Image Not Found

البساطة والتركيب بين الغِنَى والفقر رؤية علمية وفلسفية (1)

د. حسن أحمد جواد اللواتي

يسعى البحث العلمي الطبيعي للكشف عن البساطة في الطبيعة ويجتهد الباحثون إلى اكتشاف الوحدات والقوانين والنظم الأساسية في الطبيعة لإيمانهم أن الوصول إلى ذلك المستوى من البساطة يمثل غاية البحث الطبيعي العلمي، ومع أن الأهداف التقنية التطبيقية لتلك العلوم تسعى إلى مستويات أعلى من التركيب والتعقيد في الصناعة والإنتاج لخدمة الأغراض العملية الحياتية وتسهيل حياتنا اليومية إلا أن البحث العلمي النظري الأساسي يمشي في اتجاه آخر لفك المركبات وتبسيط المعقدات إلى المستوى الأساس من كل شيء، فعالم الأحياء يصنف الكائنات الحية ويشرحها بحثًا في الوحدات الأساسية فيمر من خلال الأعضاء والأنسجة وصولاً إلى الخلايا ومركباتها الكيميائية، وما انتهى إليه عالم الأحياء يكون بداية الطريق للكيميائي الذي يقوم بتحليل المواد المركبة لمعرفة العناصر الكيميائية الأولى ومن ثم يصنفها في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية والذي يبدأ بعنصر الهيدروجين وينتهي باليورانيوم ليشمل اثنين وتسعين عنصرًا طبيعيًّا، وقد يكون الجدول الدوري كافيًا لإرضاء طموح الكيميائي في البساطة ولكنه حتمًا لا يقترب من البساطة كثيرًا من وجهة نظر الفيزيائي الذي يعمل على معرفة مكونات الذرة لمعرفة الجسيمات الأولية التي تكونها.

إن قصة الفيزيائيين في رحلتهم لسَبر طبيعة المادة والتعرُّف على مكوناتها الأساسية قصة طويلة ويمكن الاطلاع عليها من خلال بعض الكتب القيمة في هذا المجال من قبيل (البحث عن قطة شرودنجر) لجون جريبين الذي يسرد أهم الأحداث في هذا الموضوع، ولكننا هنا لسنا معنيين بالبحث التاريخي للقصة بمقدار ما نحاول أن نفهم وجهة نظر الفيزيائي نحو البساطة والتركيب ونقارنها بوجهة نظر الفيلسوف الإلهي.

النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات

النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات هو نظرية وضعت في سبعينيات القرن العشرين لتفسير القوى الكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة والقوية من خلال حصر الجسيمات دون الذرية (ستة كواركات وستة لبتونات) وحاملات القوى (البوزونات الأربعة)(1)(2)، بل يمكن القول أن معظم الأشياء المادية حولنا تتكون مِن ثلاثة أنواع فقط من الجسيمات المادية وجسيم واحد فقط من حاملات الطاقة، وبذلك فقط وصل الفيزيائي إلى مستوى من الرضى عبر اختزال أشكال الطبيعة التي لا حصر لها حولنا إلى بضعة أنواع من الجسيمات الأولية، وكما قد تكون تعلم فإن ذلك لم يكف كثيرًا لعدة أسباب منها أن النموذج المعياري لا يقدم تفسيرًا لظاهرة الجاذبية كما أن التقدم الذي حصل خلال المائة سنة الماضية في مجال الفيزياء الكمية أوضح لنا أن تصوراتنا عن الجسيمات ككرات صغيرة تدور حول نواة الذرة هي تصورات ساذجة وغير صحيحة، ولكنك في غنى عن تعقيدات فيزياء الكم في هذه المقالة لذا لن نتطرق لأي من ذلك، وما ذكرناه بالاختصار الشديد عن النموذج المعياري كافٍ جدًّا لتقديم تصور أوَّلي للقارئ عن نظرة الفيزيائي للبساطة، فالفيزيائي يرى البساطة عن طريق تحليل الموجودات المركبة حولنا إلى موجودات لا تقبل التحليل بنفسها، أي أن طريق الفيزيائي يهدف إلى الوصول إلى الجزء الذي لا يتجزأ في الطبيعة.

الوجود المتطوِّر: بسيط أم مركب؟

مما سلف سيتضح أن عالم الطبيعيات (وبالذات عالم الأحياء) سيعتبر أن هرم الوجود يبدأ بالموجودات البسيطة (الجسيمات الأولية) والتي يعتبرها أضعف الموجودات وأقلُّها تطورًا وأصغرها رتبة في عالم الوجود، ومن ثم فإن الذرات هي أكثر تطورًا من الجسيمات لأن كل ذرة تحوي أكثر من نوع من الجسيمات الأولية وبعدها تأتي الجزيئات والمركبات التي تتكون من تلك الذرات، وعندما نصل للخلية فإننا نكون قد قفزنا رتبة وجودية عالية، وبالطبع فإن الكائنات الحية المكونة من تلك الخلايا هي أكثر تطورًا لأنها أكثر تعقيدًا منها. باختصار: عالم الطبيعيات يرى أن التعقيد مساوق للرتب الوجودية العليا في حين أن البساطة هي مساوقة للرتب الوجودية الدنيا، فهل يا ترى يتفق الفيلسوف الإلهي مع ذلك؟ الأمر هنا يتخذ منحى آخر من البحث، حيث نترك أجهزة المختبرات على جانب ونبدأ بالبحث العقلي لأن ذلك هو الأداة الرئيسية للفيلسوف، التطور هنا قد ينظر له بمنظورين اثنين:

المنظور الأول هو المنظور الوظيفي(3) وهو نفس منظور عالم الطبيعيات للموجودات المادية، وفي ذلك نتفق أن الموجود المركب والمعقد أكثر تطورًا من الموجود البسيط لأنه يؤدي وظائف أكثر من ناحية الكم والكيف بالمقارنة مع الموجود البسيط، فالجهاز الإلكتروني المركب من قطع صغيرة يؤدي وظائف أكثر من وظائف تلك القطع الصغيرة لوحدها، والإنسان يؤدي وظائف أكثر من خلاياه المنفصلة لوحدها وهذا أمر يتفق فيه الطبيعي مع الفيلسوف.

المنظور الثاني هو منظور احتياج الأشياء إلى بعضها للوجود(4)، فالمركب محتاج إلى أجزائه ليتواجد ولولا تلك الأجزاء لما كان للمركب وجود، ولكن في المقابل فإن الأجزاء لا تحتاج للمركب لتكون موجودة فيكفي أن يكون الموجود البسيط موجودًا بدون أن يحتاج إلى تكوين موجود آخر مركب منه ومن غيره، وعلى ذلك فإن الموجود المركب أكثر افتقارًا من ناحية الوجود بالمقارنة مع الموجود البسيط، وكلما ازداد التركيب في شيء ازداد فقره وحاجته من ناحية الوجود وبالمقابل كلما كان الشيء أبسط كان أغنى وأتم من ناحية الوجود.

الفيلسوف الذي يحاول دراسة الأشياء من ناحية وجودها واحتياجها لموجد وعلة وسبب ينظر للأشياء من هذا المنظور لأن هذا المنظور هو الأساس للمنظور الثاني، وبعبارة أخرى فإن الشيء إن لم يكن موجودًا بالدرجة الأولى فهو غير قادر على أداء أية وظيفة أساسًا، ولا بد أن تكون موجودًا لكي تستطيع أن تؤدي أي وظيفة أخرى، لذا نستطيع القول أن المنظور الثاني للبساطة والتركيب من ناحية الفقر والغنى هو المنظور الأساسي والبنية التحتية التي يبتني عليها المنظور الأول.
ـــــــــــ
– ستجد في كثير من الكتب أن عدد الجسيمات التي تكتشف كبير ويزداد لدرجة يسميها البعض بحديقة حيوانات الجسيمات (Particle Zoo) وهناك كتاب يسمى ب (الانفجار العددي للجسيمات) ولكن معظم تلك الجسيمات تظهر في حالات استثنائية خاصة ودورها في الوضع الاعتيادي محدود جدًّا، لذا يصح أن نقول أن معظم الظواهر في الطبيعة الاعتيادية (باستثناء الجاذبية) يمكن تفسيرها بعدد قليل من الجسيمات المذكورة في النموذج المعياري.
– قد تقرأ أيضًا أن حاملات الطاقة لها 12 نوعًا هي الأخرى وذلك لأن إحداها (بوزون W) له نوعان وأخرى منها (جلوون) له ثمانية أنواع، ولكن ذلك لا يتعارض مع القول أنها أربعة فقط إن اكتفيت بعدهما كنوع واحد.
– ويسمى بالفلسفة ب (كان الناقصة) فعندما تقول (كان زيد قائمًا) فإن كان هنا لا تنظر إلى وجود زيد من عدمه وإنما تنظر إلى كون زيد في حالة القيام أو القعود مثلا، ولذلك تسمى ناقصة لأنها لا تكتمل بقولنا (كان زيد) بل تتطلب أن نقول (كان زيد كذا وكذا)، ويقابلها في النفي (ليس الناقصة) حيث لا يكفي أن تقول (ليس زيد) بل لا بد أن تذكر (ليس زيد كذا وكذا) وعليه فإن كان الناقصة هي المنظور الوظيفي لأي شيء.
– وتسمى بالفلسفة ب (كان التامة) حيث إنه عندما نقول (كان زيد) فإن العبارة تعتبر تامة لأن ما تريد العبارة إثباته هو وجود زيد فقط وليست معنية بإثبات حالة معينة لزيد أو إثبات وظيفة معينة يؤديها زيد، ويقابلها بالنفي (ليس التامة) حيث تنفي وجود زيد ولا تنفي حالة معينة أو وظيفة معينة عن زيد.

شبكة الفجر الثقافية