خيرا فعلت وزارة السياحة العُمانية بتأثيث قلاع تاريخية تأثيثا حديثا، فقد أصبح في بعض القلاع العُمانية (ظلت فارغة عقودا) مقاه تتميّز بإطلالتها العالية، حيث كانت القلاع قديما تُبنى في أرفع الأماكن وأبرزها، مثل قلعة مطرح المطلّة على بحر عُمان، والمرتفعة فوق جبل عال، وضعت لها أخيرا سلالم للصعود. ومقابل رسوم رمزية ترتفع قليلا بالنسبة للسائح غير العربي، يمكنك أن تحتسي قهوتك في الأعالي، خصوصا وأن أثاث القلعة القديم ظلّ على حاله، سيما تلك المدافع الأثرية التي ألصقت أمام كل منها لوحة تبيّن تاريخ وجودها وانتقالها من مكانها الأصلي إلى عُمان في عصور سالفة سحيقة. قلعة نزوى أيضا، وهي دائرية بالكامل، تسمّى كذلك الشهباء، نظرا إلى علوّها، تضمّنت مجموعة من الفعاليات الأثرية وأماكن لقضاء الوقت في صحبة التاريخ وكوب قهوة عصري.
“السيكل كله فايدة”. … سمعتُ هذه العبارة في الراديو وأنا ذاهب إلى العمل، من طالب في كلية الطب في جامعة السلطان قابوس. وكلمة “السيكل” تعني، في الدارجة العُمانية الدرّاجة الهوائية. وكان سبب اللقاء معه ذهابه إلى الجامعة بدرّاجة هوائية، قادما من قريته الجبلية التي تبعد عن الجامعة قرابة 20 كيلومترا. مستثمرا سانحة السماح، لمن أراد، أن لا يرتدي الملابس الشعبية (الدشداشة العمانية والكمّة ذات المنشأ الأفريقي). الغريب أنه كان يحمل معه كأسا بلاستيكية مغلقة وفي جوفها قهوة سوداء خفيفة. تخلّى الشاب عن خجله، وقرّر أن يقود الدرّاجة بحرية، كانت البداية مع بشائر الفجر الأولى، لأن عدد المارّين يكون أقلّ، ولكن الأمر صار، مع تقدّم الوقت، معتادا أن يرى الناس شابا (يخوض الهواء) بدرّاجته الهوائية، حرّا طليقا وسط حصار الزحمة. بل فوق ذلك، وجد مشجّعين، و”مغرّدين” ثم لقاء إذاعيا، أبان فيه عن روح متفائلة، رغم حرارة الطقس.
ربما سنشهد في غضون أيام مقبلة قافلة من سائقي الدراجات الهوائية يجوبون الشوارع بحرية، بل منهم من سيذهب (ولم لا؟) إلى عمله بهذه الواسطة التنقلية الرشيقة. كما يمكنك أن تتجوّل في شوارع “الخوض” و”الحيل”، لترى مقاهي عُمانية، يقوم بالخدمة فيها شباب عُمانيون وهم من يديرونها. مثلا مقهى اعتدتُ أن أرتاده، وهو مثالٌ لمقاه عديدة أصبحت تدار بأيادٍ عُمانية. بالقرب منه مطعم يقدّم وجبات شعبية عُمانية ثقيلة وخفيفة. الجميل أن ما يقدّمه من غذاء يشرف عليه أصحابه بأنفسهم، هم كذلك من يقدّمون الصحون ويرفعونها بعد انتهاء الطعام. يشرفون كذلك على أناقته ونظافته الواضحة، فتجده في أوقات الإجازات مزدحما، بل عليك أن تنتظر دورك جالسا. وبالنسبة للمقاهي التي تقدّم القهوة والشاي بأنواعهما و”قبائلها البرازيلية والتركية والسيلانية” هي كذلك تصنع حتى الكيك، ضمن مواصفات خاصة. مثلا، يصنعون في ذلك المقهى بأنفسهم كيكا يطلقون عليه “كيتو” من طحين أسمر وتمر عُماني. وتوجد فيه مكتبة تترصّع بروايات عربية وإنكليزية وكتب في مجالات متنوعة.
هناك ذاكرة طويلة للمقاهي وروّادها. وأنا من محبّي المقاهي، سواء في الخوض والحيل أو في المركز التجاري الكبير في المعبيلة “مسقط مول”، ولكني لم أجد شبابا عُمانيين يعملون فيه إلا في هذه الفترة، فالشاب العُماني ونظرا إلى ثقافته وتربيته، يهتم كثيرا بنظافة المكان بكل تفاصيله. وأصبحت أراقبهم من بعيد، وهم ينظفون بدقة كل شيء، بل ويحرصون على أن يكون المكان ناصعا وأنيقا في جميع الأوقات. يفتحون المقاهي في الصباح الباكر، ويغلقونها قبل منتصف الليل بنصف ساعة تقريبا. لذلك يظلّ الجالس وهو يقضي معظم مشاغله في هدوء وعزلة، خصوصا إذا كان يقرأ كتابا أو يعالج أمرا مكتبيا يخصّه، كما أن طلبةً عديدين يأتون لكي يُنجزوا فروضهم. تكون المقاهي كذلك مكانا مثاليا للقاءات الأصدقاء وتبادل الأحاديث وللعزلة والتأمّل.