Image Not Found

هل أسهمت الحضارة الاسلامية في تطوير العلوم الطبيعية؟

د‭. ‬حيدر‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬اللواتي** – شرق غرب

على‭ ‬الرَّغم‭ ‬من‭ ‬أنَّ‭ ‬الإسلام‭ ‬نَشَأ‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬أميَّة‭ ‬يُحيط‭ ‬بها‭ ‬الجهل‭ ‬من‭ ‬كلِّ‭ ‬جانب،‭ ‬وعلى‭ ‬الرَّغم‭ ‬من‭ ‬أنَّ‭ ‬النبي‭ -‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭- ‬كان‭ ‬أميًّا‭ ‬لا‭ ‬يعرفُ‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬الإسلام‭ ‬استطاع‭ ‬أنْ‭ ‬يبنِي‭ ‬حضارةً‭ ‬عريقةً‭ ‬تُنسب‭ ‬له،‭ ‬ولم‭ ‬يحدُث‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬أنْ‭ ‬تنسب‭ ‬حضارة‭ ‬إلى‭ ‬دين‭ ‬مُعيَّن؛‭ ‬فأغلب‭ ‬الحضارات‭ ‬تُنسب‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬الجغرافية‭ ‬التي‭ ‬قامتْ‭ ‬بها‭ ‬كالحضارة‭ ‬البابلية‭ ‬واليونانية‭ ‬والرومانية،‭ ‬ولعلَّ‭ ‬أحدَ‭ ‬أهم‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدَّت‭ ‬إلى‭ ‬المُسَاهمة‭ ‬الفاعِلَة‭ ‬للحضَارة‭ ‬الإسلاميَّة‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية؛‭ ‬هو‭: ‬أنَّ‭ ‬الاسلام‭ ‬رَفَع‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬العلم‭ ‬والعلماء‭ ‬بشكلٍ‭ ‬مُنقطع‭ ‬النظير،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬له‭ ‬دَلَالات‭ ‬عظيمة‭ ‬ويحقُّ‭ ‬للمسلم‭ ‬أنْ‭ ‬يُفَاخر‭ ‬بأنَّ‭ ‬دينه‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الأديان‭ -‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أكثرها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭- ‬تعظيمًا‭ ‬لمقام‭ ‬العلم‭ ‬والعلماء،‭ ‬ولم‭ ‬يَكتف‭ ‬الإسلام‭ ‬برفع‭ ‬مقام‭ ‬العلم‭ ‬والعلماء‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬انفردَ‭ ‬بأسلوبٍ‭ ‬فريدٍ‭ ‬في‭ ‬حثِّ‭ ‬المسلمين‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬العلم؛‭ ‬فقد‭ ‬اعتبر‭ ‬طلب‭ ‬العلم‭ ‬فريضة،‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬عن‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: “‬طلب‭ ‬العلم‭ ‬فريضة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مسلم‭”‬،‭ ‬ولم‭ ‬يَحُدها‭ ‬بحدٍّ‭ ‬لا‭ ‬زمانا‭ ‬ولا‭ ‬مكانا‭ ‬ولا‭ ‬مصدرا،‭ ‬فقد‭ ‬رُوِي‭ ‬عنه‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: “‬اطلبوا‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬المهد‭ ‬إلى‭ ‬اللحد‭”‬؛‭ ‬فلا‭ ‬يُوجد‭ ‬هناك‭ ‬سن‭ ‬للتقاعد‭ ‬عن‭ ‬طلب‭ ‬العلم،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يَسعَى‭ ‬لطلب‭ ‬العلم‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬حياته‭. ‬أما‭ ‬الحد‭ ‬المكاني،‭ ‬فقد‭ ‬حثَّ‭ ‬الإسلام‭ ‬حثًّا‭ ‬شديدًا‭ ‬على‭ ‬السفر‭ ‬لطلب‭ ‬العلم،‭ ‬واعتبَر‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يُتوفى‭ ‬في‭ ‬سفره‭ ‬شهيدًا،‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬عنه‭ ‬قوله‭: “‬اطلبوا‭ ‬العلم‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬الصين‭”‬،‭ ‬وقد‭ ‬أشار‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬الى‭ ‬الصين‭ ‬ككناية‭ ‬عن‭ ‬البعد؛‭ ‬فلم‭ ‬يعتبر‭ ‬الفاصلَ‭ ‬المكانيَّ‭ ‬حاجزًا‭ ‬يقف‭ ‬حجر‭ ‬عثرة‭ ‬أمام‭ ‬المسلم‭ ‬لطلب‭ ‬العلم،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬حثَّ‭ ‬الإسلامُ‭ ‬المسلمَ‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬العلم‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المسلم‭.‬

ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق،‭ ‬فلا‭ ‬غَرابة‭ ‬أنْ‭ ‬شيدت‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وأسهمتْ‭ ‬مُساهمة‭ ‬فاعلة‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية؛‭ ‬فكانتْ‭ ‬مُسَاهمة‭ ‬العرب‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬علوم‭: ‬الأحياء،‭ ‬والكيمياء،‭ ‬والفيزياء،‭ ‬والفلك،‭ ‬والرياضيات‭.‬

ويُمكن‭ ‬أنْ‭ ‬نُقسِّم‭ ‬إسهامات‭ ‬المسلمين‭ ‬الى‭ ‬نَمطَيْن‭ ‬أساسييْن؛‭ ‬النمط‭ ‬الأول‭: ‬المساهمة‭ ‬المُبدِعة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬والرياضيات،‭ ‬وهنا‭ ‬يبرز‭ ‬الدور‭ ‬الفاعل‭ ‬للمسلمين‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الجبر؛‭ ‬حيث‭ ‬إنهم‭ ‬أبدعوا‭ ‬العلم،‭ ‬وكان‭ ‬لهم‭ ‬قصب‭ ‬السبق‭ ‬فيه،‭ ‬كما‭ ‬أنَّ‭ ‬العالِمَ‭ ‬العربيَّ‭ ‬الكبيرَ‭ ‬الحسن‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬أبدع‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬البصريات،‭ ‬وقام‭ ‬بفتح‭ ‬جديد‭ ‬فيه‭. ‬أما‭ ‬النمط‭ ‬الآخر‭: ‬تَكْمِلة‭ ‬لما‭ ‬بدأ‭ ‬به‭ ‬اليونانيون،‭ ‬وكانت‭ ‬لهم‭ ‬فيه‭ ‬مُسَاهمات‭ ‬فاعلة،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حدِّ‭ ‬الإبداع‭ ‬كمُساهمتهم‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الكيمياء‭ ‬والأحياء‭. ‬ومن‭ ‬الملاحظ‭ ‬أنَّ‭ ‬عُلماء‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬اهتمُّوا‭ ‬كثيرًا‭ ‬بالجانب‭ ‬العملي‭ ‬والتطبيقي‭ ‬للعلوم،‭ ‬ولم‭ ‬يُبدوا‭ ‬اهتماما‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬التنظير‭ ‬وتعميم‭ ‬القوانين‭ ‬العلمية،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬التوجُّه‭ ‬طاغٍ‭ ‬على‭ ‬الحضارات‭ ‬الشرقية‭ ‬عمومًا؛‭ ‬فعلى‭ ‬الرَّغم‭ ‬من‭ ‬أنَّ‭ ‬العرب‭ ‬اعتمدوا‭ ‬كثيرًا‭ ‬على‭ ‬التجريب‭ ‬والملاحظة‭ ‬في‭ ‬أبحاثهم،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يؤصلوا‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬وصريح‭ ‬للمنهج‭ ‬التجريبي،‭ ‬وإن‭ ‬قاموا‭ ‬باستخدامه‭ ‬بل‭ ‬مارسوه‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬جدًّا؛‭ ‬فنجد‭ ‬جابر‭ ‬بن‭ ‬حيان‭ ‬عالم‭ ‬الكيمياء‭ ‬الأكثر‭ ‬شهرة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬قاطبة،‭ ‬والذي‭ ‬حَضَر‭ ‬حلقة‭ ‬الإمام‭ ‬جعفر‭ ‬الصادق،‭ ‬ودرس‭ ‬فيها‭ ‬العلوم‭ ‬الكيميائية‭ ‬واللغوية‭ ‬والشرعية،‭ ‬أبدع‭ ‬في‭ ‬تحضير‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأحماض،‭ ‬وأكد‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬المنهج‭ ‬التجريبي،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يُؤصِّل‭ ‬لعلم‭ ‬الكيمياء‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬التنظيري،‭ ‬فلم‭ ‬يهتم‭ ‬كثيرًا‭ ‬بأصل‭ ‬المادة،‭ ‬ولا‭ ‬بمفهوم‭ ‬الذرَّة‭.‬

ومِنَ‭ ‬الأمور‭ ‬الأخرى‭ ‬اللافتة‭ ‬للنَّظَر‭ ‬أنَّ‭ ‬عُلماء‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬إسهامِهِم‭ ‬وإبداعهِم‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الجبر‭ ‬والحساب،‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬استخدامَ‭ ‬المعادلات‭ ‬الكَميَّة‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬ظلَّ‭ ‬محدودًا‭ ‬جدًّا،‭ ‬وغلب‭ ‬الطابع‭ ‬الوصفي‭ ‬في‭ ‬مناهجهم‭ ‬العلمية،‭ ‬إنَّ‭ ‬استخدامَ‭ ‬الوصف‭ ‬الكمِّي‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬كان‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الإنجازات‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬فَتَحت‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬مِصرَاعيه‭ ‬أمام‭ ‬البشرية؛‭ ‬للاستفادة‭ ‬بشكلٍ‭ ‬منقطع‭ ‬النظير‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭.‬

فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭: ‬اقتصرَ‭ ‬موضوع‭ ‬الحركة‭ ‬عند‭ ‬المسلمين‭ ‬على‭ ‬الدراسة‭ ‬الوصفية،‭ ‬بل‭ ‬يكاد‭ ‬يسيطر‭ ‬عليها‭ ‬البُعد‭ ‬الفلسفي؛‭ ‬فعلى‭ ‬الرَّغم‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬مُؤشرات‭ ‬قد‭ ‬يُستفاد‭ ‬منها،‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬بعضَ‭ ‬قوانين‭ ‬الحركة‭ ‬قد‭ ‬أشار‭ ‬إليها‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬المسلمين،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يُمكننا‭ ‬أنْ‭ ‬ننسب‭ ‬الفضلَ‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬هذه‭ ‬القوانين‭ ‬إلى‭ ‬علماء‭ ‬المسلمين،‭ ‬بل‭ ‬الفضل‭ ‬يعُود‭ ‬لنيوتن؛‭ ‬وذلك‭ ‬لأنَّ‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬كُتب‭ ‬بعض‭ ‬علماء‭ ‬المسلمين‭ ‬من‭ ‬إشارات‭ ‬إنَّما‭ ‬هي‭ ‬قوانين‭ ‬وصفية‭ ‬لم‭ ‬تشتقُّ‭ ‬منها‭ ‬مُعَادلات‭ ‬رياضية‭ ‬واضحة،‭ ‬ولم‭ ‬يُشِر‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬المنهج‭ ‬التجريبي‭. ‬أما‭ ‬نيوتن،‭ ‬فقد‭ ‬قامَ‭ ‬بصِياغة‭ ‬قوانين‭ ‬الحركة‭ ‬الثلاثة‭ ‬صياغة‭ ‬رياضية‭ ‬متكاملة،‭ ‬وبصورة‭ ‬رياضية‭ ‬دقيقة،‭ ‬ثمَّ‭ ‬قام‭ ‬بإثبات‭ ‬هذه‭ ‬القوانين‭ ‬بتجارب‭ ‬عملية،‭ ‬واستفادت‭ ‬الحضارة‭ ‬البشرية‭ ‬منه‭ ‬استفادة‭ ‬عظمى‭.‬

ولا‭ ‬يُمكنَنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العجالة‭ ‬أنْ‭ ‬نتناول‭ ‬أسبابَ‭ ‬النهضة‭ ‬العلمية‭ ‬الرائدة‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬المسلمون،‭ ‬ولكن‭ ‬نشير‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬عددٍ‭ ‬منها‭ ‬لأهميتها،‭ ‬أو‭ ‬للفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إليها‭.‬

لا‭ ‬شكَّ‭ ‬أنَّ‭ ‬الترجمة‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬المختلفة‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬لعبت‭ ‬دورا‭ ‬مهمًّ‭ ‬جدًّا‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية؛‭ ‬فكان‭ ‬بيت‭ ‬الحكمة‭ ‬مركزًا‭ ‬فكريًّا‭ ‬ضخمًا‭ ‬احتوى‭ ‬كُتبًا‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الحضارات‭: ‬الفارسية،‭ ‬واليونانية،‭ ‬وتمت‭ ‬ترجمتها‭ ‬إلى‭ ‬العربية؛‭ ‬لذا‭ ‬فإذا‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نقُوم‭ ‬بنهضة‭ ‬علمية‭ ‬حقيقية‭ ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬بجد‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬مؤسسات‭ ‬تقوم‭ ‬بعملية‭ ‬الترجمة‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬المختلفة‭ ‬إلى‭ ‬العربية،‭ ‬وهذا‭ ‬سيُؤدِّي‭ ‬إلى‭ ‬توطين‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬الإسلامي؛‭ ‬فالعلوم‭ ‬الطبيعة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحالي‭ ‬تعدُّ‭ ‬غريبة‭ ‬عن‭ ‬واقعنا‭ ‬الإسلامي؛‭ ‬لأنها‭ ‬أجنبية‭ ‬اللسان‭. ‬ومن‭ ‬اللافت‭ ‬للنظر‭ ‬أنَّ‭ ‬هناك‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر‭ ‬تُعنى‭ ‬بترجمة‭ ‬الكتب‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى؛‭ ‬بهدف‭ ‬إبراز‭ ‬دور‭ ‬الثقافات‭ ‬الشرقية‭ ‬إلى‭ ‬الغرب،‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬نرى‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الترجمة‭ ‬أقل‭ ‬فائدة‭ ‬لنا،‭ ‬لكنه‭ ‬يفيد‭ ‬الآخرين،‭ ‬ويُسدِي‭ ‬لهم‭ ‬خدمات‭ ‬جليلة‭.‬

الأمر‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يَجِب‭ ‬أن‭ ‬نُدركه‭ ‬أنَّ‭ ‬التطوُّر‭ ‬العلمي‭ ‬له‭ ‬ارتباط‭ ‬وثيق‭ ‬بالحريات‭ ‬الفكرية،‭ ‬وقد‭ ‬نجد‭ ‬ذلك‭ ‬جليًّا‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي؛‭ ‬فمساحة‭ ‬الحرية‭ ‬الفكرية‭ ‬كانت‭ ‬واسعة‭ ‬نسبيًّا؛‭ ‬فقد‭ ‬انتشرت‭ ‬مُختلف‭ ‬الأفكار‭ ‬على‭ ‬مُستوى‭ ‬العقيدة‭ ‬والفلسفة،‭ ‬ومن‭ ‬ثمار‭ ‬الحريات‭ ‬الفكرية‭: ‬حرية‭ ‬مواجهة‭ ‬الأفكار‭ ‬العلمية‭ ‬المسلَّم‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬ما؛‭ ‬فابن‭ ‬الهيثم‭ ‬مثلًا‭ ‬واجه‭ ‬مُسلَّمة‭ ‬علمية‭ ‬ورثها‭ ‬المسلمون‭ ‬من‭ ‬اليونان‭ ‬حول‭ ‬الضوء،‭ ‬وضرب‭ ‬بها‭ ‬عرض‭ ‬الحائط،‭ ‬وأثبت‭ ‬خطأها‭ ‬بتجارب‭ ‬علمية‭ ‬دقيقة‭ ‬ومُبهرة‭.‬

وقد‭ ‬يشكل‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الحرية‭ ‬الفكرية‭ ‬بأنَّ‭ ‬ذلك‭ ‬سيعرِّض‭ ‬المجتمعات‭ ‬إلى‭ ‬أفكار‭ ‬سيئة‭ ‬ومفاهيم‭ ‬خاطئة،‭ ‬وهذا‭ ‬أمرٌ‭ ‬وإن‭ ‬بَدَا‭ ‬صحيحًا‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬المتتبِّع‭ ‬لتطوُّر‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية،‭ ‬يجد‭ ‬أنَّ‭ ‬تطورها‭ ‬يكون‭ ‬مُوَاكِبا‭ ‬للحرية‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الحالات،‭ ‬وكأنَّ‭ ‬الثمن‭ ‬الذي‭ ‬تدفعه‭ ‬المجتمعات‭ ‬للتطوُّر‭ ‬العلمي‭ ‬هو‭ ‬إيجاد‭ ‬مِسَاحة‭ ‬كبيرة‭ ‬للحرية‭ ‬الفكرية؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬الأفكار‭ ‬المبدعة‭ ‬والرائعة‭ ‬لا‭ ‬تتولَّد‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬بل‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬عصفٍ‭ ‬ذهنيٍّ‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬المجتمعات‭ ‬ككل،‭ ‬تطرح‭ ‬فيها‭ ‬مختلف‭ ‬الأفكار‭ -‬الغث‭ ‬منها‭ ‬والسمين‭- ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬يبقَى‭ ‬للمجتمع‭ ‬حُريَّة‭ ‬الاختيار‭ ‬بين‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬تنهض‭ ‬به‭ ‬وتلك‭ ‬التي‭ ‬تُرجِعه‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬وهنا‭ ‬تبرُز‭ ‬أهميَّة‭ ‬بناء‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬الناقد‭ ‬والسليم،‭ ‬حتى‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يُميِّز‭ ‬بين‭ ‬الأفكار‭ ‬ويقيمها‭.‬

أخيرا‭.. ‬لابُد‭ ‬من‭ ‬الاشارة‭ ‬إلى‭ ‬قُدرة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الديانات‭ ‬المختلفة،‭ ‬أو‭ ‬الأصول‭ ‬غير‭ ‬العربية؛‭ ‬فلقد‭ ‬غَدَا‭ ‬يُوحنا‭ ‬بن‭ ‬ماسويه‭ ‬وابن‭ ‬سينا‭ ‬والفارابي‭ ‬والخوارزمي‭… ‬وغيرهم،‭ ‬أبناءً‭ ‬للحضارة‭ ‬الإسلامية؛‭ ‬إذ‭ ‬إنهم‭ ‬قاموا‭ ‬بنشر‭ ‬أفكارهم‭ ‬بلغة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وهي‭ ‬العربية؛‭ ‬فانتماء‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بنَسَبه،‭ ‬وإنما‭ ‬باللغة‭ ‬التي‭ ‬ينشر‭ ‬فيها‭ ‬فكره،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬جميعًا‭ ‬نشروا‭ ‬علومهم‭ ‬وأفكارهم‭ ‬بلغة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وهي‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬والتي‭ ‬تعدُّ‭ ‬وعاءَ‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية؛‭ ‬لذا‭ ‬فهُم‭ ‬أبناء‭ ‬العربية،‭ ‬حالهم‭ ‬كحال‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬والكندي‭… ‬وغيرهما‭.‬

بَقِي‭ ‬سؤالٌ‭ ‬أخير‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السَّهل‭ ‬الإجابة‭ ‬عنه،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬موضعَ‭ ‬خلافٍ‭ ‬بين‭ ‬الكثيرين؛‭ ‬وهو‭: ‬هل‭ ‬يُمكن‭ ‬أن‭ ‬نعتبِر‭ ‬أنَّ‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬قامت‭ ‬بثورة‭ ‬علمية،‭ ‬أم‭ ‬أنَّها‭ ‬أسهمتْ‭ ‬بشكلٍ‭ ‬تراكميٍّ‭ ‬في‭ ‬تطوُّر‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية؟‭ ‬حيث‭ ‬يعتبر‭ ‬البعض‭ ‬أنَّ‭ ‬العلم‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬تراكمي‭ ‬البنيان،‭ ‬فإنه‭ ‬يمرُّ‭ ‬بمراحل‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نُعبِّر‭ ‬عنها‭ ‬بمراحل‭ ‬الثورة‭ ‬العلمية؛‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬العالم‭ ‬المعروف‭ ‬توماس‭ ‬كوهن‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ “‬بنية‭ ‬الثورات‭ ‬العلمية‭”: ‬إنَّ‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬سلسلة‭ ‬تراكمية،‭ ‬بل‭ ‬إنَّه‭ ‬يحدث‭ ‬ويتقدَّم‭ ‬بسبب‭ ‬أحداث‭ ‬

ثورية‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬حالات‭ ‬شاذة،‭ ‬أو‭ ‬نتائج‭ ‬غير‭ ‬مُتوقعة‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬النموذج‭ ‬العلمي‭ ‬الموجود؛‭ ‬فهل‭ ‬قامت‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بثورة‭ ‬علمية،‭ ‬أم‭ ‬أنَّ‭ ‬مُساهمة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬كانت‭ ‬مُكمِّلة‭ ‬لما‭ ‬بدأه‭ ‬اليونانيون؟

عِندَما‭ ‬نحاول‭ ‬أنْ‭ ‬نَقُوم‭ ‬بتقييم‭ ‬لإنجازات‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بحياديَّة،‭ ‬فإننا‭ ‬نجد‭ ‬أنَّ‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬أسهمت‭ ‬مُسَاهمة‭ ‬فاعِلة‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصَّعب‭ ‬القول‭ ‬بأنها‭ ‬قامتْ‭ ‬بثورة‭ ‬علمية؛‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬تقلب‭ ‬الطاولة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ورثته‭ ‬من‭ ‬النموذج‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬بدأه‭ ‬اليونانيون،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬ضيِّقة‭ ‬جدًّا،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يقلِّل‭ ‬من‭ ‬حجم‭ ‬المساهمة‭ ‬الكبيرة‭ ‬للحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭.‬

استمرَّ‭ ‬وَهَج‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬يُنِير‭ ‬العالم‭ ‬بأسره‭ ‬لقرون‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬وخمدت‭ ‬جذوته‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي؛‭ ‬فمن‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬وحتى‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬لم‭ ‬تُسهم‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬بشيء‭ ‬مُؤثِّر‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري؛‭ ‬اذ‭ ‬قامتْ‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬بنقل‭ ‬وترجمة‭ ‬علوم‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬إليها،‭ ‬ونهلت‭ ‬منها،‭ ‬ثم‭ ‬قدَّمت‭ ‬للعالم‭ ‬نموذجًا‭ ‬علميًّا‭ ‬جديدا،‭ ‬وقادتْ‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬تطوُّر‭ ‬علمي‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬مثيل‭.‬

‭ ‬المصادر‭: ‬

‭* “‬قوانين‭ ‬الحركة‭ ‬والجاذبية‭.. ‬اكتشاف‭ ‬نيوتن‭ ‬أم‭ ‬المسلمين؟‭”‬،‭ ‬أ‭.‬د‭. ‬راغب‭ ‬السرجاني،‭ ‬موقع‭ “‬قصة‭ ‬الإسلام‭”.‬

‭* “‬بنية‭ ‬الثورات‭ ‬العلمية‭”‬،‭ ‬توماس‭ ‬كون،‭ ‬النسخة‭ ‬العربية،‭ ‬ترجمة‭ ‬شوقي‭ ‬جلال،‭ ‬سلسلة‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة‭.‬

‭* “‬الإمام‭ ‬الصادق‭.. ‬مُلهِم‭ ‬الكيمياء‭”‬،‭ ‬دكتور‭ ‬مُحمَّد‭ ‬يحيى‭ ‬الهاشمي،‭ ‬طبعة‭ ‬دار‭ ‬الأضواء‭.‬

‭* ‬Sapiens‭: ‬A Brief History of Humankind‭, ‬Yuval Noah Harari‭, ‬2011‭.‬

**أستاذ‭ ‬مشارك‭ ‬بكلية‭ ‬العلوم‭ ‬جامعة‭ ‬السلطان‭ ‬قابوس

تاريخ النشر: 11 إبريل 2019م