تعودنا أن ننظر إلى الضوء على أنه شعاع نستطيع بواسطته أن نرى العالم من حولنا، لكن ما توصلنا إليه اليوم هو أن هذا الضوء ليس كل طيف الضوء؛ بل يمثل جزءًا بسيطًا منه، فهناك ضوء آخر- بل أضواء أخرى- لا تقوم بهذه المهمة؛ بل هذه الأضواء الغريبة لا يمكن لأعيننا أن تبصرها؛ فالظلمة القاتمة ستغطي المكان الذي توجد فيه هذه الأضواء!
اتضح لنا أن الضوء عبارة عن أمواج ذات صفة معينة نطلق عليها أمواجًا كهرومغناطيسية، وكما نعلم فإن للأمواج طول موجي، وهو المسافة بين قمتين متتاليتين للموجة أو قاعين متتاليين- كما هو الحال مع أمواج البحر مثلًا- وتقاس الأطوال الموجية للضوء بـ”النانومتر” ويعادل 10 مرفوعًا لسالب 9 أمتار، والضوء المرئي الذي يتكون من ألوان الطيف المعروفة تتراوح طول موجاته بين حوالي 400 نانومتر إلى 760 نانومترًا (من الضوء الأزرق إلى الأحمر).
فهل هناك ضوء خارج هذا المدى من الطول الموجي؟
الجواب: نعم، هناك مدى متسع من الأطوال الموجية للضوء، فهناك أضواء طولها الموجي أقل من 400 نانومتر وهناك أضواء أخرى طولها الموجي أكبر من 760 نانومترًا، وقد قمنا بتسمية تلك الأضواء بأسماء مختلفة لنميِّزها عن الضوء الذي نبصره، فأقصر الأطوال الموجية للضوء نسميها “أشعة جاما”، وتليها الأشعة السينية ثم الفوق بنفسجية، ثم يأتي الضوء المرئي، فتتبعه الأشعة تحت الحمراء، وأخير تأتي أمواج الميكروويف وموجات الراديو، ومجموع هذه الأصناف من الضوء أو الأشعة بما فيهم الضوء المرئي يطلق عليه “الطيف الكهرومغناطيسي”.
لقد ساهم اكتشافنا لأصناف الأشعة المختلفة في الطيف الكهرومغناطيسي في التطور العلمي في مختلف العلوم ولكننا هنا سنخصص الحديث عن علم الكون. وقد كانت قدرتنا على رصد الظواهر الفلكية فيما مضى محدود للغاية، لدرجة أننا كنا نظن أن الكون كله محصور في مجرة واحدة وهي مجرتنا درب التبانة، ولم نكن نعلم بأن هناك الملايين من المجرات، ولكن ومنذ قرابة قرن من الزمن فان التقنيات المختلفة ساهمت بشكل غير مسبوق في قدرتنا على الرصد، فلقد تمكنا من خلالها على رصد مختلف الظواهر الكونية والتي تبعد عنا مسافات خيالية وأحد أهم الأسباب في ذلك أن أدوات الرصد التي تم تطويرها لا تعتمد على الضوء المرئي فحسب؛ بل تعتمد على ضوء ذات أطوال موجية لا يمكن لعيوننا الباصرة أن تراه، فالغازات مثلا لا يمكن أن نراها في الفضاء بينما يمكن لجهاز الرصد الذي يبصر الأشعة تحت الحمراء أو الأشعة الميكرووية أن يبصر تلك الغازات، فالفلكيون يستخدمون كل الطيف الكهرومغناطيسي بدءًا من الأشعة السينية وانتهاء بالموجات الراديوية للنظر إلى الكون وابصار ما لا يمكن لنا ابصاره.
فمثلًا تمكنا من متابعة عمليات ولادة النجوم، فعندما تبدأ الغازات في الفضاء بالتجمع معًا بسبب قوى الجاذبية وتشكل كتلة كبيرة، تزداد هذه الكتلة كثافة وتزداد قوى الجاذبية فيها أيضًا وبالتالي تجعلها قادرة على جذب المزيد من الغازات، وكلما اقتربت ذرات الغازات من بعضها ازدادت قوة الجاذبية وهكذا يغذي أحدهما الآخر، وينتج عن ذلك ضغط شديد وارتفاع كبير لدرجات الحرارة في تلك الأجزاء يمكن لنا أن نبصره بالأشعة تحت الحمراء ونرى كيف تولد النجوم!
وبنفس الطريقة تمكنَّا من مشاهدة موت النجوم، ولاحظنا أن ولادة النجوم وموتها ظاهرة متكررة في الكون، ولذا فلقد افترضنا بناء على هذه المشاهدات أن النجوم عند نشأة الكون تكونت بذات الطريقة.
وباستخدام أدوات الرصد هذه، لاحظنا أيضًا أن في الكون ظواهر مبثوثة في مختلف أنحائه تشابه وتقترب في الظروف المحيطة بها بظروف الكون عند نشأته، كالثقوب السوداء، والاندماج الحراري داخل النجوم والذي تصل درجات الحرارة فيه إلى ملايين الدرجات، وكل هذه الظواهر الطبيعية تساعدنا في فهم الظروف التي نشأ الكون فيها وترعرع.
وفي تسعينيات القرن الماضي، تم تطوير أجهزة يمكنها أن تبصر موجات ضوئية أطوالها الضوئية دون الملليمتر الواحد، إن هذه الأجهزة جعلتنا نبصر كونًا كان مخفيًا عنّا بحق، فلقد سمحت لنا بالغوص في الماضي السحيق، ونبصر كونًا مختلفًا عمَّا عهدناه، فبصرنا مجرات لم نبصرها من قبل تبعد عنا بحوالي 24 مليار سنة ضوئية وهو رقم خيالي لا يمكن تصوره، فالسنة الضوئية الواحدة 9.46 تريليون كيلومتر!
لقد كنا نبصر الماضي السحيق وذلك قبل 10 مليارات سنة!
تصور بإمكانك أن تبصر مجرة في الفضاء عاشت قبل 10 مليارات سنة وأنت تنظر اليها في هذه اللحظة! هل ما زالت موجودة؟ وماذا حدث لها؟ لا سبيل لنا لمعرفة ذلك الا بعد مليارات السنين، فنحن نعلم ماضيها أما حاضرها فيستحيل لنا معرفته؟!
إنَّ الضوء المرئي يشكل أقل من 1% من الطيف الكهرومغناطيسي، وبفضل التقدم العلمي استطعنا أن نرى ونُبصر أغلب الطيف الكهرومغناطيسي ونُبصر ما لم تُبصره البشرية من قبل.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس