حيدر بن عبدالرضا اللواتي –
[email protected] –
الكثير من دول العالم تعمل من أجل تعزيز مجالات الادخار لدى مواطنيه، حيث إن هذا النوع من الادخارات تساعد الدول في تنمية مشاريعها الداخلية، بعكس الدول التي تعتمد على الاستدانة من الخارج لتمويل مشاريعها من البنية الأساسية ، فإنها معرضة أحيانا إلى الضغوطات السياسية والاقتصادية بجانب التزامها بدفع فوائد سنوية كبيرة على الديون المستحقة. ومن الدول التي تمكنت من التوجه في الجوانب الادخارية الداخلية كل من اليابان والصين وسنغافورة وتايوان وكوريا وغيرها من الدول الآسيوية الأخرى. ولو تمعنا في التجربة اليابانية في الادخار، نجد أن سكان هذه الدولة التي يصل عددهم 130 مليون نسمة لديهم طريقة ادخار شعبية تسمى بـ (الكاكيبو). وهذه تعتبر طريقة تقليدية تساعد الناس على تغيير عاداتهم الاستهلاكية وتحديد أولوياتهم، خاصة إذا كان دخل هؤلاء لا يكفي كل الاحتياجات والالتزامات الشهرية التي ينفقونها. هذه الطريقة (الكاكيبو) ليست بالصورة التقليدية لادخار الأموال، فهي طريقة تهدف إلى مساعدة الشخص على التوفير عن طريق ترشيد الاستهلاك وتحديد الأهداف الشهرية، إذ تعتمد هذه الطريقة على تصنيف وتسجيل المصروفات اليومية والشهرية (مثل الإيجار، والطعام، والمواصلات، وتناول الطعام خارج المنزل باعتبار أن معظم اليابانيين يتناولون طعامهم من الغداء والعشاء في الخارج بسبب أوقاتهم وبعدهم عن المنازل أو بسبب صغر حجم منازلهم، إلى دفع الالتزامات الشهرية الأخرى المعتادة كنفقات الكهرباء والمياه والتلفون والبلديات والنظافة (رسوم البلدية)، ثم تقوم العائلة بتصنيف هذه المصروفات من حيث كونها ضرورية أو ترفيهية. ولنفترض أن هذا الدفتر يبدأ في شهر يناير من العام، وفي نهاية الشهر يستطيع الشخص تحديد ما يمكنه الاستغناء عنه في الشهر التالي والفترة المقبلة عموماً، وكل ما عليه فعله هو الاستمرار والدقة في تدوين كل شيء. وبعد الشهر الأول، يتفاجأ الشخص بكمِّ النقود التي ينفقها على أشياء كثيرة ويمكنه الاستغناء عنها لصالح أهدافه التي يجد بها صعوبة في تحقيقها.
وإذا ما تمعنا في تجربة الصين في الادخار نجد أن هذه الدولة التي يتراوح سكانها حوالي 1.3 مليار نسمة تعتبر واحدة من الدول التي تهتم بعمليات الادخار بعدة طرق، بحيث وصلت معدلات الادخار لديها مستوى خياليا وبواقع 55% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010م. وهذا يعني بأنه لا توجد دولة في العالم تحقق هذه المستويات المرتفعة جدا من الادخار المحلي، ذلك ان كل دولار من الناتج يتم توليده في الصين يتم ادخار 55 سنتا منه وفق آراء بعض الخبراء في هذا الشأن بالرغم من الضغوط التي تمارس حاليا على هذه الدولة في إطار الحرب التجارية التي اشعلها الرئيس الأمريكي ترامب خلال الفترة الأخيرة، في حين كان معدل الادخار المحلي في الولايات المتحدة في نفس العام 2010 لا يتجاوز 14.2% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أنه في مقابل كل دولار يتم توليده من الناتج المحلي الإجمالي، يتم ادخار 14 سنتا منه فقط. وكان بعض المسؤولين في البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قد أشاروا في تلك الفترة إلى ان ارتفاع مستويات الادخار في بعض بقاع العالم مثل الصين والدول المصدرة للنفط يسهم في العجز الكبير في الحساب الجاري الأمريكي، وكذلك في خلل نظام المدفوعات الدولية (نتيجة عدم استخدام جانب من هذه المدخرات في الاستيراد من، أو الاستثمار في الخارج).
إن هدف الناس من الادخار هو من أجل إيجاد سهولة في المستقبل لتغطية النفقات ومواكبة متطلبات الحياة اليومية لهم لاحقا، خاصة في المجالات الصحية بجانب توفير المال للسفر والاستثمار، أو لتأمين حياتهم بعد التقاعد تحسباً للظروف المفاجئة. ومن أجل ذلك يستخدم بعض الناس المؤسسات المصرفية من خلال حسابات التوفير المصرفية للقيام بالادخار، فيما هناك آخرون يستخدمون حصالات النقود لهذا الغرض مثلما نرى ذلك في بعض الدول الآسيوية والإفريقية.
ومن هنا يتطلب منا أيضا في دول المنطقة والدول العربية بضرورة تبني سياسات الادخار بصورة تناسب وأوضاعنا الحالية من خلال تشجيع الأطفال والنساء على التوجه نحو الادخار في وجود المؤسسات المصرفية والمالية والتأمينية التي تقدم عددا من المزايا للمدخرين. ففي الماضي كانت الحصالة هي أقدم طرق الادخار للكثير من الشعوب وتعتبر الطريقة الناجحة اليوم وفي كل وقت. وعندما بدأ اليابانيون هذه الطريقة كانوا يدركون ويتفاجأون ما يتم ادخاره في أسابيع قليلة من تلك الحصالات من الأوراق النقدية التي ادخارها، خاصة النقود التي كان سينفقها في خطط تم إلغاؤها؛ مثل الذهاب إلى العشاء بالخارج، أو حفلة موسيقية، أو مشاهدة فيلم بدار السينما.
وقد عزا أحد الخبراء عن نمو تلك الدول في الاقتصاد العالمي كالصين واليابان إلى ارتفاع مستويات الادخار في تلك لديها مقارنة بحزمة من دول العالم. ففي دراسة بعنوان «لماذا المعدل الادخاري للصين عاليا» تم إعدادها قبل عقد من الزمن، أوضح الباحث أن ذلك يعود إلى خصائصها المؤسساتية أو الديموغرافية أو الاقتصادية، في مقابل أثر تبني الصين لسياسات معدل صرف متحفظة لعملتها «اليوان»، وغيرها من المتغيرات الاقتصادية الكلية مثل التضخم ومعدل الفائدة الحقيقي والميزانية الحكومية التي دائما ما يعتقد أنها المسئولة عن مستويات معدلات الادخار بشكل عام. ووفقا لنتائج نموذج الدراسة فقد أشارت إلى انخفاض معدل الإعالة في الصين مقارنة بمعظم الدول في العالم أي أن (عدد الأفراد الذين لا يعملون إلى إجمالي السكان في سن العمل قليل) ، وأن هذا هو أهم العوامل المسؤولة عن ارتفاع معدلات الادخار في الصين، بمعنى آخر ان انخفاض عدد الأفراد في الأسرة، ومن ثم انخفاض عبء الإعالة على السكان العاملين في الصين يفسّر الجانب الأكبر من ارتفاع معدلات الادخار الصيني. كذلك توصلت الدراسة إلى ان ضعف شبكة الضمان الاجتماعي في الصين، والتي ترفع من المخاطر التي قد يواجهها المتقاعد في الصين، تدفع بالأفراد نحو تراكم مستويات مستهدفة من المدخرات تُعين الأفراد على مواجهة المخاطر المالية المصاحبة لضعف شبكة الضمان الاجتماعي التي تتبناها الحكومة الصينية، وذلك عندما يحالون الى التقاعد، أي أنه في ظل ضعف نظم الضمان الاجتماعي الحالية، يقوم الأفراد بخلق النظم الخاصة بهم التي تقدم لهم التأمين المناسب عند التقاعد من خلال الادخار المرتفع. كما أشارت نتائج الدراسة إلى أن انخفاض معدل التحضر (نسبة السكان المقيمين في المناطق الحضرية إلى إجمالي السكان، حيث ترتفع تكاليف المعيشة وتقل الفوائض التي يحققها الأفراد من دخولهم نظرا لضغوط التكاليف المرتفعة للمعيشة في المدن)، يعد من العوامل المسئولة عن ارتفاع معدلات الادخار.
وإذا نظرنا إلى الوضع في الدول العربية نجد بأن الضمان الاجتماعي الحالي لدينا في المنطقة والدول العربية الأخرى يتسم بحصول المواطنين على رواتب التقاعد والضمان الاجتماعي شهريا بدون تأخير الأمر الذي يساعد البعض على الادخار، ولكن رغم ذلك يتجه المزيد من الناس إلى الاقتراض والمديونية التي تشكل التزاما شهريا لدى الكثير منهم. وبالتالي يدخل في خانة المديونين ويلتزم بدفوعات شهرية مع الفوائد كان بإمكان الشخص تجاوزه وتكوين رصيد مالي من ادخاراته لتساعدها في وقت الحاجة الماسة.