تحل على العالم الاسلامي غدا ذكرى عاشوراء الأليمة، وهو اليوم الذي استشهد فيه سبط النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الحسين بن علي عليه السلام في ارض كربلاء علي يد الجيش الاموي الذي كان يقوده عبيدالله بن زياد من الكوفة، ويزيد بن معاوية من الشام.
ومثل كل سنة، يحل هذا اليوم على المسلمين طارحاً اسئلة كثيرة حول وظيفة المسلم تجاه واقعة تعتبر وصمة عار، ولطخة سوداء في تاريخ المسلمين، خصوصا ان الجريمة كانت بشعة بكل معانيها، وان من ارتكبت في حقه هو سبط النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وابرز شخصية اسلامية وقتها، ومن قال فيه النبي الاكرم حسب مصادر الفريقين: “حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من احب حسينا”.
من أهم التساؤلات التي تطرح اليوم على المسلم هي ماذا يمكن ان يستفيده من حركة كربلاء، ليحوّل التاريخ الأصم المخزون في الكتب الى تاريخ يحرك حاضره، ويغير واقع الظلم الذي تعيشه البشرية بالعموم، والمسلمون بشكل اخص.
ثم هل ثورة كربلاء هي خاصة بفئة دون اخرى من المسلمين؟!
وهل الحسين بن علي حينما قال فيه النبي -مدحا- ما قال، كان هدفه صلى الله عليه وآله وسلم تخصيص سبطه لجزء من المسلمين؟!
هل في شخصية الحسين السامقة ما يشي انه لمسلم دون آخر؟ بل انه لمسلم دون غيره من البشر؟!
وهل في حركته وثورته العظيمة طائفية ام فئوية ام مذهبية؟!
المتابع والباحث في تاريخ هذه الثورة سيجد ان بيانات الثورة الحسينية، واهداف صاحبها سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والقيم التي قدمتها تلك الثورة، كلها تصب في ان هذا الثائر لاجل الله كان يفكر في امة جده صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الانسان عموما حين يقع عليه الظلم، او تُهان كرامته، وتستباح عزته:
الحسين بن علي عليه السلام اطلق اول شرارة ثورته في مجلس الوليد بن عتبة والي يزيد بن معاوية في المدينة حينما طلب منه البيعة ليزيد، فرد عليه الحسين ببيان قل نظيره في التاريخ، بيان قصير صغير، يحوي مفاهيم اسلامية/انسانية عظيمة راقية سامية.
اجاب والي المدينة: “.. ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرَّمة، ومثلي لا يبايع مثله”
يزيد هنا -في كلام سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم- مخالف لسنة النبي الأكرم(ص)، فهو “فاسق”، ويزيد ايضا غير متزن في تفكيره لانه “شارب الخمر” ومعظم اوقاته يقضيها في السكر، وفوق هذا وذاك ظالم جزار “وقاتل النفس المحرمة” لذا تأبى الاخلاق الرفيعة التي يمتاز بها الانسان الشريف، وتأبى القيم العالية التي يعتنقها المسلم، وتأبى الفضيلة التي عُرف بها البيت الهاشمي ان يبايع الحسينُ يزيدا، “ومثلي” الذي يمثل القيم والاخلاق والدين والفضائل، لا يبايع “مثله” يزيد ذلك الغائص في الرذيلة والملوّثة يداه بدماء الأبرياء، فالموضوع موضوع كرامة وعزة، ومسألة خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلح لها مثل هذه الشخصية التي يمثلها يزيد.
حين خروجه للثورة اوضح الحسين بن علي عليه السلام اهداف ثورته من خلال بيانه الأشهر: “اني لم اخرج اشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي محمد، أريد ان آمر بالمعروف، وانهى عن المنكر.”.
هذا البيان يختصر اهداف الثورة الحسينية وعلى رأس تلك الأهداف “الاصلاح”.
الإصلاح كان هدف الحسين الأسمى، وأمة جده كانت نصب عينيه، فلم يكن تفكير الحسين اثناء نهضته منحصرا في فئة دون اخرى، ولا في قبيلة او اسرة او اصدقاء، كان ينشد النهوض بأمة جده، واصلاح ما افسده يزيد بن معاوية فيها.
في رسالته المشهورة ردا على بعض وجوه الكوفة حينما اتته كتبهم تبايعه كتب الحسين بن علي عليه السلام، (وروي انه قال هذا الكلام في خطبة له): “وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيئ، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله..”
مرة تلو مرة كان الحسين يؤكد انه خرج دفاعا عن الإسلام، ضد من استهتروا بهذا الدين، وتحكّموا بمقدرات الامة، واشاعوا الفساد فيها.
أثناء قتاله في معركة كربلاء صدح صوت الحسين ايضا ببيان آخر لا يقل عن البيانات السابقة، فقال مخاطبا الجيش الأموي: “إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا احرارا في دنياكم”.
هنا يتحرك الحسين من منطلق مختلف، فهو يخاطب انسانيتهم، ويحاول ان يعرّي ما كانوا يدّعونه من دين او مبادئ.
فاذا لم يكن لدى الانسان دين يحجزه عن ارتكاب الجرائم، واذا كان يأمن العقوبة والعاقبة ولا يخشى منها، فلا اقل ان يكون “حرّاً” في حياته، “حرّاً” في قراراته، فالحرية هنا تعني ان يكون محرّكه قيم الانسانية الكبرى، والعادات الاصيلة التي تفرض عليه ان تتطابق افعاله مع الاخلاق التي يعتنقها، فيكون “حرّا” لا يستعبده ظالم، ولا يحركه طاغية.
الحسين في هذه المقولة يخاطب في الانسان قيم الانسانية ومبادئها ما دام قد تجرّد من الدين.
هذه البيانات -وهناك غيرها كثير- تدل على ان الحسين لم يحصر ثورته في فئة، بل انطلق ليكون منارا لكل المسلمين، ولكل انسان يطالب بحقوقه، ويريد ان يعيش عزيزا كريما.
الحسين اراد لثورته ان تكون طريقا لكل الثائرين والفاتحين والمناضلين في مختلف العصور، يأخذونها قبسا ويهتدون بهديها في طريق الإباء ورفض الظلم.
لذا ضمت ثورته الطفل والمرأة والشاب والشيخ، وضمت ثورته مختلف القبائل والاعراق بما فيهم العبيد الذين كان يُنظر اليهم وقتها بدونية.
وضمت تلك الثورة الصحابي والتابعي وقاريء القرآن والمجاهد والغني والانسان البسيط.
وليس ادلّ على ان الثورة كانت لاجل الحق والمستضعفين هو إلتحاق عدد من الجيش الاموي بمعسكر الحسين في يوم العاشر وقبله، ولعل ابرزهم الحر بن يزيد الرياحي، وزهير بن القين البجلي.
مضافا الى ان الثورة ولانها كانت خالصة لله وللحق انسحب منها طوال الطريق من بدايتها الى يوم عاشوراء اعداد ليست بالقليلة لانها لا تلبي مصالحهم، وتطلب منهم ارواحهم ودماءهم في سبيل الحق، مثل يزيد بن الحر الجعفي وعدد ممن عُرِفوا لاحقا بـ”التوابين”، وتخاذل آخرون من اهل الكوفة ممن كانوا يدّعون حبه وكانوا كاتبوه انهم جاهزون لنصرته مثل قيس بن الاشعث، وشبث بن ربعي.
الثورة الحسينية قدمت امثلة لا نظير لها في حب الفداء والتضحية، وفي الدفاع عن العزة والكرامة، وفي سبيل رفض الظلم والفساد.
نستعرض هنا بعض تلك المواقف التي خلَّدَها التاريخ وخلَّد اصحابها مما تدل انها ثورة الحق، والحق هو مطلب الانسانية كلها، لا مطلب فئة:
في طريقه الى كربلاء، سأل علي بن الحسين الأكبر اباه: أولسنا على الحق؟! فقال له الحسين: بلى والله. فرد عليه علي الأكبر: اذاً لا نبالي والله، وقعنا على الموت، ام وقع الموت علينا.
هكذا كانت ثورة كربلاء، معركة حق مع باطل.
من الملاحظ ان الحسين بن علي عليه السلام منذ خروجه والى حين استشهاده كان القرآن رفيقه وصاحبه، وكان الدعاء سلاحه، فنجده في كل اوقاته يستعين بالله، تسبيحا وتهليلا واستغفارا وتوجّهاً، ولعل ابرز ادعيته حينما اصبح صباح عاشوراء بدأ يومه العظيم هذا بـ”اللهم أنت ثقتي في كلّ كَرب، ورجائي في كلّ شدة، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعُدّة، كم من هِمٍّ يَضْعفُ فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحِيلة، ويَخذُلُ فيه الصّديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلتُه بك وشكوتُه إليك، رغبةً مني إليك عمّن سِواك، ففرّجته وكشفته، فأنت وليُّ كل نعمةٍ، وصاحب كلّ حَسنةٍ، ومنتهى كلّ رغبة”
وفي ليلة العاشر من محرم تروي الروايات العديدة ان مخيم الحسين كان له دويّ كدويّ النحل، بين قاريء للقران، وبين مسبح ومستغفر، وقائم وقاعد.
فكانت لتلك الصفوة بقيادة الحسين علاقة خاصة مع الله، ولا تتحرك الا في ذلك المحيط الايماني الخاص، فلا تخاف الا منه، ولا ترجو غيره، وتستعين به وحده جل وعلا.
بل حتى حينما اصابه ذلك السهم في قلبه، كان يدعو وهو يسقط من جواده: “بسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله”
بعد معركة كربلاء، وبعد ان ساقوا اهل بيت النبوة من نساء واطفال في الاسر، واحضروهم الى مجلس عبيدالله بن زياد، والذي اخذ يخاطب السيدة زينب بنت علي اخت الحسين مستهزئا وشامتاً: “كيف رأيت صنع الله بأخيك؟” فترد عليه حفيدة رسول الله(ص) بكل اعتزاز واكبار ووقار، وبكل تسليم لحكم الله ورضاً بقضائه: “ما رأيت الا جميلا”.
لتضرب بذلك اروع مثال للشجاعة والإقدام، واجمل صورة لتلك الثورة التي لم تفارق الله في كل مراحلها، واجلى مظهر لحب الله والتسليم المطلق له جل وعلا.
مواقف كربلاء كثيرة، خصوصا تلك المرتبطة بالإباء والعزة والكرامة، وبحب الله والفناء فيه، وبالتضحية والفداء والعطاء.
فكل شهيد فيها رسم مواقف عجيبة راقية ومضى الى الله وقد شارك الحسين بن علي في رسم خارطة طريق لمقاومة الظلم، ورفض كل ما يمس كرامة الامة وعنفوانها، والدفاع عن المظلومين والمستضعفين.
المسلم / الانسان مدعو لجعل واقعة كربلاء مسارا يرسم له علاقته مع الله، وجعل الحسين منارة لكل ثائر ورافض لاستباحة الدين ومبادئه، والوقوف بوجه كل مستهتر بالانسانية وكرامتها.