مُحمَّد رضا اللواتي
يأتي المركز الوطني للتشغيل، بأمر سامٍ، لإيجاد حلول جادة لأزمة الباحثين عن العمل في السلطنة، في الوقت الذي تعتبر فيه هذه المشكلة الأكثر حرجا وأهمية على الصعيد الوطني، وتلقي بظلالها المؤلمة على جميع قطاعات وشرائح المجتمع العماني.
ووفق تأكيد سعادة رئيس لجنة الشباب والموارد البشرية بمجلس الشورى، في تصريحات خص بها جريدة “الرؤية”، فإن المركز يختلف عن أية تجربة سابقة مرتبطة بالعمل والتشغيل، وأنه المعول عليه لحل هذه المعضلة الوطنية بشكل جذري ومستدام.
هذا الأمر يجعلنا نتوقع أن المركز سيتبع طرقا غير تقليدية لمعالجة هذه المعضلة، وإلا فإن الطرق التقليدية سوف تفضي إلى ذات النتائج التي نعرفها جيدا.
ولكن، هل يوجد من بين الطرق غير التقليدية طريق يجعل من الباحث عن العمل يتوقف عن بحثه هذا فيجري اتصالا مع المركز الوطني يطلب فيه حذف اسمه من القائمة؟ أو أن يقول عند تلقيه مكالمة للمقابلة بأني ما عدتُ أبحث عن فرصة عمل؟ أو أن يضغط على زر “مسح” للرسالة الإلكترونية التي وصلته تحوي عرض وظيفة، بينما يكون جالسا في مقهى يلبي طلب عمل إلكتروني سبق وقام بمثله البارحة واستلم أجرته التي تصل إلى راتب شهر كامل مقابل عمل يوم واحد؟
“مزارز العالمية” فرع عُمان تقول إن هذا الأمر ليس خيالا، ولتحقيقه لا نحتاج إلا لتأهيل الموارد البشرية الوطنية الباحثة عن عمل للانخراط في سوق العمل العالمي عبر منصات الخدمات الإلكترونية… هذا كل شيء!
لقد قدمت هذه المؤسسة قبل أيام دراسة بعنوان “الباحثون عن عمل.. أمل الاقتصاد العماني” وهي مقترح ينبغي التأمل فيه مليًّا، وتدعو إلى تفعيل “اقتصاد الخدمات المستقلة” والذي يشكل حاليا 30% من حجم القوى العاملة في الغرب، ويتوقع أن يهيمن قريبا على الاقتصاد العالمي، في حين أنه غير مفعل عُمانيا، ولا يتطلب تفعيله، وفق الدراسة المشار إليها، سوى تمكين الباحث عن العمل، بشكل احترافي، وبتكلفة بسيطة وخلال أيام قليلة، من أدوات “اقتصاد الخدمات المستقلة”، وهو سوق يصل حجمه لمئات الملايين، حسب هذه دراسة، وبذلك فهو قادر ببساطة على استيعاب العمانيين الباحثين عن عمل للبدء بمشاريعهم الخاصة، ويُمكِّنهم من القيام بذلك، والنجاح فيه.
إنه مقترح جدير بأن يدرسه المركز الوطني للتشغيل، فكبرى شركات التوظيف في العالم اليوم -مثلا Robert Half- تقول إن: “سوق العمل الحالي يتميز بأنه مقسَّم على أساس المهارة. ويُعتَبر أولئك الذين لديهم مهارات متخصِّصة تحت خانة الطلب المرتفع، والعرض المنخفض، بينما العكس هو الصحيح للقوى العاملة العامة.
لعلنا في حاجة إلى أن نلقن أنفسنا بأننا لسنا بمعزولين عما يبحث عنه العالم، إذ تذكر PWC -بحسب الدراسة التي بين أيدينا- أن “الحرب من أجل المواهب لا تزال مستعرة؛ سواء على الصعيد العالمي أو في منطقة الشرق الأوسط”، هذه المواهب التي يبحث عنها العالم هي العمود الفقري في “اقتصاد الخدمات المستقلة” التي هي عبارة عن بيئة اقتصادية رقمية إلكترونية تعتمد على الوظائف/المهام المؤقتة؛ حيث يتعاقد فيه أصحاب الأعمال من مؤسسات وأفراد مع أشخاص مستقلين في تعاقدات قصيرة المدى، عبر المنصات الرقمية.
هذه المنصات تقوم بربط مختلف أصحاب الأعمال مع الباحثين عن الأعمال؛ أفرادًا كانوا أو مؤسسات، من مختلف التخصُّصات والقطاعات، وبمختلف المستويات والتفاصيل، من مختلف بقاع العالم بطريقة تنظيمية وإدارية مذهلة.
فمثلاً، يكسب الموظفون المستقلون أكثر من مليار دولار سنويًّا من منصة “أب ورك” وحدها، وهي مجرد واحدة من بين قرابة 20 منصة تسهل حركة اقتصاد الخدمات المستقلة، ناهيك عن المبيعات التي تتم في الفضاء الافتراضي مباشرة عبر المواقع الإلكترونية التي يملكها الأفراد أو المؤسسات الصغيرة.
هذا الاقتصاد يُعَدُّ توجُّهًا متصاعدًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مع ظهور المزيد من الشركات القائمة على توفير الخدمات عند الطلب، وانتشار الوظائف المؤقتة على الإنترنت.
من هنا، يُعَدُّ “اقتصاد الخدمات المستقلة” فرصة عظيمة جدًّا لمعالجة مشكلة الباحثين عن عمل بالسلطنة بشكل جذري، كما تؤكده الدراسة التي بين أيدينا، إذ إن توظيف قرابة تسعين ألف باحث أو أكثر من ذلك في سوق عمل يصل حجمه لمئات الملايين، ويتَّصف بشكل عام بالموضوعية والبحث عن الكفاءة؛ يُعَدُّ أمرًا في غاية السهولة، والمطلوب هو تمكين وفتح القنوات اللازمة أمام هؤلاء الباحثين عن عمل، فقط، كما يؤكد ذلك عباس آل حميد في الدراسة التي أشرنا إليها.
تنقل الدراسة التي بين أيدينا أنه من بين المهارات الأسرع نموا وطلبا عليها في العالم الافتراضي: مصممو واجهة المستخدم لهواتف الآيفون، ومصممو أنظمة إدارة علاقات العملاء للمسوقين، وخدمة العملاء عبر الشبكات الاجتماعية، واستشارات الموارد البشرية، وخدمات تحليل الأعمال، وكتابة عروض الأعمال، ومصممو برامج التعليم، وكتابة خطة الدرس “دليل المعلم”، وإدارة وسائل التواصل الاجتماعي، وكتابة المحتوى والمدونات، والمساعد الشخصي الافتراضي، والتجارة الإلكترونية، ومطورو التطبيقات، ووظائف الرسوم المتحركة، ووظائف التصميم، وخبراء محركات البحث.
هذه المهن لا تتطلب إلا مهارات، هي فعلا متوافرة لدى المخرجات التعليمية العمانية؛ حيث إنَّ معظمهم من خريجي تخصصات الكمبيوتر أو التجارة أو التربية، أو يتطلب تحصيلها جهدا لا يتجاوز عدة أيام، وبتكلفة منخفضة جداً، ومن السهولة بمكان توفيره للشاب العماني إما من خلال الكليات التقنية، ومعاهد التدريب، أو من خلال التعليم الإلكتروني الذي أصبح في طريقه للهيمنة على سوق التدريب العالمي.
لا تنقص عُمان المواهب الفتية، فـ”جائزة الرؤية لمبادرات الشباب”، التي تجوب ولايات ومحافظات السلطنة المختلفة، قد ملأت قوائمها بالموهوبين والموهوبات وفي شتى المجالات والحقول وعلى رأسها الإلكترونيات. وكانت قد منحت لهذا المجال الأخير اهتماما كبيرا جدا؛ بحيث أقامت فيه ورشا على أيدي خبراء أجانب، غرضها نقل المعرفة في هذا المجال المستقبلي المهم، وهذا شكل من أشكال الدعم الذي تنادي به هذه الدراسة، وتقترح أن يتحمل مسؤوليتها المركز الوطني للتشغيل.
نرجو أن يدرس المركز المقترحات التي تقدمها هذه الدراسة التي هذه السطور قراءة سريعة فيها، فلعله يجد فيها أفكارا خارج الصندوق قد توفر حلولا لأزمة استصعب حالها -حتى اليوم- بشكل نهائي.