تعمل جميع دول العالم -ومنها السلطنة- على تطويع سياساتها المحلية لتكون أكثر جاذبية للاستثمار الأجنبي. فهذه السياسة تم تفعيلها لدينا منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، إلا أنه نتيجة لاستمرار البعض في ممارسة التأخير في اتخاذ القرار والتردد والبيروقراطية، والعمل لتحقيق مصالح خاصة أحيانا، فقد فقدنا الكثير من الاستثمارات الخارجية خلال العقود الماضية؛ وبالتالي تأثرت سياسة التنويع الاقتصادي التي تبنتها السلطنة منذ تلك الفترة.
الأرقام الأخيرة التي نشرتها المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات لعام 2022، تشير إلى أن السلطنة استقبلت العام الماضي 3.716 مليار دولار أمريكي ضمن الاستثمار الأجنبي مقارنة مع 4.021 مليار دولار في عام 2021 بتراجع قدره 305 ملايين دولار وبنسبة انخفاض قدرها 7.6%. وإذا تمعنّا في الأرقام سنجد أن ترتيب السلطنة بين الدول العربية جيدٌ في جذب الاستثمار الأجنبي نتيجة للجهود المبذولة في هذا الشأن من قبل الجهات المعنية؛ حيث تأتي السلطنة في المرتبة الرابعة ضمن الدول العربية في جذب الاستثمارات الأجنبية خلال السنتين الماضيتين. فالإحصاءات تبيّن وجود تراجع طفيف في إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة الى الدول العربية بشكل عام خلال العام الماضي وبنسبة 3% لتبلغ نحو 54 مليار دولار. ويأتي هذا التراجع تزامناً مع تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي في العالم بمُجمله وبنسبة 12.4% لتصل إلى 1.3 تريليون دولار عام 2022. وهناك عدة أسباب لهذا التراجع، إلا أنه وفق التقرير يعزى ذلك لتأثر العالم باستمرار الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، ونتيجة لتزايد الضغوط التضخمية وتشديد الأوضاع المالية في غالبية دول العالم.
البيانات الصادرة عن المؤسسة كشفت أنَّ حصة الدول العربية من الاستثمار الأجنبي في 2022 تمثلّ نحو 4.2% من مجمل التدفقات العالمية و6% من مجمل التدفقات الاستثمارية الواردة الى الدول النامية، فيما كان هناك تركيز جغرافي لهذه الاستثمارات تجاه ثلاث دول عربية التي استحوذت على 78% من إجمالي تلك التدفقات المالية، وتوزعت النسبة الباقية وقدرها 22% على بقية الدول العربية. وقد تمكنت الإمارات العربية المتحدة من جذب 22.7 مليار دولار العام الماضي وبحصة 42.3% من الإجمالي لتحتل المرتبة الأولى ضمن الدول العربية، تلتها مصر في المرتبة الثانية باستحواذها على 11.4 مليار دولار وبحصة 21.2% من الإجمالي، فيما جاءت السعودية في المرتبة الثالثة باستحواذها على نحو 8 مليارات دولار وبحصة 14.7 % من مجمل تدفقات الاستثمار الأجنبي، بينما احتلت السلطنة المرتبة الرابعة ضمن 22 دولة عربية وبنسبة 6.9% من إجمالي التدفقات إلى الدول العربية.
وقد جاءت عدة دول عربية بعد السلطنة في الترتيب، حيث استقبلت المغرب 2.141 مليار دولار وبحصة 4% من إجمالي الاستثمار، ثم البحرين بواقع 1.951 مليار دولار وبنسبة 3.6%، تلتها موريتانيا بواقع 1.148 مليار دولار وبنسبة 2.1% ثم الأردن بواقع 1.137 مليار دولار وبنفس النسبة السابقة، ثم الكويت بواقع 758 مليون دولار وبنسبة 1.4%، تلتها عدة دول عربية أخرى حيث سجلت قيمة الاستثمار الأجنبي بها ما بين 700 مليون دولار إلى 76 مليون دولار.
إنَّ جهود السلطنة في جذب الاستثمار الأجنبي مضنية في هذا الشأن منذ عدة سنوات مضت، وتعمل معظم الجهات المعنية اليوم على إيجاد المناخ الملائم والمشجع لجذب هذه الاستثمارات، وتهيئة المناطق الاقتصادية وتزويدها بالإمكانات والمقومات اللازمة للاستثمار؛ الأمر الذي يساعد على تحسين البيئة الاقتصادية في البلاد، ويعزّز التنافسية والعمل بسياسة التنويع الاقتصادي. كما أن قيام الجهات المعنية بسن القوانين والتشريعات الملائمة لجذب الاستثمار الأجنبي وتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية مع العالم، وتقديم المزايا الاستثمارية تعمل جميعها على استقطاب المزيد من الاستثمارات المحلية والأجنبية إلى البلاد.
علينا اليوم استغلال التطورات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة والعالم في جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، والبعد عن ممارسة البيروقراطية، وعدم التردد في اتخاذ القرارات. فالسلطنة تتمتع بالكثير من المقومات الاستثمارية والإمكانات الاقتصادية التي من شأنها تأسيس المزيد من المشاريع في مختلف المجالات الاقتصادية. فما تم تأسيسه من مشاريع كبيرة في البنية التحتية والإمكانات اللوجستية بجانب الموقع الجغرافي الهام والتشريعات التي تم إصدارها لتملّك المشروعات، وعدم وجود قيود على تحويل الأموال والأرباح للخارج، وعدم وجود ضريبة دخل على الأفراد تساعد جميعها في جذب الاستثمار المحلي والأجنبي، وتفتح جميعها آفاق الاستثمار والتبادل التجاري الحر مع العالم. ومع ذلك، من المهم جدًّا تهيئة الموارد البشرية الوطنية وتدريبها وتأهيلها لإحلالها في مختلف المشاريع التي تقام في البلاد وفق رغبة الشركات الأجنبية المستثمرة واحتياجاتها من الكفاءات والفنيين لإدارة المشاريع. وكلما كان حجم الاستثمار المحلي والأجنبي كبيراً، فإنَّ الناتج المحلي الإجمالي سيزيد هو الآخر، وسوف يتمكن الشباب العماني من الحصول على مزيد من فرص العمل في المشاريع وفق إمكاناتهم وقدراتهم وتقديرهم لتلك الأعمال. علينا اليوم استثمار الإمكانات والتسهيلات المُقدمة والمزايا الإستراتيجية المقدمة لجذب مزيد من الاستثمار الأجنبي في المرحلة المقبلة، والتركيز على نوعية الاستثمارات التي نبحث عنها، خاصة في مجالات المعرفة، مع العمل على استثمار المقومات الاقتصادية التي تتمتع بها البلاد في البر والبحر.