الأحد.. 28 مايو 2023م، ولمدة يومين زار مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم أعزّه الله الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ تلبية لدعوة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والزيارة تأتي مواصلةً للعلاقات المتينة بين البلدين؛ التي لم تتأثر بالأوضاع السياسية التي تمر بها المنطقة، منذ تغيّر نظام الحكم في إيران عام 1979م، من الإمبراطوري الشاهنشاهي إلى الجمهوري الإسلامي؛ إثر ثورة عارمة قادها روح الله الخميني (ت:1989م)، أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي (ت:1980م)، حتى الحرب العراقية الإيرانية؛ التي استمرت تسع سنوات، ثم العلاقات المتشنجة بين إيران ودول الخليج العربية؛ من جهة، وبين إيران والدول الغربية من جهة أخرى.
زيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق.. تأتي إثر زيارته جمهورية مصر العربية، يوم الأحد 21 مايو 2023م، سعيا منه لتقريب وجهات النظر بين مصر وإيران، بغية عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، الفاترة منذ حوالي أربعين عاما؛ بعد قيام الثورة الإيرانية ولجوء الشاه إلى مصر. لكن زيارة جلالته لم تقتصر على معالجة هذا الملف، وإنما شملت ملفَين آخرَين لا يقلان أهمية؛ هما: الملف النووي والموقف الغربي -لا سيما الأمريكي- من إيران حياله، وهو ملف قديم جديد؛ دأبت سلطنة عمان على الإسهام في حلحلته، ومعالجة العلاقات المتوترة بين إيران والغرب كقضية الرهائن. والملف الاقتصادي بين عمان وإيران؛ خصوصا في ظل السياسة الاستثمارية التي تنتهجها السلطنة في نهضتها المتجددة. هذا التجلي للعلاقات المتميزة بين البلدين؛ لم يصنعه تبادل المصالح بينهما في ظل المتغيرات التي يفرضها الواقع، وحده. وإنما هو خط طويل من التأريخ الذي رسمته الجغرافيا، فكما أن هناك وجودا فارسيا بعمان؛ فقد وجدت قبائل عمانية بإيران.
إن الإعجاب بأثر الحضارة الفارسية ملموس لدى عموم العمانيين؛ حتى إنه تَمثَّل خيالا أسطوريا، فنسبوا للفرس بعض منشآتهم الكبيرة كشق الأفلاج وبناء الحصون، وقد تحدثت عن ذلك في مقالي «الاستلاب الحضاري في الثقافة العمانية»، المنشور في جريدة «عمان»، بتاريخ: 5/ 10/ 2020م، كما أن العماني يحظى بتقدير متميز في عموم الاجتماع الإيراني.
ومن الناحية التأريخية.. فإن أقدم رصد للوجود الفارسي في عمان يعود إلى القرن الثالث الميلادي زمن الدولة الساسانية، الذي استمر حتى ظهور الإسلام، بخروج الفرس من عمان، وربما أسلم بعضهم. هذا الوجود.. أتى في ظل المنافسة الكبرى بين الفرس والبيزنطيين، والذي أدى خلال القرون الثلاثة السابقة على الإسلام إلى هجرة قبائل عربية إلى عمان في إطار توازنات الصراع بالمنطقة، وكان الوجود الفارسي مقتصرا على الساحل؛ من السيب حتى صحار، ولم يتوغل في داخل عمان، كما أنه لم يتمدد على بقية السواحل العمانية.
ثم وجد الفرس البويهيين بعمان في الفترة (355-403هـ) ممثلين للعباسيين، وكانت فترة اضطراب في العالم الإسلامي، بسبب التنافس الفارسي التركي على الهيمنة على تسيير أمور الحكم في الدولة العباسية، فانعكس ذلك على عمان. وقد تداخل وجودهم في عمان مع وجود بني مكرم (390-465هـ) والقرامطة (294-375هـ)، وقد استطاع العمانيون نتيجة هذا الاضطراب وتناقض المصالح بين هؤلاء الأفراق أن يديروا شأنهم الداخلي بأنفسهم أثناء تلك الفترة. كما أن مملكة هرمز شكّلت مدة خمسة قرون (ق:10-15م) حلقة وصل تجارية وحضارية بين الجانبين العماني والفارسي.
أما العلاقات العمانية الفارسية أثناء الاستعمار البرتغالي للمنطقة، ثم تحرير اليعاربة لها، فكانت بين مد وجزر، وقد وُجِد الفرس في خورفكان؛ إلا أن الإمام ناصر بن مرشد اليعربي (ت:1059هـ) أخرجهم منها. وعندما اضطرب حبل الدولة اليعربية استدعى سيف بن سلطان اليعربي الثاني (ت:1146هـ) الفرس ضد الإمام سلطان بن مرشد اليعربي (ت:1156هـ)، وقد كان ذلك بقيادة تقي الدين عام 1155هـ، وقد وقعت مقتلة كبيرة بين العمانيين من جرّاء هذا التدخل، حتى أخرجهم الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي (ت:1198هـ). واستقر الحكم له، فبويع بالإمامة حوالي عام 1167هـ.
أما آخر حضور عسكري لهم في عمان؛ فقد كان باستعانة السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه (ت:2020م) بالجيش الإيراني عام 1973م لمواجهة الجبهة في ظفار، وحتى يحقق التوازن بين المشاركة الإيرانية والعربية فإنه استعان كذلك بالجيش الأردني، وقد انتهى وجودهم بانتهاء الحرب.
وفي الشأن السياسي.. تبادل الجانبان الزيارات على أعلى المستويات، بدءا بزيارة الشاه لسلطنة عمان عام 1977م؛ عقب انتهاء الصراع في ظفار بانتصار الدولة العمانية، وانتهاءً بزيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله- هذا العام (2023م) للجمهورية الإيرانية، وبين هاتين الزيارتين ترسخت العلاقات بين البلدين وفقًا للأنظمة الدولية، وقد أدارا مصالحهما دون تدخل أحدهما في الشأن الداخلي للآخر، وعلى عاتقهما وقعت المحافظة على أمن المنطقة زمن الصراعات الدولية، وكان للسلطنة خاصةً؛ مهمة حفظ التوازن بين إيران والأطراف الأخرى؛ ذات التأثير المباشر في منطقة الخليج.
هذا الخط الطويل من التواصل السياسي والاحتكاك العسكري والتنسيق الدبلوماسي لم يكن منبتّا عن البُعد الحضاري والثقافي المشترك بين البلدين؛ ويكفي أن أشير هنا إلى العلوم الطبية التي استفادها أطباء آل هاشم الرستاقيون من أطباء فارس، مثل: مراسلة الطبيب راشد بن خلف (ق:9-10هـ) لكمال الدين اللاري حول خفاق القلب وعلاجه، ومراسلات الطبيب راشد بن عميرة (ق:10-11هـ) لبعض الأطباء الفرس.
بدأت متابعتي للشأن الإيراني منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979م، حينما كنت في سن العاشرة، وكنت أستمع لحديث الآباء في مجالسهم عن الثورة؛ وأسبابها ومآلها، واستمر اهتمامي بها، وما زلت أحتفظ بالأعداد الأولى من بعض الصحف التي صدرت حينها. وأثناء دراستي في جامعة السلطان قابوس؛ ارتدت مكتبة السعادة في مطرح، وكانت مختصة ببيع كتب المذهب الشيعي، ومنها اقتنيت مؤلفات بعض الشخصيات ذات العلاقة بالثورة، ككتب روح الله الخميني قائد الثورة، منها: «سر الصلاة»، و«الحكومة الإسلامية» الذي عالج فيه ولاية الفقيه.
وبعد التحاقي بـ «وزارة الأوقاف والشؤون الدينية»؛ وبحكم عملي فيها، أتيحت لي الفرصة أن أزور إيران باستمرار، للمشاركة في ملتقيات الفكر الإسلامي، ومن خلال هذه الزيارات تعرّفت على الثقافة والشخصيات الفكرية الإيرانية، وقدمت بعض الأوراق العلمية؛ منها: «الواقعية والوحدة الإسلامية؛ الفكر والتطبيق»، عام 2000م، في مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية بطهران. و«القرآن والتأسيس العقلي»، عام 2017م، في مؤتمر الحوار الثقافي الإيراني العربي بطهران. ومما لمسته من خلال تعرّفي على الحقل الثقافي والأكاديمي في إيران؛ حاجة المجتمع الإيراني إلى معرفة سلطنة عمان وشعبها، فعلى الرغم من الجوار، والعلاقات الطويلة بين البلدين، والتي قاربت الألفي عام، فإن معرفة الشعبين ببعضهما لا ترقى إلى العلاقات القائمة بين البلدين، والتي تطمح لمزيد من تمتين الأواصر، وتبادل المصالح؛ خاصةً في الاستثمار والقطاع الاقتصادي.
لذا؛ رأيت من الأهمية أن تقام مشاريع ثقافية تعزز هذا الجانب، فقمت بزيارة علمية لإيران في المدة: 13-22/ 11/ 2006م، زرت خلالها مركز الشرق للدراسات الثقافية والترجمة، والموسوعة الوطنية، وجامعة طهران، وجامعة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وبعض المكتبات والمراكز العلمية والثقافية. وانبثق عن هذه الزيارة مشروع ترجمة 20 كتابا، 10 منها عمانية؛ من العربية إلى الفارسية، و10 أخرى إيرانية؛ من الفارسية إلى العربية، ولكن المؤسسة التي تقدمنا إليها لم تتبنَ المشروع. فلم أقف عن السعي لتحقيق هذا الهدف الذي أراه مهمًّا، فقمنا حتى الآن بترجمة كتابين عمانيين إلى الفارسية، من خلال مكتبة الندوة العامة ببَهلا؛ وهما: «تأريخ عمان الوسيط» لأحمد بن سعود السيابي، وكتابي «السياسة بالدين».
والمشروع الثاني الذي أقترح إقامته هو إنشاء مؤسسة ثقافية مشتركة بين سلطنة عمان والجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولتكن باسم «المركز الحضاري العماني الإيراني»، وما نرجوه من المسؤولين في البلدين السعي إلى تحقيقه؛ فالثقافة كفيلة بتعزيز الأطر السياسية والرواج الاقتصادي.
*خميس بن راشد العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»