حيدر بن عبدالرضا اللواتي –
[email protected] –
يتساءل الكثير منا في المنطقة العربية عن الأسباب التي أدت إلى نهوض الدول الآسيوية في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وهي الفترة نفسها التي انطلقت فيها الدول العربية في نهضتها الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها ظلت متخلفة عن مسايرة الركب التقدمي بالمقارنة مع دول آسيوية عديدة منها كاليابان وكوريا وسنغافورة وتايوان وماليزيا ولاحقا الصين ودول أخرى في العالم. ترى ما هي أسباب التخلف في ذلك بالرغم من وجود المقومات العديدة التي تتمتع بها الدول العربية؟؟، بل إن ما تمتلكها من مقومات بشرية ومادية تزيد عمّا تمتلكها الشعوب الآسيوية خاصة من مصادر الطاقة كالنفط والغاز والمعادن الأخرى التي يتم تصديرها من المنطقة العربية إلى تلك الدول سنويا.
وهنا نأخذ اليابان كمثال في ذلك، حيث وصلت هذه الدولة إلى قمة الإنتاج والإبداع والجودة والذكاء الصناعي في العديد من المجالات الحيوية التي تهم البشرية. ومما لاشك فيه أن هناك عدة أسباب وراء هذا التقدم الذي شهدته اليابان منها أن الأسرة في اليابان بالرغم من اهتماماتها العديدة، إلا أنها تشغل كثيرا في متابعة أمرين أساسيين في الحياة اليومية لأفرادها، وهما مواصلة العمل والإنتاج، والاهتمام الذي تبديه لعملية التعليم لأبنائها من مرحلة الروضة وحتى المرحلة الجامعية. كما أننا نجد أن الرجل له مسؤوليات أخرى فهو الذي يقود الأسرة ويعدّ المسؤول الأول عنها، حيث تتكون الأسرة اليابانية غالبا من الأم والأب وطفلين، ويعمل الأب على إعالتهم. أما المرأة فإنها تتجه للقيام بدورها في إدارة المنزل وتربية الأطفال بجانب اهتمامها بالعمل في المؤسسات لمساعدة بناء الأسرة.
فغالبية النساء لديهن أعمال بدوام جزئي خاصة في المراكز والمؤسسات التجارية في عمليات البيع والشراء بجانب العمل في المؤسسات التعليمية والصحية، فيما تعمل المرأة الريفية في حقل الزراعة، بينما معظم الرجال يمتهنون أعمالا كبيرة وشاقة سواء في الصناعة أوالإنتاج أوالخدمات بجانب العمل المكتبي. والمعروف عن العمل لدى اليابانيين أنهم يعتبرونه وظيفة اجتماعية، فهو المحرك والمحرّض الداخلي للعامل الياباني، وربما كان من أقوى الدوافع التي أدت إلى تحقيق الإنتاجية العالية في هذه الدولة خلال العقود الماضية.
وعلينا أن نعرف أيضا بأن الحياة في اليابان تتميز بالتنظيم وكثافة العمل والإنجاز في كل حقل، وهي نفس الحياة المتبعة لدى العديد من شعوب الدول الصناعية الآسيوية الأخرى والتي اتخذت النموذج الياباني في الإنتاج قدوة لها في بداية نهضتها. والهدف من ذلك كله هو تحقيق سبل الراحة لأبنائها، مع مواكبة التطور في نفس الوقت. فهؤلاء الناس يقدرون قيمة الوقت حتى أثناء مشيهم، فهم أسرع الناس مشياً في العالم لأنهم يعتبرون الوقت من ذهب، وقد قيل المثل العربي «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك»، في الوقت الذي وفرت فيه دولة اليابان التي يصل عدد سكانها اليوم أكثر من 130 مليون نسمة جميع أنواع المواصلات لمواطنيها ليصلوا إلى أماكن ومقار عملهم وإنتاجهم في الوقت المناسب.
وما يميز هذا الشعب أيضا عن غيرهم من سائر الشعوب الأخرى هو أن بعض اليابانيين يعملون لساعات طويلة قد تصل أحيانا إلى 60 ساعة في الأسبوع، متجاوزين الحد القانوني ما بين 10 إلى 20 ساعة في الأسبوع، فيما نجد أن عدد ساعات العمل الرسمية في هذه الدولة تصل إلى 40 ساعة في الأسبوع بالإضافة إلى يومين كإجازة أسبوعية. وهذا ما أدى إلى أن يسقط بعض اليابانيين على الأرض أثناء أعمالهم اليومية بسبب الإرهاق، الأمر الذي أدى إلى تدخل الحكومة في هذا الشأن، وتحديد الساعات المعينة للعمل اليومي. كما تعمل بعض المؤسسات على تقديم الحوافز للذين يتركون عملهم في الوقت المناسب.
كما أن أحد الأسباب التي دعت إلى زيادة عدد ساعات عمل باليابان عن المعدّل القانوني هي ثقافة الترقية في العمل لدى الفرد الياباني، وهي ثقافة قديمة لهذا الشعب الذي يقدّس العمل مهما كان نوعه وحجمه وعطاؤه الشهري، فهو يمارسه بكل شغف وتركيز وإتقان، الأمر الذي أدى إلى أن تصل اليابان إلى مراتب متقدمة في عملية الإنتاج والتصنيع والتطوير في جميع القطاعات الاقتصادية. وهناك عدة أسباب وراء زيادة عدد ساعات العمل باليابان تعزى بعضها إلى بيئة العمل في هذه الدولة التي تتميز في الكثير من الأشياء مقارنة بشعوب الدول الأخرى، منها الأعمال داخل المكاتب المفتوحة، حيث تقع بجوار بعضها البعض، الأمر الذي يمكّن القائد من متابعة الأعمال مع موظفيه بكل سهولة، والتركيز على التعاون فيما بينهم، وإيجاد مبدأ الانسجام الذي تستند إليه الإدارة، بالإضافة إلى إيجاد التعاون مع جميع والمديرين لتوفير المعلومات والبيانات اللازمة ورفدها للإدارات والجهات المعنية دون استخدام مبدأ الأوامر والتعالي على الموظفين والعمال في الدرجات السفلى. وهذا ما يساعد الجميع على تقديم الأفكار والإبداع في العمل والممارسة اليومية في غياب أساليب الإحراج للموظف أو العامل. وجميع هذه القضايا تساعد على زيادة إنتاجية العامل هناك.
لقد حيرت ثقافة اليابان الكثير من الدول نتيجة لتفوقها الاقتصادي المذهل، فيما نرى أن المجتمع الياباني بثقافته القديمة يتسم بالإنتاجية والفاعلية الشديدة والتسامح وروح العمل والإبداع مثلما أشرنا إليه، بالرغم من أنها تعرضت لأبشع عدوان أثناء الحرب العالمية الثانية راح ضحيته مئات الآلاف من أبنائها. لكن ما يميز هذا الشعب عن غيره هو إصراره ومثابرته وتمسكه بأصالته واستمراره في العمل بكل كفاءة وتقديس، واتخاذه القرارات المبنية على المصلحة العامة. كما أن قرار المؤسسات ينبع من أسفل التنظيم إلى أعلاه الأمر الذي يؤدي إلى تحقيق نتائج إيجابية وله آثاره الاقتصادية والاجتماعية على العاملين.
ولوحظ أن الكثير من اليابانيين يبقون في أعمالهم لأعوام عديدة، ودورانهم في العمل قليل جدا نتيجة انتمائهم لمؤسساتهم منذ أول وهلة يلتحقون فيها بالعمل، فما أن ينضم أحد لمؤسسة ما حتى يصبح جزءا لا يتجزأ منها ويبقى بها طيلة حياته، فيما تؤمن لهم مؤسساتهم الوظائف التي يشغلونها حتى مرحلة التقاعد. وهذا ما أدى إلى زيادة إنتاجية الفرد في هذه الدولة وأصبحت اليابان من النماذج القليلة في تحقيق النجاحات في عدد من الميادين. واليوم نرى أن هناك أكثر من 128 شركة يابانية من بين أكبر 500 شركة عملاقة على مستوى العالم. كما ان اليابان تمتلك أكبر فائض تجاري في العالم بالتوازي مع الصين التي أصبحت اليوم تهدد المصالح التجارية الأمريكية.
وعناصر الإنتاج في اليابان عديدة إلا أن أهمها هو الإنسان الياباني الذي تمكن من التفوق بحكم تعليمه وتأهيله من استخدام لغته المحلية وليست لغة الشعوب الأخرى كما هو متبع لدينا في السلطنة والدول العربية الأخرى، بالإضافة إلى ممارسته الجيدة في العمل كالحوكمة والإدارة ، ومحاربته للفساد والعمل بالثقافة الاجتماعية التي تقدس العمل أولا. فاليابان لديها نظام صارم في تطبيق القوانين وأنظمة العمل وتحفيز الإبداع والابتكار، وهي العوامل الأساسية التي أدت إلى زيادة الإنتاجية لدى الفرد الياباني، وهذا ما نفتقده في الدول العربية ومؤسساتها الحكومية والأهلية، خاصة في مجال العمل والإنتاج ونبذ الاتكالية وإدارة المسؤولية، والاستمرار في البحث العلمي، مع العمل على مكافحة الفساد، واختيار الرجل المناسب في المكان المناسب وليس من خلال التعيينات الجوفاء، لأن ذلك لا يخلق لدى العاملين الآخرين الراحة والاستقرار والأمن الوظيفي.
المصدر: جريدة عُمان