Image Not Found

الشاعران خسروي والرضا.. ماذا يدور في أروقتهما؟

Visits: 12

علي بن عبدالله اللواتي – الرؤية

مدينة مشهد أو خراسان، المسمى الإسلامي القديم، ومرقدُ الإمام الثامن من أهل بيت النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وحفيد السيدة فاطمة بنت النبي محمد (صلى الله عليه وآله سلم)، هذا المرقد يجعل من هذه المدينة مُقدسة عند العديد من المسلمين، وهي مدينة لها تاريخ عريق فقد شهدت ازدهار الخلافة العباسية في أزهى عصورها عندما نُقلت الخلافة في زمن الخليفة المأمون من بغداد إلى خراسان، ويعزى نقل الخلافة لوجود نسب للمأمون من أمه الفارسية المنبت من جهة، وإبقاء هذا الإمام تحت أنظاره سياسيًا بتعيينه وليًا للعهد من جهة أخرى، فقد أمره أن ينتقل من مدينة جَدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم)، المدينة المنورة إلى خراسان؛ ولكن الإمام ونظرا لبُعد نظره السياسي، اشترط أن يقبل رمزيا ولاية العهد دون أدنى تدخل في إدارة الحكم.

وعندما تصل إلى مدينة خراسان، وتشاهد هذا الصرح الديني لمرقد الإمام تقف احتراماً وإجلالاً له، وتحبذ أداء معظم فرائضك في رحاب هذا المقام الشريف، ولكن ما شدني هي الحركة اليومية في هذين الشارعين الحيويين، فمرورك اليومي لن يكون مرورا اعتباريا كأي شارع في مدينة مزدحمة سكانها 12 مليون نسمة، ذلك لوجود حراك اقتصادي بين جنباته يستقطب آلاف الزوّار ومرتادي المدينة من مختلف بقاع الأرض.

شارع الرضا وخسروي من الشوارع المهمة في محيط الحرم الرضوي، نسبة لوجود عدة أنشطة ومصالح حيوية من محلات تسوق وبنوك وصيدليات وعيادات، فيكون مرورك عاجلاً ليس إلا، ولكن لو تمعنت في صلب حركته اليومية لوجدت هذين الشارعين من أهم شوارع خراسان، ويشكلان أحد أهم مقومات الاقتصاد اليومي الفردي.

لم أجد مع تجربتي في الأسفار حركة اقتصادية سريعة قد أصفها بأسرع من الصوت، صرّافون متجولون فوريّون متمكنون في عمليه استبدال العملات الورقية أو التحويلات البنكية وأنت واقف أمامهم، تغنيك عن الذهاب إلى البنوك والوقوف في الطابور للإيداع؛ مما يأخذ منك الوقت الطويل، هذه الحركة المالية لم أجدها خلال سفراتي ورحلاتي الاستجمامية وخاصة لتلك البلدان المتعطشة للعملات العالمية الصعبة. إنها أسرع وسيلة نقل أموال شاهدتها في حياتي وليس مطلوبا منك إثبات هويتك أو تقديم أي مستند ثبوتي سوى بطاقة السحب، كل هذا يتم من خلال الجهاز النقال، حيث يعرض الصراف جهازه على بطاقة السحب الخاصة بك ويتم تسجيل البيانات تلقائيًا، وتتم عمليه التحويل، من خلال الصرّافين المتجولين الذين ابتكروا لهم نغمات موسيقية مميزه يشّدون بها انتباه الزائر السائح الذي هو في الأساس مصدر الورقة الخضراء والعملات الأخرى، فتسمع صوت صرّاف الدولار يختلف عن صوت صرّاف الدينار، والريال أو صوت موسيقي آخر مخصص لحجز سيارة أو باص متوجّه لبغداد، أو البصرة، والنجف والعباّدان، إنها شرائح هاتفية متباينة، ويكفيك الوقوف وسماع هذه النوتة الموسيقية العفوية المبدعة لتتوجه إليه، فالشخص المحتاج لاستبدال العملة الخارجية بالمحلية (الريال الإيراني) يقف ويجادل الصرّاف بأفضل السعر وعند الاتفاق يقترح في حالة التحويل رقم حسابك البنكي وتتم عملية التحويل في أقل من نص دقيقة -لقد كان “الحصار الغربي والأمريكيّ” على إيران، مثل الحاجة أم الاختراع- وهكذا تتم العملية برضا الطرفين ويستمر الصّراف في التحويلات بين استلام نقدي وتحويل فوري.

إن مشاريع الصرافة الجوالة في تنافس شرس مع البنوك، فالتسليم الفوري في الشارع أقل سعرٍ عن المؤسسات الحكومية، وهذه الحال تعطي للبائع إغراءً للاستبدال العملات وإغناءٍ عن الذهاب إلى البنك، والطريف في الأمر، أن كل هذا يحدث أمام مرأى الحكومة، فالجهات المختصة على علم بذلك دون أخذ أي إجراء منعي.

هذه العملية التحويلية تخفف الضغط اقتصاديا عن كاهلها.

فهذان الشارعان يوفران العملة الخارجية داخليا وخارجيا. لقد برزت حالة الصرافة الفردية الجوالة من خلال الانتكاسات السياسية والاقتصادية لدولتين ذاتي قوة بشرية هائلة وموارد طبيعية، بحيث أوجدت حالتين لا تتواجدان في الشرق الأوسط قاطبة حتى بعد الربيع العربي، ومنها الحالة الأولى: الهجرة الحصارية من منطقة ذات اقتصاد ضعيف إلى منطقة ذات اقتصاد أضعف ـ نتيجة الحصار.

المنطقة المحيطة بالمرقد موقع التناقضات في الحياة اليومية خاصة هذين الشارعين هما مخاض الحروب المستحدثة طوال السنوات الـ45 سنة الماضية (الثورة الخمينية والحروب المتعاقبة على البلدين في إيران والعراق مثل حرب 8 سنوات، غزو الكويت وأخيراً غزو العراق 2003).

كما أن معظم القائمين على عملية استبدال أو شراء العملات والحجوزات هم من الفئة الشبابية العراقية المهاجرة، هذه الفئة كوّنت لنفسها نظاما مصرفيا خاصا يُسهل عليهم مصدر رزقهم اليوميّ، فهم ليسوا معتمدين على الوظيفة وإنما على هذه المهنة الاستثنائية، وقد ابتكروا مسميات خاصة لرزم العملات. وقد التقيتُ أحدًا منهم، فنظر في ملامح وجهي ففهمت منه سرية الموضوع، إلا أنه وافق على البوح بالسر، فقال لي: لدينا موقع يسمى غرفة الكونترول، موقع مستحدث من قبلهم لإيجاد العملة الخضراء لخدمة التجار وأصحاب المصالح، ويجّمع هذا الكونترول بين جنباته مجموعة من المتداولين المعروفين في سوق العملات الورقية، إنه موقع خاص وسري مثل البورصة. يوميا في الصباح الباكر يعرض السعر حسب الطلب والعرض على الشاشة الخاصة بهم، ومن خلال “العملية التداولية” يُحدَّد سعر الصرف الدولاري والعملات الأخرى، ثم ينزل هذا السعر إلى الشارعين (خسروي والرضا). وعند توافر الورقة الخضراء بكثرة ينزل السعر(تسعيرة الورقة) فورا وعند قلة المعروض منه يرتفع، فعلى السائح الزائر مواكبة المتابعة والتحقق من تسعيرة العملات، ثم طلبت منه شرح نهاية هذه العملية الشرائية.

حالة من النشاط اليومي حيث تسمع وتشاهد رطنة عربية بلكنة فارسية والأيادي ممتلئة بالنقود الفارسية، أما الملبس فأحدث طراز (موديل) بناطيل مخصّرة والرقاب والأيادي ملفوفة بالسلاسل المزركشة وذات أشكال جميلة وبديعة.

ولهؤلاء الصّرافين تعريف خاص للرزم النقدية، فالشّدة الأمريكية لها مكّون يسمى (المكّون الرزمي)، بينما الشّدة الإيرانية لها مكون بمسمى آخر. الشّدة الأمريكية (دُولار) تصل بأيدي التجار المحليين والفائض منها يتحول إلى أفغانستان أو باكستان ثم إلى العراق.

سألتُ أحد الصرافين الحاضرين: هل أنت مرتاح من هذه التجارة؟ فرد إنها لقمة العيش المُرة تضمن لي ولأسرتي المسكن والملبس، بينما موطني يعج بالفاسدين، فقلت له هذه حالة الشرق الأوسط المريض، وسألت آخر، وهو قابع على دراجته النارية ممسكا برزمات نقدية، ما شعورك وأنت حاضن بين يديك هكذا كمْ من النقود والشارع مليء بالخيّر والشر، فضحك ثم قال الأمان الأمان… خلصنا من النار يا رب.

لقد أوجدت هذه الأزمات السياسية والإنسانية وعدم الأمان تزاوجا واختلاطا بين الجنسين العربي والفارسي فأوجد إنسانا مزيجا من نتاجها ما بين الصلابة العربية والجمال الفارسي، ناهيك عن ظهور لغة استثنائية ممزوجة بين الأحرف العربية والفارسية بلكنة خليطة، فالفارسي يتكلم العربية بلكنة فارسية والعربي يتكلم الفارسية بلكنة عربية، فهذه الحال أوجدت لغة مهجنة، بالإضافة إلى خلط جديد في المأكل العربي والفارسي. وفي الآونة الأخيرة بدأ المطبخ الآسيوي يدق أبواب خراسان فتشاهد مائدة الأكل الهندي والباكستاني والأفغاني شاهدا على هذه التوليفة البشرية المتواجدة. إن انفتاح هذين الشارعين على مختلف أطياف الأجناس فيه أوجد توافقا وتواصلا إضافيا للمطبخ الآسيوي الذي لم يكن معروفاً في البيئة الفارسية التقليدية وبالتالي إضافة جديدة في الصلب الفارسي.