “قصة الإسلام”.
* “بنية الثورات العلمية”، توماس كون، النسخة العربية، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة.
* “الإمام الصادق.. مُلهِم الكيمياء”، دكتور مُحمَّد يحيى الهاشمي، طبعة دار الأضواء.
* Sapiens: A Brief History of Humankind, Yuval Noah Harari, 2011.
**أستاذ مشارك بكلية العلوم جامعة السلطان قابوس
تاريخ النشر: 11 إبريل 2019م