علي مُحمَّد سلطان الزعابي
كُلَّما أخذتُ على نَفْسِي أنْ أكتبَ عن هذه الشخصية المطرحية منذ فترة طويلة، وكُلَّما هممتُ بأن أبدأ بالكتابة عنها، فإنَّ شيئا ما كان يَمْنَعني، وكنتُ أجدُ نفسي أمامَ الكمِّ الهائلِ من المعلومات المبعثرة، بجانب الوثائق والنقول التي استفاضتْ وتواترت؛ لدرجة أنَّني قد وَصَلت إلى قناعة تامة بأنَّ الوقتَ قد حَان لأن أتناولَ هذه الشخصية بالقدر الجيد من المعلومات المنقولة، بجانب الوثائق التي أجدها مُهمَّة للغاية من أنْ تحقِّق لي بعضَ ما أصبو إليه من تناولي لهذه الشخصية الاستثنائية في الظرف الاستثنائي الصَّعب.
وَحتَّى نَفِي هذه الشخصية بعضَ حقِّها، فإنني ارتأيتُ أنْ أسردَ أبعادها في أربعة محاور:
الأول: علاقة الشيخ باقر بالسلطة.
الثاني: علاقته باللواتية؛ كَوْنه شيخاً.
الثالث: علاقته بالبريطانيين.
الرابع: الشيخ باقر تاجراً.
ولعلَّ الإحاطةَ التامَّة بهذه المحاور الأربعة لن تَفِي بالغرض الكلي، وبأسلوب مُنفصل لكلِّ محور؛ نظراً لتداخل المحاور بعضها البعض، ومن ناحية ثانية: فإنَّ مواضيع أخرى ستجد لها منفذا طيَّات السرد، وستحشر نفسها دخيلة على محور هنا وآخر هناك؛ لطبيعة الشخصية المتعددة محل السرد، وتجلياتها على أكثر من صعيد، وفي أكثر من محور من خارج ما ذكرناه من المحاور الأربعة المشار إليها. كَمَا أنَّنَي سَوْف أكتفي هنا بذكر كلمة “الوثيقة” عند ذِكر الحالة المرتبطة بالوثيقة، ولن أنشرها، مُكتفيا بالإشارة إليها، وبفحواها، والتي آمل أن أنشرها جميعاً في الكتاب المزمع نَشْرُه فيما بعد.
المحور الأول – علاقة الشيخ باقر بالسلطة
تُعتبر شخصية الشيخ باقر من أكثر الشخصيات المطرحية قُربا ولصُوقا بالسلطان سعيد بن تيمور -رحمه الله.. فَمَا من شخصية جالستها من الشخصيات التي عايشت الشيخ باقر عن قُرب، إلا وتحدَّثت عن عُمق العلاقات التاريخية بين السلطان تيمور والشيخ باقر، الذي كان يناديه بالعم.
ولا تُوْجَد شخصية مطرحية حَظِيت بالاهتمام من لدن السلطان سعيد، بقدر ما حَظِي الشيخ باقر من المكانة والتقدير. كما -وفي المقابل- فإنَّ الشيخ باقر قد تفانى في تعظيمه لشخصية السلطان سعيد، وقد ترجم هذا التقدير في مواقع عملية ووطنية متنوعة.
كُنت قَبل أيَّام أزُور سماحة السيد شرف علي علوي الموسوي، في داره، أنا وأخي د.حسين محسن، وقد ذكر لنا السيد شرف أنَّ الشيخ باقر ذات يوم قد دعا السلطان سعيد، في بيت العود، إلى مأدبة عشاء؛ تشريفاً بمقامه، وقد فرش له من السجاد من أول وادي خلفان حتى دار أخيه الحاج علي -المسمى ببيت العود- بحيث أن السيارة التي كانت تُقل السلطان سعيد لم تطأ الأرض حتى عتبات بيته.
وذات الكلام، ذكره لي الحاج حسن علي عبداللطيف -رحمه الله- في آخر لقاءاتي به قبل وفاته. ومما ذَكَر لي الحاج حسن، وما سمعته عن عمي حسين وآخرين، أنَّ السلطان سعيد -وعند رجوعه في واحدة من معاركه في حرب البريمي- فإن الشيخ باقر قد زيَّن سماء مطرح بالأعلام والمانشيتات من أول بوابة المعشوري (القف) -والقريب من مستشفى النهضة اليوم- حتى قصر العلم في مغب، وبعض المواقع قد فرشها بالسجاد من قصر بوابة “العرين” حتى عقبة الريام؛ وذلك تيمُّنا بالنصر، وقد جاء أفراد قبيلته من طلاب المدارس الأهلية، واصطفهم للاستقبال البهي، ويومها خرجت مطرح عن بَكْرَة أبيها تستقبل السلطان، وهو قد جاء بأكبر انتصاراته.
ويذكر سعادة حسين علي عبداللطيف -ابن أخيه- بأنه قد أشيع عند بعض أهالي مطرح أنَّ السلطان سعيد غير راض على الشيخ باقر، ويتفاجأ الجميع بأن السلطان سعيد والشيخ باقر ينزلان قبالة الساحل المطل على سور اللواتية، من السفينة التي كانت تقلهما من مسقط، وكان وصول السلطان إلى حيث البوابة قَطْعا لدابر الشائعة التي لعبت برؤوس بعض الناس.
لقد تجسَّدتْ عَلاقة السلطان والشيخ باقر عمليًّا بالمواقف الوطنية التي شَهِد لها القريب والبعيد، وقد قابَل السلطان هذه المواقف بأجمل منها، ووضعها مَوْضِع التقدير والحفاوة والاحترام، والتي قل لها نظير.
يقول السيِّد تقي حسين الموسوي -في كتابه “أفراد آل عبداللطيف”- ”وحدثني أحد الإخوان الموثوقين أنه، وفي منتصف القرن العشرين، وفي خلال أزمة منطقة البريمي، بادر الشيخ باقر عبداللطيف ممن بادروا إلى الاستجابة لنداء صاحب الجلالة سعيد بن تيمور سلطان مسقط وعُمان (سلطنة عُمان حالياً)، ولبَّى ممن لبوا نداء الوطن العزيز، ووضع جميع مخازنه في اختيار الوطن إلى أن تحقق النصر لعُمان. كُنا نموِّل الجيش بالمؤن ولم نطلب شيئا مقابل ذلك، وكان واجبا وطنياً كُنَّا نقدمه، وأن تجاراً آخرين هبوا لتلبية نداء الوطن”.
كما أن الأخ لطيف محسن باقر -حفيد الشيخ باقر- قال الكثير فيما قدمه جده لا بشخصه، بل باسم أهله وإخوانه من أبناء قبيلته، وقد أشاد بأدوار جده لهذا الوطن المعطاء، التي يراها في المستوى الإستراتيجي والعسكري والاجتماعي، وما يعرف الآن بـ”المسؤولية الاجتماعية للشركات”.
ولعلَّ أجمل ما قابله السلطان سعيد في كلِّ ما قام به الشيخ باقر تجاه الوطن العربي، ومن خلال أدواره المتقدمة، هو أن فسح المجال لشركة باقر عبداللطيف في جلب الوكالات التجارية للسفن الأوروبية، والتي كانت النقلة الكبرى في تجارة عُمان، وكان من شروط العقد: من حق الحكومة أن تحصل على نسبة من الأجور. هذه النقلة الكبرى أدت أدواراً اقتصادية لا مثيل لها، وكان مردودها الاقتصادي كبيرا جدًّا؛ لدرجة أن السلطان سعيد قد ذكرها في كتيبه “كلمة السلطان” المنشور في يناير من العام 1968، عندما حصر ميزانية الدولة من إيرادات الجمارك تلامس نسبة 100%، وقد زادت المداخيل أثناء الحرب الكونية الثانية (1939-1945) من الجمارك، كما ذكرها السلطان سعيد. هذه النقلة سوف نذكرها بشيء من التفصيل في محور التجارات.
لقد ذَكَر السلطان سعيد مديونية الدولة تجاه التجار، وفي أكثر من مكان، ضمن ما تناوله في كلمته، وسوف نقف على مضامين من أهم الوثائق التاريخية التي صدرت من لدن المقام السلطاني ما قبل 80 عاماً، وقد استرعتني كثيراً، ووقفت مشدوها أمام عباراتها وعلو مضامينها، وهي تختصر الصور الناصعة من أبناء مطرح من التجار؛ وقد وصفه السلطان سعيد بقوله: ”من الرجال الذين نتمنى كثيراً من شعبنا أن يحذو حذوهم ويسلك مناهجهم”.
هذه الوثيقة سوف أُوْرِدها بنصِّها كما هي، وسأقفُ على بعض مضامينها وفق الرؤية التي أتبناها. ومن وجهة نظري، فإن هذه الوثيقة تكفي لأن تتحدث عن ذاتها من غير أية إضافة، عدا أنني أود التعليق على بعض الفهوم العالقة في الذهنية الفردية لبعض من يريد أن يُحجِّم من أدوار شخصية الشيخ باقر، ويحصرها في الإطار الفردي الخاص به، وببعض محيطيه.
الوثيقة
الكلمة التي ألقاها سكرتير السلطان سعيد علي الجمالي بأمر منه:
”باسمه تعالى…،
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين المطهرين.
أما بعد، فإنه من بواعث سرورنا أن نكون هنا في هذا اليوم، وإنا لنشكر للحاج باقر وإخوانه دعوتهم إيانا التي كانت سببا للاجتماع بكم، ونقدر فيهم المحبة والإخلاص والولاء الذي دفعهم لإقامة هذا الحفل الكبير الرائع حق التقدير.
إنَّ الشيخ باقر وإخوانه، ولا نرى حرجا أو مانع من التنويه بهم، من الرجال العاملين الذين نتمنى كثيرا من شعبنا أن يحذوا حذوهم، ويسلك مناهجهم في مهنتهم، تلك المهنة الشريفة التي قال عنها أحدهم إنَّ راية الأمة تسير خلف تجارتها.
الشيخ باقر وإخوانه؛ إذ يؤدون للبلاد خدمة جليلة بما يبذلون من مجهود ومثابرة وجلد في نشر صادراتها، وتوسيع نطاق تجارتها، فنحن نُكرم فيهم هذه الروح العالية ونعتز بها. ونحن إذ حضرنا هنا في هذا اليوم، فإننا جئنا لنحيِّي في الشيخ باقر وإخوانه هذه الروح والهمم.
نسأل الله القدير أن يسدِّد خطانا جميعاً، وأن يُعيننا لما فيه الخير والصلاح.
22 جمادي الأخرى 1357”.
وقد ألقى سكرتيره المرحوم علي الجمالي هذه الكلمة في الحفل المقام في نادي الإصلاح بمطرح (النادي الذي كان الشيخ باقر يتخذه مكاناً لضيافاته المهمة).
ومن خلال الوثيقة، لنا وقفة تأمل:
إنَّ هذه الوثيقة تحمل كلمة الشكر من السلطان سعيد للحاج باقر وإخوانه، فالتعبير يشمل شخص الحاج وإخوانه، وكلمة الإخوان شاملة لكل من أبناء قبيلته، ولم يكن منفردا أو مرادفا لاثنين من إخوانه؛ وهما: الحاج موسى ثاني الإخوة الثلاثة، والحاج علي وهو الثالث من الإخوان من حيث التدرج. الحفل كان في واحد من معاقل التجمع الأشهر في مطرح حينها، والذي كان يُعرف بنادي الإصلاح، فهذا النادي، ومجموعة أخرى من النوادي كنادي التبادل الثقافي، ومجلس الحاج رمضان، ومجلس الجد هاشم، ومجلس الياسميني، ومجلس تاول، ومجلس فيتوه (Peetoh)، ومجلس الحاج محمد تقي، ومجلس عبدالصمد حبيب، ومجلس جعفر باقر، كانت جد معروفة، إضافة إلى أخرى منتشرة في ردهات وأروقة ودهاليز سوق مطرح وجوانبه، كانت من الكثرة بمكان، تعتبر أماكن التجمعات واللقاءات والتبادلات الثقافية، واللقاءات مع التجار، لا سيما من كان يأتي من خارج مسقط للتجارة.
ودعوة الشيخ باقر وإخوانه للسلطان كانت عامة، وليست ذات طابع شخصي فردي. ومن هنا، فإن كلمة الإخوان المعطوفة على كلمة الحاج تحمل صفة الدعوة العامة في حالة من الانفتاح.
السلطان سعيد -وفي واحدة من عباراته- يذكر كلمتين “لا نرى حرجاً” أو مانعا حتى آخر الجملة، وهذا التعبير في غاية من الأهمية، وإشارة واضحة تتضمَّن التنبيه أن الشيخ باقر وإخوانه يؤدون أدوارا وطنية لا يرقى إليها الشك.
ثم إنَّ السلطان يدعو للاقتداء بالحاج وإخوانه بالحذو بهم، وسلوك مناهجهم في مهنهم الشريفة، ولا يقف عند هذا الحد فيبالغ في الثناء عندما يتمثل بقول القائل بجملة: ”إن راية الأمة تسير خلف تجارتها”. وهذا من صور المبالغة في الإشادة؛ إذ لا يكتفي بما قال، بل أضاف إلى كلامه ما يشير إلى أهمية دور الحاج وإخوانه من كلام مضاف للسياق الذي وجهه، ولعل كلمة الأمة هي كل مسرح عملهم الجليل الذي نعته إياه وإخوانه، والأمة هي من الوسع لدرجة لا تستثني رقعة جغرافية ولا ديموغرافية بعينها، بل موقع رفرف عليه العلم الوطني.
وأخيراً.. فإنَّ السلطان يحيِّي الروح العالية للحاج وإخوانه، ويعتز بها، مُركِّزاً على صادرات التجار، وتوسيع رقعة التجارة، وقد نرى تجليات هذه الروح بالوثبة التاريخية للحاج باقر وفريقه، على مختلف الصُّعد والسوح؛ وذلك من خلال محور التجارات، والكلام فيه سيكون مفصَّلاً بعض الشيء.
بَقِي أنْ نذكر أنَّ هذه العلاقات تضاعفت وتطوَّرت حتى غَدا الشيخ باقر محطَّ عناية السلطان سعيد، لدرجة -وكما ذكر لي العم حسين- أن الأسواق الأربعة ذات الريع المدر للدولة من سوق السمك في مطرح، وآخر في السيب، بجانب العرصة للفواكه الآتية من كل أطراف عُمان ومع معقل الحطب، كلها وضعت تحت رعاية الشيخ باقر، الذي كان يضمن من يدير هذه الأسواق، ومع ضمانه كانت الحكومة ترسي على الدلال، وتجدد له وفق الرؤية التي تتبناها.
كما أنَّ السلطان سعيد قد خصَّص له يوماً يلتقيه كل شهر في بيت العلم، يستمع منه، ويوجهه، بجانب بعض لقاءاته التي كان يستدعيه فيها عند زيارات الشخصيات البريطانية كما حصل مع روبرت هاي المقيم السياسي البريطاني في الخليج. وهناك من الوثائق أن السلطان كان يدعوه في ساعات المساء 10.45 مساءً (توقيت عربي)، أي ما قبل أذان المغرب الذي كان يتجدد في الساعة الثانية عشرة مساءً صيفاً وشتاء، وإذا كانت الساعات تعدد عقاربها تقديماً وتأخيراً، والتوقيت العربي هو الذي كان معتمداً يوم ذاك.
كان هذا الجزء الأول من السرد عن شخصية الشيخ باقر عبد اللطيف.
المحور الثاني – علاقته باللواتية من موقع المشيخة
المحور الثاني الذي نبتدئ به السرد عن شخصية الشيخ باقر، يحملُ في طيَّاته الكثير من التساؤلات التي تمحورت حول دور الشيخ باقر الريادي في التعاطي مع الواقع، والتسالم على قيادته لدفة المسؤوليات المنيطة به، ومدى الأثر الذي تركه على كلِّ الواقع الاجتماعي، ولعله الاقتصادي بعدما مضى إلى ربه. ومن المعلوم أن بيت الحاج عبداللطيف -جد الأسرة- لم يكن مسقطياً. فقد جاء الحاج عبداللطيف إلى مطرح وعمره ست سنوات (مواليد 1851)، جاءت به خالته من رأس الخيمة، ثم إلى شناص، ومن ثم إلى مطرح؛ وذلك بعد مقتل والده فاضل محمد فقير، إثر نزاع نشب هناك.جاءت به خالته إلى سور اللواتية، فترعرع الصبي هناك، وشب وعاش منذ نعومة أظفاره مع اللواتية لدى أسرة خلفان الكاكلاني -جد سلمان حسن المعروف بـ”سلمان أسد”- وعائلته كبيرة وممتدة، فعمل مع عميد العائلة سليمان خلفان، الذي فيما بعد زوَّجه ابنته “رُقية”، فأنجبت له ستة أبناء: ثلاث بنات وثلاثة ذكور؛ منهم وأكبرهم من الذكور: الشيخ باقر محل السرد.
أسَّس الحاج عبداللطيف شركة ملاحية تجارية في مسقط عام 1895، وتاجر في الخطوط الملاحية، والأحجار الكريمة، والمعادن الثمينة، بجانب تجارته في استيراد وتصدير الأسلحة، وتصدير الأسماك المجففة لمختلف بلدان العالم.
وفي العام 1931، وافاه الأجل، وهو يهم إلى حوض الماء لإسباغ الوضوء في مجلس الحاج رمضان (رمو).
ونحن مع العام 1931، فإنَّ الشيخ باقر كان قد قطع شطراً كبيراً من العمر؛ فهو من مواليد عام 1872، وقد عاش ضمن الطيف الذي قطن سور اللواتية، الذي كان يعج بالبيوتات المختلفة؛ حيث المزيج من النسيج الاجتماعي والأرومات المختلفة. (ملاحظة: هناك تعليق على هذا النسيج بشيء من التفصيل في المحور الرابع).
وقد ذَكَر لي أكثرُ من مصدر مُطَّلع عن هذا النسيج -وفيما أذكر الأستاذ الكبير الحاج مال الله حبيب مواليد (1926)، أيا من تلك الأرومات كانت الأقدم سكنا ضمن ذلك الطيف، وكذلك الأستاذ مصطفى مختار اللواتية، الذي حدَّثني عن أن سور اللواتية كان بمثابة المظلة الكبرى التي استظل بها المستظلون- ولم يكن لهذا الطيف أن يستمر ويبقى لولا العناية الربانية والريادة لدور الشيخ باقر عبداللطيف.
وفي واحدة من الوثائق المستخرجة من ملفات الأرشيف البريطاني، وتتعلق بالبرقية التي وجَّهها أعيان اللواتية إلى القنصلية البريطانية في مسقط، في موت جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى، عام 1936، فإننا نجد أنَّ الشخصيات الخمسة التي أبرقت، كان الحاج حبيب مراد على رأس الخمسة، ويليه الشيخ باقر، ومن ثمَّ ثلاث شخصيات أخرى بعدهما. ونُدرك هنا أنَّ الشيخ باقر كان قد تبوَّأ الموقع ضمن الخمسة الذين كانوا يُشكلون اللجنة العليا في تلك الفترة؛ بحيث كان يأتي بعد حبيب مراد مباشرة.
ومع موت الحاج حبيب مراد عام 1940، وبصورة تلقائية، جاء الشيخ باقر على رأس اللجنة، إلا أن -وكما ينقل الجيل الذي عاش في تلك الفترة- الدور الفعلي للجنة كان مناطا بالشيخ باقر الذي نهض بالمسؤوليات منذ العشرينيات من القرن العشرين، وكان يدير شأن القبيلة مع بواكير عمره بكل حنكة واقتدار.
لقد اعتمدَ الشيخ باقر على التشاور والرأي، وأناط الدور بكبار القوم الذين كان يصفهم بالتيجان على الرؤوس، ويقدمهم في كل لقاء جامع مع السلطان سعيد بن تيمور، ويضع لهم الأرائك في موازاة صفه، وفي الخطوط الأمامية؛ تقديراً ووفاء.. ومن ضمن هذه اللقاءات: اللقاء الذي جمعه بالسلطان، وكانت قصيدة الأستاذ جواد جعفر الخابوري قد ترنم بها طلاب المدارس الأهلية ومقدمتها:
”بسم الدهر وبالإقبال بان وتبدى الكون في أعظم شأن”
لعلَّ السبب الأقوى في تسنُّم الشيخ باقر موقع الصدارة والمشيخة، هو أنَّ أفراد مجتمع اللواتية قد أنضجتهم التجربة والحياة، وقد ذابوا في حالة الوحدة والانسجام والتلاحم، فلم يكن لديهم مانعا أن يتولى زمام الأمور رجل مقتدر بغض النظر عن الفخذ والأرومة التي ينتمي إليها.
ولنعد إلى الشيخ باقر، لقد أسس ثاني مدرسة أهلية بعد مدرسة سلمان حسن عيسى؛ فقد أوعز لابنه جعفر أن يطلب من أحد وكلائه في الهند أن يبعث لهم بمعلم يدرِّس أبناء مطرح؛ فكانت مدرسة ماستر بنجي Bungee هي المدرسة الأولى ضمن المدارس الأهلية التي درست اللغة الإنجليزية بالأسلوب المتقدم، ومن أستاذ متخصص، ضليع، له خبرة متقدمة في التدريس؛ حيث بقي زمناً في مطرح، وتخرج على يديه جيل من المتعلمين، كانوا من الرعيل الذين اعتمد عليهم الشيخ باقر فيما بعد في مكاتبه خارج عُمان. وعلى مستوى العلماء والتربيين، ذكر لنا السيد شرف الموسوي أنَّ الشيخ باقر أقدم إلى مطرح من خيرة من صعدوا الأعواد في شهر رمضان المبارك وأيام شهري محرم وصفر.
حيث الشيخ صالح الدجيلي من مدرسة دار النشر في النجف، والسيد علي النقوي من الهند، وملا أحمد بن رمل من الإحساء، والسيد سعيد بن عدنان من البصرة، وقد جاؤوا إلى مطرح فوسع لهم المقام، وأحسن لهم الوفادة، وأكرم لهم العطاء. فقد كانوا يقيمون في نادي الإصلاح بمطرح، فيغدق عليهم، ويطلب منهم أن يفتحوا المجالس للنشء ما بعد ساعات القراءة، واستمر على هذا المنوال حتى يوم موته. وبعد موته، سار على خطاه ابنه.
ومن ضمن كبار العلماء المشهورين الذين أدوا الخدمات المنبرية الذين جاء بهم إلى عُمان وفي ثلاثة مواسم رمضانية مباركه: العلامة رشيد علي ترابي، الذي يعتبر واحداً من جهابذة المنبر؛ حيث قدم إلى مطرح في العام 1956، 1957، 1958، وكان يلقي المحاضرات والدروس في المسجد الكبير التابع للقبيلة، وهو مسجد الرسول الأعظم (ص)، ويذكر كبار السن ممن حضروا مجلس العلامة أنه أوجد تأثيراً في وسط الشباب لم يضاهيه عالم، وقد ترك أثراً كبيراً، الشيء الذي لا يزال محلَّ ذكر.
يذكر السيد شرف علي علوي الموسوي أنَّ الشيخ باقر طلب منه أن يلتحق بحوزة النجف ليتعلم الخطابة والدراسة الدينية، وقد طلب من الحاج جعفر سليمان الديناني أن يعمل اللازم على حسابه وفي أقرب فرصة. وأردف السيد بأنه، ومع الفتوة وشرخ الشباب، فقد تغاضيت وأحجمت عن السير إلى النجف الأشرف، وأضعت الفرصة التي لم أتأسف على شيء زُوي عني كتأسفي على ضياع هذه الفرصة، ولم تمر أيام حتى كان الشيخ باقر في ذمة ربه.
ومن الأمور التي تركت أكبر الأثر على حياة التجار تلك الخدمات التي قدَّمها للتجار من بني قبيلته، لا سيما للجيل الصاعد؛ حيث عمد إلى وكلائه خارج عُمان بأن يعملوا اللازم من توفير المقار والمنامات للتجار في البلدان التي يذهبون إليها لتجاراتهم؛ وعلى سبيل المثال: اتفق مع إدارة ديوجي جمال مسافر خانة أن يقدم للتاجر اللواتي نفس ما يعطي لخوجات الهند وباكستان، وذات الشيء فعله مع جيتا كوكل صاحب مسافر خانة البصرة، ومع صاحب مسافر خانة خراسان في كراتشي.
كما قدم كل أنواع الدعم لتجار اللواتية في جميع مكاتبه، متى ما احتاج التاجر إلى المال أو المساعدة، ومع فترة مشيخته زاد عدد التجار اللواتية ممن تعاملوا مع الخارج لأضعاف، حتى لم يبقَ تاجر إلا انتفع منه بأسلوب أو بآخر، وقد سمح لمن كان يعمل معه في تجاراته أن يعمل لذاته وكذلك؛ تشجيعا منه على توسيع قاعدة التجار ولخلق أجواء التعاون والتعاضد بين أبنائه.
بقيت هذه الروح العالية للحاج باقر شاهدة على كل الواقع الاجتماعي للقبيلة، فيما شاركه أبناؤه من بني مشيخته هذه الروح، ووقفوا معه مساندين له في كل تطلعاته، ونرى جليا هذه اللحمة بين الطرفين في الرسالة الصادرة عن السلطان سعيد، عندما أرسلها إلى أخيه الحاج علي؛ حيث جاء فيها: (نورد بعض نصوصها لصلتها بالموضوع)
”من سعيد بن تيمور، إلى المحب المكرم الحاج علي بن عبد اللطيف – دام بعافية…” حتى يقول محل الشاهد من كلامه ”ولاشك أن مثل الشيخ باقر فقيد في جماعة….” حتى آخر كلامه. ثم يردف، فيقول: “إننا أسفنا على موته والبقاء لله وحده؛ إذ إن هذا أمر محتم على البشر. فلكم ولعائلته جميعاً حسن العزاء وجميل الصبر.
وقد سرَّنا أنكم اتحدتم سويا في مواصلة أعمالكم. وهذا هو الأمل بأن تكونوا يدا واحدة، وأن تحافظوا على سمعتكم ومكانتكم كما كانت في أيام الفقيد….”.
المحور الثالث – علاقات الشيخ باقر بحكومة يريطانيا العظمى
قبل الشروع في الكتابة تحت هذا العنوان، أتوقَّف عند نص وردني من المكرم محمود علي عبداللطيف، على صفحتي بالفيسبوك، وله صلة مباشرة بما كتبناه في المحور الثاني، وما يلي النص، وستكون لنا وقفة على فحواه: ”للعلم أنَّ جدي عبداللطيف عندما كان شابا، طرق باب السلطان فيصل طالباً منه الحصول على الجنسية العُمانية؛ فكرمه السلطان بالجنسية، عندما علم القنصل البريطاني بتخلي جدي عن الجنسية البريطانية حبسه، علم بذلك السلطان فيصل فأرسل للبالويز، وكان هذا الاسم المعرف بالقنصل البريطاني، إنه لا يحق لك أن تسجن شخصاً يحمل جنسيتي”.
ولنا وقفة تأمل مع ما جاء من كلام المكرم الآنف:
أولاً: لم يذكر لنا المكرم محمود: هل الجنسية البريطانية وصلت إلى جده أبًّا عن جد؟!
ثانياً: هل الجنسية البريطانية قد مُنِحت له؛ كونه من رعايا البريطانيين؟!
ووفق قراءاتي المتواضعة في تعامل بريطانيا مع رعاياها، فإنَّ أسباب منح بريطانيا الجنسية لهم -كما حصل في بلدان الخليج- أن بريطانيا عندما استولت على الهند كمستعمرة تشريعيا -وذلك مع العام 1800 مباشرة بعد موت تيبو سلطان عام 1799- فإنها كانت تفرض على رعايا أقاليم الهند خارج الهند بالتبعية بالحسنى تارة، وقسرا في أوقات أخرى.
ويذكر الدكتور رضا باقر حبيب مراد في كتابه “جذور الهيمنة البريطانية”، أنَّ ثويني بن سعيد في مسقط -والذي حكم منذ 1855 وحتى 1866- وفي أوائل 1858، استطاع الحصول على ضمان بريطاني بعدم اعتبار اللواتية والخوجا المستقرين في عُمان قبل استيلاء بريطانيا على السند عام 1840 رعايا بريطانيين.
ونعلم تمام العلم أنَّ بريطانيا لم تلتزم بهذا الضمان، واستمرت في أساليبها القهرية بفرض الحالة الرعوية على أناس تركوا بلاد الهند والسند منذ أمد بعيد.
كما يرد السؤال الذي يطرح نفسه؛ وهو: كيف أن جده جيء به إلى سور اللواتية بعد مقتل والده، ولم تذهب به خالته إلى مكان آخر غير السور الذي احتضنه وآواه؟!
من جهة نظري، أنَّ مجيء جده إلى حواضن السور كان خط رجعة من العائلة، وأن التبعية البريطانية الأولى كانت ضمن المتعارف عليه من الحالات، وهي ما سارت عليه بريطانيا بعد ضم أقاليم الهند والسند كما أسلفنا.
نَبْقَى في دائرة التأمل والتحليل، والتساؤل المطروح يبقى قائما في إطار من النقاش، وبناءً على ما أستنتج، فإنَّ مطرح -وإن أمست الحاضنة- فإنَّ الانشداد إليها هو الانشداد إلى أصل الحالة؛ لأنها الأم الرؤوم، وقد احتضنت الحاج عبداللطيف لاعتباره ابنا لوالد يكون قد ترك أحضان السور؛ حيث إن حالات الهجرة كانت طبيعية في تلك الظروف.
ونرجع إلى صلب المحور الثالث؛ فقد كُنت حريصاً على أنْ لا أتحدث عن هذا المحور إلا من خلال الوثائق التي هي أمامي، ولعل ما يأخذنا الوضع إلى الشيخ باقر، ورغم أنه لم يكن يتمتع بالجنسية البريطانية، فهو من رعايا السلطان منذ أيام السلطان فيصل الذي حكم عُمان منذ 1888 وحتى 1913 حين تولى السلطان تيمور الحكم في مسقط وعُمان كما كانت التسمية، فإننا نلحظ جليا قربه من البريطانيين؛ الأمر الذي يعكس مدى اهتمامه بالمحافظة على العلاقة المتينة ليس مُخْتَصِرا الأمر في حاله بل إلى أفراد قبيلته. لقد ذكرت أنه مع موت جورج الخامس عام 1936 فإنه -ومع أربعة آخرين من إخوانه وأقرانه- يبرقون إلى القنصل البريطاني في مسقط بنص يقطر ألما وأسى (الوثيقة ننشرها في الكتاب).
إنَّني أتصور أنَّ العلاقات مع بريطانيا بقيت في غاية من الود بين اللواتية والبريطانيين، ولأسباب تاريخية حاضرة في مشاهد مطرح؛ حيث تعرضت لكثير من الحملات من الجيوش التي اجتاحت مطرح ومسقط؛ سواء على مستوى الوهابيين مع بدايات القرن التاسع عشر، أو ما قبلهم من قبل الإمام عزان بن قيس في العام 1867، أو مع حملات الإمام الخروصي عام 1913؛ حيث تشبث اللواتية بأرضهم، محتمين بسورهم بحصونه الأربعة، رافعين الرايات البريطانية على السور حتى لا يتعرضوا للقتل أو النهب، مع أن أسواقهم تعرَّضت للحرق، كما أن السور هو الآخر قد تعرض للحرق؛ حيث يذكر أنه ذكر في “الفتح المبين” ونهب أصحاب مطلق المطرح وأربعة، وأحرقوا سور اللواتيا، وقتلوا جُملة من أهل مطرح…حتى آخر كلامه (الجزء الثاني،ص:169) الطبعة السادسة عام 2016، وزارة التراث والثقافة.
هذه الرايات البريطانية كانت تحمي رعاياها الذين آواهم السور الحصين، مع العلم أنَّ اللواتية لم يكونوا جميعهم من رعايا بريطانيا، بل لا نستطيع الجزم بأن غالبيتهم كانوا كذلك، إلا أنهم لم ينسوا هذه اليد التي حمتهم ولو برفع الأعلام، الذي شكل الردع للمهاجم وأبعده عن الأسوار مسافات. وفي واحدة من الوثائق المستخرجة من الأرشيف البريطاني وتاريخها مايو 1937، نجد أن القنصلية البريطانية توجه دعوة لكبار الشخصيات في مسقط ومطرح لحضور الاحتفال الخاص بتتويج الملك جورج السادس، وزينت القنصلية بالمصابيح الكهربائية التي أضيئت ليلاً، وبدأ الاحتفال بوصول السفينة البحرية الملكية دتفورد، وذات الليلة احتُفل باستقبال رسمي قامت به القنصلية حضره السلطان سعيد بن تيمور وعدد من كبار رجال الدولة.
قائمة الشخصيات 35، لا تتضمن اسم الشيخ باقر؛ باعتبار المدعوين غير الرسمين هم من الرعايا البريطانيين. وفي هذه القائمة يتضح جليا أن الحالة الرعوية كانت لا تزال قائمة حتى ذلك التاريخ؛ وأن العلاقات ببريطانيا العظمى كانت في قمة الأهمية.
والذي يزيد الاستغراب أنه وبرغم عدم تبعية الشيخ باقر لبريطانيا، لكننا نجد -ومن خلال الوثائق التي سنعرضها- أن الشيخ باقر كانت علاقته ببريطانيا لا تضاهيها علاقة أي شخص في مطرح، ونحن أمام عشرات من حالات التبعيية حتى نهاية الاستعمار البريطاني للهند واستقلالها عام 1947. ولعل الأسباب من وراء هذه العلاقة هي أن بريطانيا كانت تدرك مدى علاقة السلطان سعيد بالشيخ باقر، وتقديره إياه، إضافة لتواجد الشيخ باقر بجانب السلطان في بعض اجتماعاته ولقاءاته، كما حصل مع روبرت هاي المقيم السياسي البريطاني في الخليج. كما يمكن أن يكون الشيخ باقر -نظرا لحجم تجاراته مع كلٍّ من الهند وباكستان، التي كانت جزءا منها قبل الاستقلال- وهذا الحجم من العلاقات القائمة على المصالح المتبادلة بين الطرفين. كما لا أستبعد أن للكاريزما دورا في الاستحواذ على هذه المكانة، والتي كانت بدرجة عالية من التأثير على من كان يتعامل مع الحاج بأسلوب أو بآخر، وقد سمعتُ الكثير عن الهيبة التي كان يتمتع بها الحاج. ثم إنَّ الحاج كان كريما، مفتوح اليدين، سخيا، معطاء، ونواله وصل إلى الأقربين والأبعدين، وهذا ما سيكون لنا حديث فيه ضمن الوثائق التي سنعرضها (في الكتاب). فمن عاداته التي دأب عليها: كثرة الدعوات للشخصيات في المناسبات العامة؛ حيث كان يتخذ من بيت العود مكانا لهكذا دعوات، كذلك نجد أن بيت ابن أخيه موسى عبد اللطيف كان يتخذ من رواقه مكانا للقاءات مع كبار الشخصيات في الدولة، كما حصل أن جمع ذات يوم -وكما توزعت صورة من هذا اللقاء- وهو واقف ومعه مالو (مال الله صاحب الجمارك)، وتشونسي القنصل البريطاني، وجعفر باقر، وجمع من مختلف الشخصيات النافذة. ومن الوثائق: تلك الموجهة له من الميجرتي.هكنبوثام قنصل بريطانيا في عُمان، في نوفمبر 1940، وفيها كلام يدل على عُمق العلاقة بين الشخصين، ويذكر له عن سوء حظه أنه لم يتمكن من الإتيان إليه؛ لأنه وجد البحر صاعدا، ولم يستطع أن يسوق بسيارته فوق الشاطئ الرملي. ووثيقة أخرى من قنصل آخر -لا يوجد عليها تاريخ- وتحمل ختم القنصلية البريطانية، وفيها يوجه له الدعوة للقائه؛ ردا على رسالة الشيخ باقر له، ويتمنى له الصحة، وهي بخط اليد، وفي العادة فإن الرسائل من هذا النوع من الشخصيات التي من العادة تحمل لها قيمة كبيرة لعمق العلاقة.
وأهم جميع هذه الوثائق: الوثيقة التي جاءت من آرإلدور إليسون، وفيها تأكيد أن (الملكة) -ويومها أميرة إليزابيث- ومن خلال سكرتيرها الخاص تبعث للحاج باقر رسالة، وهذه الرسالة هو مأمور بتوصيلها (الوثيقة سنعرضها في الكتاب وهي في العام 1948).
وقد طلبت من الأخ عبداللطيف محسن باقر -حفيد الشيخ باقر- إطلاعي على هذه الوثيقة، فقال لي مضمونها إنها تأكيد من الملكة إليزابيث إلى جدي -رحمه الله- تبلغه وضمن أمور أخرى متعلقة بالهدية وأهميتها، مع خالص شكرها للحاج باقر عبداللطيف وأفراد قبيلته اللواتية في مسقط كما شكرت أفراد القبيلة على نواياهم الحسنة تجاهها بمناسبة زواجها. وقصة هذه الرسالة والشكر هي أن الشيخ باقر قد أهدى للملكة إليزابيث قلادة غالية الثمن 10000 روبية هندية عام 1948؛ وذلك بمناسبة زواجها، ويومها كان المبلغ كبيراً جدًّا، وقد أهداها هذه الهدية باسم اللواتية.
وقبل أن نختم هذا المحور، وهو الخاص بعلاقة الشيخ باقر ببريطانيا العظمى، فإنه من الجدير أن نذكر أن الطفرة في تجارات الشيخ باقر -التي بلغت من المستوى ما بلغته- أحد أسبابه هو العلاقة الكبيرة التي جمعته ببريطانيا العظمى، التي كانت تتحكم في كل مفاصل المنطقة بما فيها إفريقيا.. ولولا الحكمة والدبلوماسية وفن إدارة العلاقات لربما كان الأمر مختلفا تماما.
المحور الرابع – التجارات
من خلال هذا المحور، أقف على بعض الشواهد على تجارات الشيخ باقر، وعن أسلوب إدارته لتجاراته الواسعة؛ فالشيخ باقر قد أثبت براعته في الإدارة؛ حيث قسم العمل ووظف الكفاءات، وركز على عنصر المغامرة، لا سيما في فترة الحرب العالمية الثانية. كما أنه قد دخل منافسا لأكبر الشركات الإنجليزية في المنطقة (كري منكزي) التي كانت تحتكر كل التجارات مع أوروبا. وبالمقابل، فإنه دخل إلى السوق العُمانية من أوسع أبوابها، فما ترك تجارة على أي من المستويات إلا وقد تصدى لها. حيث أسند إلى أخيه الحاج علي عبداللطيف مسؤولية الأسواق العُمانية برمتها، وقد كان فعلا دينمو (المحرك) للشركة؛ حيث استمدت الشركة قوتها من خلال المنتج العُماني الذي أوصله الشيخ باقر إلى أقاصي الدنيا شرقاً وغرباً، وقد كان الحاج علي يجوب كل عُمان ويشتري القاشع من معظم صيادي عُمان، لا سيما ما كان يجف من الأسماك على امتداد ساحل القرم حتى السيب، إضافة لسواحل الباطنة، وقد كان معظم هذا الإنتاج من نصيب شركة باقر عبداللطيف. وكذلك التمور والبسور والليمون الجاف؛ حيث الأطنان من الكميات التي كان يجمعها من المنتجين العُمانيين، ومن ثم يتم تصديرها للخارج.
ومع العام 1933، أرسل الشيخ باقر عبداللطيف أخاه الحاج علي إلى البصرة، في أولى محاولاته لكسر حاجز الاحتكار للوكالات الأوروبية من السفن.
ومع بذل المساعي الحثيثة بعد وصول الحاج علي إلى البصرة؛ حيث مكاتب شركة هانزا الألمانية، وبعد المفاوضات المضنية استطاع الحاج علي إقناع وكيل هانزا بالحصول على أولى وكالات السفن الأوروبية، ومعها فقد دخلت الشركة إلى أكبر الساحات الأوروبية، منافِسَة للشركة الإنجليزية (كري منكزي). وقد بدأ يدخل القاشع العُماني إلى كل أوروبا وفلسطين التي كانت يومها تحت الانتداب البريطاني. وفيما بعد، أوعز الشيخ باقر إلى أخيه موسى بالتصدي للعمل الدؤوب من أجل الحصول على باقي وكالات السفن الأوروبية، وهنا فقد بدأ العهد الجديد من التجارة التي درت الكثير على الشركة، فكانت الوكالات مارسك ونتلويتز وأوال وكي لاين، إضافة للسفن التي كانت تتعامل معها الشركة، وهي السفن البريطانية-الهندية The British India Navigation CO من قبيل: دارا، ودواركا، ودمرا، وسردانا، وسانتيا، ومغل، وبرجولا، وبامورا، وواسنا، ودريسا، والسفينة العملاقة Winga Poor؛ حيث كانت تعمل على خط إفريقيا.
وقد أرسل أخاه موسى إلى تشيك؛ حيث جلب من هناك أول مصنع في عُمان يعمل على طحن سمك القاشع، وأقامه في وادي خلفان في حلة الدكة في مطرح، وكانت الشركة ترسل السمك المطحون إلى أوروبا، إضافة إلى مواقع أخرى من العالم؛ حيث ومع الوكالات الأوروبية للسفن، فإنه قد فتحت أمام الشركة فرصٌ تاريخية لم تكن قد عهدتها الشركة من ذي قبل.
وفي حادثة من الأحداث التي لا تخلو منها حياة المغامرين، وحيث كان الحاج موسى عبداللطيف يهم بالسفر راجعا إلى بلاده ومن محطته في لندن، وقعت الحرب العالمية الثانية عام 1939، فتقطَّعت به السبل، وبقي محتارا لا حِيلة له، ومع المحاولات استطاعت شركة باقر أن تدبِّر له الأمر وتخرجه من لندن على ظهر سفينة هانزا إلى الهند، ومن ثم إلى عُمان.
الحاج موسى لم يعش طويلاً، حيث قد وافاه الأجل وهو في بداية الأربعينات من عمره، وكان ذلك عام 1941. وبفقده فقدت الشركة واحدا من أقوى رجالاتها الإداريين الموكولة إليه مهام أوروبا، والذي سعى لحصول الشركة على معظم الوكالات الأوروبية للسفن.
لقد كان بارعا في اللغات ويجيد الألمانية -كما ذكر لي حفيده فياض موسى عبداللطيف- ومع هذه اللغة، أكسب الشركة مزيدا من فرص النجاح في ضم أهم وكالات السفن يومها في كل أوروبا.
كما أنَّ الشيخ باقر قد أسند أعماله الإدارية والكتابية والاتصالات والتواصل مع مشاريعه ووكالات الشركة، إلى ابنه البكر الحاج جعفر باقر، الذي أدى العمل على خير وجه، لاسيما في الكويت؛ حيث فتحت الشركة فرعا لها هناك، تحت اسم مخزن مسقط، وكان الفرع يدار باسم ابنه جعفر، وكان عبدالرحمن بن بحر التاجر الكويتي الكبير وكيلا لهذه الشركة، فيما جعفر قد أسند مهام المكتب لأحد أبناء عمه الحاج علي، وهو أحمد المعروف بـ”ميرزا”، وكان سعيد محمد (أبو رضا) مديرا للمكتب.
ومن خلال هذا المكتب، تعامل الشيخ باقر مع البصرة، التي عين أيضا وكيلا فيها، وكان السمن العُماني يأتي من ظفار ويصل إلى الكويت عبر البواخر، وكان لشركة باقر عبداللطيف مكتبا في ظفار، والحاج عبدالباقي فيض الله علي خلفان اللواتي كان مسؤولا عن المكتب، الذي كان يأخذ حيزا في صف قصر السلطان سعيد في ظفار.
ويذكر عمي حسين داود -نقلا عن محمد علي الساجواني- أنه ذات يوم أرسل الشيخ باقر موظفا من موظفيه إلى وكيله عبدالرحمن بن بحر يحمل له منه رسالة، وعندما فتح ابن بحر رسالة الشيخ باقر، تفاجأ بأن الشيخ باقر يُخبره بأن سفينة محملة بـ3000 صفيحة من السمن الظفاري في طريقها إلى الكويت؛ فقد تساءل ابن بحر أنه بالأمس وصلت سفينة وهي تحمل 4000 صفيحة، وغدا سفينة أخرى محملة بالصفائح 3000: من أين للحاج باقر كل هذه السيولة؟
ويبدو أن الحرب العالمية الثانية كانت قائمة، والناس بحاجة للمؤن الغذائية لتصل إليها عبر عُمان، والتي كانت بحارها آمنة هادئة، وقد ذكر السلطان سعيد -في كتيبه تحت اسم “كلمة السلطان”- أن مداخيل الجمارك زادت مع الحرب العالمية الثانية التي قد غلت فيها المؤن. هذه واحدة من صور تجاراته، وما كان في كل مكاتبه في أعالي البحار لشيء أكبر مما تم ذكره، حيث إنه قد انتشرت مكاتبه في كل من كراجي وبيشاور وبنسي وكويتا وكاليكوت وجوادر وبنجكوور وشهبار وكرمان وبندر عباس، وقد أخذ إلى مكاتبه أكفأ العناصر من الموظفين من عُمان؛ حيث عين جعفر رحمة الله، وسليمان داود شالواني، ومحمد سليمان موساني، وخميس نجف علي، وموسى عبدالرضا، ومحمد تقي (همد تقي)، وحسن علي إبراهيم (شهباري)، وموسى محمد موسى المعروف بـ”لولد”، وآخرين؛ إذ عملوا في كل مكاتبه على طول البحر الغربي من الهند، وكانت هذه المكاتب تعمل في معظم تجاراته، وتستقبل البضائع والمؤن والمنتجات العُمانية إلى تلك البلدان، وتصدر البضائع منها إلى عُمان كمحطة ترانزبت، ومن ثم يذهب بعضها إلى إفريقيا؛ حيث شهاب حبيب كان أحد الوجوه التي تعاملت مع خط إفريقيا، محملا السفن بأجود الأخشاب الآتية من كاليكوت؛ إذ كان يعمل على الخطين الهندي والإفريقي، وكان من أندر الكفاءات في اختيار الخشب وجودته, كما كان من المتخصصين في التعامل مع أسواق الهارشا الهندية؛ حيث كان يجلبها من الهند، ومن ثم إلى إفريقيا على عُمان. ونأتي على الطاقم الوظيفي الأهم في مكتبة، فنجد الأكفاء من العناصر تعمل عنده، الذين كانوا من ذوي العلم والخبرة والأمانة؛ فهناك ناصر الخصيبي سكرتيره، وهناك حمود منصور الخصيبي الموظف المتابع، وعلي بخش وعلي شعبان قاسم (اليخني)، وآغا جعفر محمد عبدالكريم، وفاضل عبدالرضا وداود موسى، والسائق عيسى إبراهيم البلوشي، وطباعه الخاص تشاندرا كانت، ورمنك لال كوتاري كاتبه الخاص، وتشمبك لال موتاري.
وقد ذكر لي العم حسين أن هذين الأخوين رامنك لال وأخاه قد أصبحا من كبار التجار في عُمان من وراء اكتساب الخبرة من شركة باقر عبداللطيف، رجل المهام الصعبة الحاج محسن باقر عبداللطيف؛ فقد ذكر لي الأخ لطيف باقر أنَّ الشيخ باقر كان يوكل إلى ابنه أصعب المهام التي كانت تتطلب فيها المهارات من على السفن من إنزال البضائع وتناولها وتخزينها والتعامل مع طاقم العمال، ومتابعة الحمولات، وأحيانا تزداد حالة المشقة في الظروف المناخية الصعبة.
العمل أشبه شيء باللوجيستيك في مصطلح اليوم.. وكان الحاج محسن مؤتما لوالده في استلام الأثمن من البضائع التي يتطلب استلامها يدا بيد.
العمل الميداني كان يتطلب أحيانا التأكد من سلامة البضاعة وعدم تعرضها للتلف أو الفقدان؛ فكان دوره اللصيق للعمال من أهم مهامه وفي مختلف الأوقات التي يتطلب فيها الجهد والعمل الميداني؛ إذ السفن لا يمكن لها إبقاء البضاعة على ظهورها أكثر ممَّا يتحدد لها من الوقت، لاسيما في فرضة مطرح. ومما أوكله إليه والده هو الذهاب إلى الكويت لحل مشكلة التوكيل بمكتب الشركة في الكويت؛ حيث حصل سوء فهم بين الشركة وبين ابن بحر التاجر الكويتي الكبير المعروف، والذي كان وكيلا للشركة، وقد أخذ سوء الفهم منحى تصعيديا، أوصله الحاج محسن إلى مقام الأمير عبدالله ابن سالم الصباح، بعد سلسلة لقاءات مع المسؤولين، وقد جاءت الجهود بالنتيجة التي كانت محفورة في ذاكرة كبار السن من المطرحيين؛ حيث إنَّ الأمير قد أصدر أوامره يمنح بموجبها ترخيصا للشركة بالعمل بالكويت من غير كفيل ودون قيود.
والشيء بالشيء يُذكر، فإن الشيخ باقر كانت تربطه بأمير الكويت الشيخ عبدالله بن سالم الصباح علاقات صداقة قبل أن يصبح أميرا للكويت، وذات يوم استقبله في بيت العود، وكان الشيخ عبدالله بن سالم الصباح قادماً من الهند؛ حيث كان يتخذها مكاناً للاستجمام. وما من مرة استقبل فيها الشيخ باقر الشيخ عبدالله بن سالم الصباح، إلا وأهداه مائتي صندوق من الحلوى العُمانية ذات الجودة العالية، توصله السفينة الشراعية إلى حيث ترسو سفينته في فرضة مسقط.
أحمد الساجواني ومكتب الشركة في دبي
يعتبر مكتب الشركة في دبي من أنشط المكاتب، ولعل أهمها في الخارج. فهذا المكتب كان يتعامل مع العالم في الخارج نظراً لموقع دبي في التجارة العالمية. وقد ركز المكتب على أهم المنتجات في حينه، وهو تصدير السمك الذي كان يصدر إلى سريلانكا والموانئ القريبة منها.
والساجواني تعامل مع الشركة من أوسع أبوابها، وصدر بضاعتها إلى أقاصي الدنيا، ومما ذكر لي العم حسين أن الساجواني كان يحث الشيخ باقر على شراء العقار في دبي، ويومها كانت دبي منفتحة على العالم، وتعج بالشركات وحركة الهجرة؛ نظرا لتوسع تجاراتها عبر البحار وما وراءها.
الشيخ باقر رفض الاستجابة لرغبة وكيله في دبي، حول السير في هذا المنحنى، وعندما رأى الشيخ باقر إلحاح وكيله الساجواني قال كلمته: ”لا أستثمر خارج عُمان، تقديراً واحتراماً لسلطانها”.
وفاة الشيخ باقر
في يوم 27/11/1953، ومع مساء الجمعة، وعندما أرخى الليل سدوله، والجميع في مطرح ما بين نائم وغارق في سُبات الكرى، ومع صوت البارود الذي كان يخترق الأسماع معلناً الثالثة ليلاً بالتوقيت العربي، تفاجأ الناس في محيط السور على صيحات النوادب والناديات ونحيب من الحاج علي بن عبداللطيف ينعى أخاه باقر. وقد انتشر الخبر كانتشار النار في الهشيم؛ فغدت الناس تزدحم على بيته، وجثمان الشيخ باقر مُسجى، فيما قد علت من النساء الصيحات والبكاء العالي مع ساعات الصباح وارته مطرح؛ حيث شارك في تشييعه جمع غفير من مختلف أبناء مطرح ومسقط. وقد نعته الإذاعة البريطانية.
ذكر لي السيد شرف علي علوي الموسوي، في آخر لقاء جمعني معه أنا ودكتور حسين محمد، وقبل أيام، أنَّ اليوم الثالث من وفاته عجت مقبرة اللواتية بالمعزين، وعلى رأسهم الأسرة المالكة، وكان العزاء مقاماً في مسجد المقبرة القديم، وقد نعاه الخطيب المنبري محمد ابن عبدالله العود، وكان متفوها أديبا بارعاً في الخطابة، وهو ابن خالة الحاج جعفر باقر، وكانت فاتحة إلقائه:
”لا صوت النعي لخطبك إنه يوم على آل الرسول عظيم”
”إن كنت قد غيبت في جدث الثرى فالعدل والتوحيد فيك مقيم”.
ومع وفاة الشيخ باقر، فقدت مطرح واحداً من رجالاتها المخلصين، والحق أن عُمان قد فقدت واحداً من رجالاتها المتميزين.
المسافر خانة
بعد وفاة الشيخ باقر، قام الحاج علي بن عبداللطيف فاضل، والحاج جعفر باقر عبد اللطيف، عام 1956، بإقامة الوقف باسم الشيخ باقر “مسافر خانة في كربلاء المقدسة”، والكثير من جيلنا يتذكر اللوحة المكتوب عليها “بوابة المسافر خانة”. هذا.. ما أوقفه الحاج علي عبداللطيف وجعفر باقر تخليداً لذكرى فقيدهم الشيخ باقر عبداللطيف لجماعتهم الخوجة الاثنى عشرية – من أهالي مسقط.
وكان الحاج محسن باقر عبداللطيف يتعهَّد بصيانة “المسافر خانة” بين حين وآخر؛ خدمةً لزوار الإمام الحسين.
نرجو من الله التوفيق والثواب على رُوح الشيخ باقر، الذي لا يبعد الموقوف له إلا بمساحة قليلة من قبره في النجف الأشرف؛ حيث وُوْرِي جثمانه بجوار والده الحاج عبداللطيف فاضل، وأمه رقية سليمان خلفان، في مقبرة بيت آل عبداللطيف – رحمهم الله وأسكنهم الجنة.
المصدر: شرق غرب | العدد 15