عُمان: حوار – هدى حمد
تربت على يديّ الأب الشاعر حبراس السليمي، الذي رُغم ظاهر حدّته إلا أنّه كشف عن منابِعها الأولى، مُدركا بحدسه الاستثنائي أنّ البيت المُعبأ بالأبناء، يمكن أن يُظهر السمات الأولى فيمن سيكملُ الطريق الوعر من بعده .. أعني طريق الكتابة. وكما يبدو فالصرامة الأكاديمية لم تحبس تدفقَ لغتها ولم تمنع الحفرَ في آبار المعنى، فهي لم تكتفي بلبوس النظريات وجمودها، بل مضت لخلق مواءمة بين الأدب والنقد.
منذُ مقالها الأول في عام 2011 بملحق شرفات الذي حمل عنوان «الكتابة الحلم»، كانت مشغولة بالسؤال عن هويتها في الكتابة بأشكالها المتعددة والمتداخلة في النسيج الواحد، ولذا ليس لنا أن نتعجب فيما لو تماهى النقدُ لديها في نسيج مُغاير من حساسية الكتابة، حيث يذوب التنظير في صميم الأفكار والتأملات وفيوضٍ من الرؤى والتقاطعات. عندما مات الأب البيولوجي، صار لها أبا روحيا الأستاذ والناقد المغربي عبدالرحيم جيران، فتنامى بينهما المعطى الإنساني مع تجذر حقيقي في العملية النقدية.
ومنذ أن عرفتها وهي تُقدم خطوةً باتجاه السرد، ولكنها تعود خطوتين إلى الوراء، إلى أن تجلت لنا تجربتها هذا العام في كتابها «ظل يسقط على الجدار» عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ودار الرافدين. كما صدر لها من قبل كتاب «الطبيعة في الرواية العمانية» في 2013 عن بيت الغشام.
أما الصوتُ الهادىء والرصينُ الذي ينبثقُ من إذاعة سلطنة عُمان في البرنامج الأسبوعي «المشهد الثقافي»، فهو صوتُها الواثقُ والراصدُ للأحداثِ الثقافية البارزة في عُمان، برفقة المعدّ خلفان الزيدي.
ولطالما قلتُ لها: لو أنّ سيارتكِ تحدثت ماذا كانت ستقول؟ وهي التي أقلت الشعراء والفلاسفة والروائيين في مشاويرهم من بيت الزبير وإليه، ومنه إلى البحر أو إلى سوق مطرح مع سيل من الأحاديث، تلك التي مهدت لفعاليات مؤثرة وكاشفة ومُغايرة. بعد أن غامرت بجرأة لترك وظيفتها الحكومية لإحداث فرق ملموس في نسيج الثقافة عبر القطاع الخاص المتمثل في بيت الزبير برفقة زملائها من موظفي المؤسسة.
منى بنت حبراس السليمية، الحاصلة على دكتوراة في الآداب من جامعة محمد الخامس في الرباط في عام 2019، وماجستير في الآداب من جامعة السلطان قابوس في عام 2011، وبكالوريوس لغة عربية وآدابها من جامعة السلطان قابوس أيضا في عام 2006. والحاصلة مؤخرا على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها التاسعة 2022 عن فرع الآداب في مجال المقالة.
تربيتِ على يدي الشاعر حبراس السليمي، وهو من الجيل الذي درس باكرا في القاهرة وصاحِب ديوان «فيض الإحساس»، وكان شاعرا ملازما للشاعر عبد الله الخليلي في مجلسه، فتأثر بمعجمه الشعري، وكانت له قدرة جيدة على الإنشاد، لنتحدث عن طفولة منى والعلاقة بالأب الشاعر.. إلى أي حد مهدت تلك العلاقة الطريق؟ نشأتُ في عائلة كبيرة، فيها عدد كبير من الإخوة والأخوات، وكان أبي يتّبع معنا نظاما تدريسيا في إجازات نهاية العام الدراسي، فيشتري لنا دفاتر خاصة لدروسه التي يعطيها لنا في الشعر والنحو، وكان إخوتي يتسربون من حصصه بأعذار مختلفة، فيتناقص عددنا يوما بعد آخر، وهو بدوره كان يحاول اكتشاف الأجدر الذي يستحق أن يواصل معه إعطاء الدروس، فلا يطيل إلحاحه على حضور من لا فائدة ترجى منه (هكذا أحلل الأمر الآن). وكنت أمتعض أيضا من دروسه وأود لو أستطيع أن أتسرب مثل الآخرين واللعب في الخارج عوضا عن الجلوس للدراسة، إذ بالكاد أنهينا عاما دراسيا طويلا ولا نريد أن نفني الإجازة في الدراسة أيضا.
كان لا يتنازل عن الإجابة التامة، فلا يكفي أن تكون الإجابة صحيحة، ولكن أن تقال بطريقة صحيحة أيضا. أتذكر مرة طلب منا أن نعرب: «أنا أنتَ الضاربي أنت أنا». أتعبتنا هذه الجملة أياما قبل أن نستسلم ويخبرنا بإعرابها، وبقي لأيام أخرى تالية يتأكد من أننا عرفناه، وهو يؤكد أن المعنى قبل الإعراب.
يتخيّر أبي أكثر أوقاتنا انغماسا في عالم الطفولة، كأن نشاهد مسلسلا كرتونيا مثلا، فيطلب من أحدنا أن يذهب ليحضر له كتابا في مكتبته في المجلس، وعلى المسكين الذي يقع عليه الاختيار أن يمتثل في الحال؛ فليس واردا أن يتأخر أو يؤجل. في البدء كان يخبرنا بمكان الكتاب من الرف، لاحقا صار يقول هات الجزء الفلاني من لسان العرب، وفي مرحلة مغرقة في القسوة كان يطلب الجزء الذي يشرح الكلمة الفلانية تاركا لنا مهمة اكتشاف رقم الجزء والباب والفصل. علمتنا هذه الطريقة كيف نبحث في لسان العرب رغم كل الغيظ الذي كانت تثيره فينا بسبب مقاطعته مسلسل الكرتون.
مع الوقت وجدت بديلا لدروسه الصارمة بجلوسي خلف الباب بينما يشرح لضيوفه ممن كانوا يترددون على مجلسه، مثل الدكتور محمود السليمي، والشاعر يوسف بن سيف العامري، والشيخ هلال الخروصي والشيخ مرشد الخصيبي رحمة الله عليهما. كنت أجد طريقته معهم أكثر لطفا، وكم وددت أن يستخدم هذه الطريقة معنا أيضا، ولكني بجلوسي خلف الباب كنت أحصل على الدرس وأجنب نفسي توبيخه في آن.
كتبتُ قصيدة من 120 بيتا عندما كنت في الصف الثاني الثانوي، كانت طويلة بشكل لا يصدق على فتاة في عمري ذاك. تعمدت أن أخفيها عنه، ولكن أختي الكبرى ميمونة وشت بي عنده، فطلبني على الفور مع القصيدة التي كتبتها، فتلكأت .. ولكن أين المفر! جلست أمامه ورحت أقرأها وعينيّ على أوراقي لا أرفعهما، وعندما فرغت قال جملة صغيرة لم يزد عليها، قال: «هذه قصيدة جميلة!» وأردتُ أن أتأكد إذا ما قالها حقيقة أو تشجيعا، ولكني لم أسأله، ولم أعرف الإجابة حتى هذه اللحظة، ولم أجرؤ بعدها على كتابة بيت واحد. مر أكثر من 15 عاما الآن على رحيله، وما زلت لا أدري ما حقيقة تلك الجملة، لعلّي لو عرفت لأصبحت شاعرة يوما!
نعرف أنّ في الطريق كتابا مُرسلا إليه «رسائل متأخرة إلى حضرة الوالد».. لنتحدث عنه وعن توقع النشر؟ متى؟
هذا كتاب جاهز تقريبا، ولكني في كل مرة أكتشف أشياء لا تزال تنقصه. ولكن القضية ليست هنا .. القضية هي أنني استدعيتُ أبي إلى الحياة مرة أخرى، ورحت أناقشه في الذي كان خلال حياته، والذي حدث بعد وفاته وكأنه لم يمت. وهناك أشياء في الكتاب ناقشتها معه بجرأة كبيرة ما كنت أجرؤ على مناقشتها معه في حياته، ورحت أتخيّل الحوارات بيننا. وأعترف أني أصاب بالرعب أحيانا عندما أتخيّل أشخاصا آخرين سيقرأون هذا الكتاب لاسيما عائلتي. ولكني عزمت أمري بألا أعدّل شيئا فيه مراعاة لأي أحد، وسأنشره عندما أشعر أني مستعدة تماما لذلك.
منى من الأسماء التي تحفر في تاريخ الأفكار.. مثلا «العلاقة بين الكتابة والمشي»، أو عن «كرة القدم في السرد العُماني»، و«السيل في السرد العماني»، «المكتبة بوصفها نصا»، من أين تأتي الأفكار؟ منابعها؟
تأتي أفكار هذه الموضوعات أحيانا من فكرة عابرة، أو من اهتمام شخصي بقضية بعينها، وأحيانا من سطر في كتاب. حدث هذا أولا في كتابي «الطبيعة في الرواية العمانية» بسبب سطر في رواية حسين العبري «الأحمر والأصفر». وحدث الأمر ذاته في موضوع «السيل في السرد العماني». وكذا الشأن في موضوع «المكتبة بوصفها نصا»، فأنا أعاني بشدة فيما يخص المكتبة الشخصية بسبب تكدس الكتب المستمر خارج الأرفف مهما ابتنيت مكتبات جديدة في كل مكان: في بيت العائلة بسمائل، أو في بيتنا في المعبيلة. تتمرد عليّ الكتب وتملأ المكان مرة بعد أخرى، حتى أصبح الأمر خارج السيطرة ومحرضا للبحث فيما يفعله الآخرون مع مكتباتهم. وفي الأدب العربي كثير من القصص والحكايات التي تسعفنا للتلصص على مكتبات الكتاب والأدباء على مر العصور، فكانت الكتابة عن الموضوع انطلاقا من الخاص إلى العام بغية الحصول على نوع من السلوى. أما موضوع «الأغاني في السرد العماني» فأتذكر عبارة وردت في قصة سليمان المعمري «الحياة بدون عصافير» حرضت فيّ الكتابة عنه، ورحت أمسح ما وسعني الاطلاع عليه في السرد العماني فوقعت على كنز كبير بدأته بمقال نشر في ملحق عمان الثقافي بعنوان «الأغاني في سرد حمود سعود»، على أمل أن يتوسع مستقبلا ليكون كتابا قائما بذاته. يمتعني البحث في مثل هذه الأفكار، وأعتقد أن القراءة التراكمية في الأدب العماني سهلت عليّ تذكر النصوص التي تحفل بهذه الفكرة أو تلك، وفي كثير من الأحيان أستعين بذاكرات الأصدقاء الذين يأتي سليمان المعمري في مقدمتهم.
يقال «الكاتب هو الأسلوب»: ما الذي يجعلك تنتهجين أسلوبا مغايرا.. هل تأثرتِ بالكتاب الذين يذوبون النظرية فنقرأ كتبهم بخفة من مثل عبدالكبير الخطيبي وعبدالرحيم جيران وعبدالفتاح كيليطو؟ أم أنكِ تجدين نفسكِ في هذا الشكل الكتابي أكثر من غيره؟
هناك شق واعٍ في الموضوع وشق آخر لا أدركه إلا بإشعار خارجي، أما الشق الواعي فأنا أحدّث نفسي دائما مع كل ما أكتبه بضرورة أن أكون في منزلة بين الأدب والنقد معا، أن أقدم النقد بأدب، وأن أقدم الأدب بما توافق عليه النقد (ليس بمعنى الانضباط كما تفعل المسطرة، ولكن بالمعايير الفنية التي يجمع عليها النقد، مع الحرص على عدم التضحية بمساحات التمرد التي ينبغي أن تكون موجودة عند كل كاتب. أما الشق غير الواعي، فهو أنني بعد كل مرة لا أعرف إلى أي حد نجحت، ولا أدري ما إذا كانت هذه الكتابة جيدة أم لا (كما قال حسين العبري يوما في ندوة نظمتها مجلة نزوى)، حتى يأتي قارئ ما ويقول لي كم أعجبه هذا النص أو المقال أو الكتاب؛ في تلك اللحظة فقط أعرف أني نجحت. وفي الواقع يسعدني أن أستشف من سؤالك أني متأثرة بهؤلاء، وأكاد أشعر أن هذا يمنحني وساما من نوع ما؛ فلطالما أردت أكتب كما يكتبون؛ أن أكون تلميذة في مدارسهم، ولكني أشعر في الآن نفسه كم هي الطريق طويلة، وأجدني راضية بحقيقة أني ما زلت أسير حتى أعثر على حلمي الخاص.
عين الناقد وحساسية الكاتب، كيف يمكن أن يخدما بعضهما البعض؟ أو يفسدا على بعضهما البعض؟ الناقد الذي لم ينجح في كتابة الأدب هو ذلك الذي لم يستطع أن ينسى عدّته ومشارطه ومباضعه النقدية عند كتابة الأدب!أتذكر عبارة قالها عبدالرحيم جيران في حوار إذاعي مع سليمان المعمري في إذاعة سلطنة عمان، واقتُبست عبارته تلك لتتر البرنامج مع عدد كبير من العبارات التي قالها ضيوف البرنامج من حلقات مختلفة، قال: «إن الناقد عليه أن ينسى النقد عندما يبدع»، وأعلم أن جيران لا يقصد بذلك فقط أن النقد يفسد حرية الإبداع بسبب شروطه المسبقة، ولكن لأن التمرد على المتوافق عليه والإتيان بما يخالف السائد هو شرط الإبداع الأهم؛ ليس على مستوى الموضوع وحسب ولكن على مستوى الشكل أيضا. ولكن – على الجهة الأخرى – النقد مفيد للكاتب حتما، لا سيما ذاك الكاتب الذي يشتغل في الجانبين معا، فهو من جهة يزوده بطرائق النظر في النصوص الأدبية، ويجعله عارفا بأسرارها وممكناتها ومنابعها ومؤثراتها وتعالقاتها وتشابكاتها، وهي معرفة يوظفها الكاتب – إذا كان مبدعا بحق – بما يجعله قادرا على تجاوزها.
نعرف أنّ سيارة منى أقلت الكثير من الكُتاب المهمين، وكنتُ أقول متى ستتكلم سيارة منى عن الذين أقلتهم من شعراء وفلاسفة وروائيين: أدونيس، عبدالفتاح كيليطو، محمد المصباحي، عبدالسلام بنعبد العالي، سعود السنعوسي، وغيرهم الكثير؟ أتاح لي عملي في مؤسسة بيت الزبير أن أكون في الواجهة لدى استقبال الضيوف من الكتاب والأدباء والمفكرين من كل مكان، الأمر الذي جعلني على اتصال مباشر معهم. وهي تجربة منحتني صداقة هؤلاء على المدى الطويل، وأفضّل دائما أن أقلهم بسيارتي في المشاوير البينية، وهي فرصة للقاء لا تتاح بين الجموع، فنحظى بحديث لا يشترط أن يكون أدبيا، فأتعرف عليهم عن قرب وربما على الصورة الأخرى التي لا يعرفها الناس. وما أكثر المواقف التي تحدث بينما نتجول في سوق مطرح مثلا أو غيره من الأماكن التي يقترحونها هم أحيانا. وقد وردتني اقتراحات بتدوين هذه المواقف والأحاديث، غير أني أحترم خصوصية المرء عندما لا يكون في موقف رسمي أو أمام الجمهور. ولكن إذا فكرت يوما في توثيق تلك الحكايات والمواقف فسأفعل ذلك برضاهم وهم على قيد الحياة؛ فلا أنسى استغراب أحدهم عندما نشرتُ في جريدة عمان محاورتي الطويلة مع عبدالفتاح كيليطو في مقهى الفن السابع في الرباط، لأنها محاورة – كما رآها – خاصة جدا وشخصية، ولكني سعيدة بها وأجزم أنها أهم ما كتبت عن عبدالفتاح كيليطو، غير أن الأهم من كل ذلك أن كيليطو عندما قرأها كان سعيدا بها، وذلك يكفي.
نستطيع أن نقول إنّ منى من القلائل في عُمان اللواتي يذهبن جُل الحياة في مصنع العمل الثقافي أو في القراءة والكتابة .. لمن يعرفكِ عن قرب يعرف عن تخليكِ عن الحياة بصورها الأخرى؟ هل هو خيار أم ظرف يتقاطع مع حياتك؟ أعتقد أن حياتي التي تخلو من التزام أسري ضاغط وفرت الكثير من وقتي من أجل القراءة والكتابة والعمل الذي لا ينفصل – لحسن الحظ – عن الجو الثقافي العام، ولكن في المقابل هناك إكراهات أخرى من قبيل طول ساعات العمل، وبعد المسافة بين المعبيلة ومسقط التي يتوجب عليّ أن أقطعها يوميا، ولكني لا أجد في ذلك إنجازا أو بطولة؛ لأن البطولة الحقيقية لأولئك النساء اللائي رغم واجباتهن الأسرية – من اعتناء بالبيت وتربية الأطفال ومتطلبات العائلة – يواصلن مسارهن رغم صعوبة التوفيق، فيكابدن من أجل إيجاد التوازن بين أمرين كبيرين لا تنقصهما الأنانية والمتطلبات الصعبة. في السابق كنت أعتب على النساء اللائي متى ما أصبحن أمهات تخلين عن مسارهن الذي بدأنه قبل الزواج، ولكن في الواقع هذه مجاهدة عظيمة تحتاج فيها المرأة إلى الدعم والمساندة حتى تنجح، ومتى ما نجحت فإنها تستحق أن نسند صمودها، لأن الأمر ليس هيّنا حقا.
«المغرب .. البلاد التي تعرفني».. إلى أي حد تساهم المدن التي نعيش فيها في تكويننا؟في المغرب تعرفت على وجه آخر للثقافة، بدءا من الإنسان البسيط الذي يمسح أرضية المقهى لتبقى لامعة طوال اليوم وصولا إلى أستاذ الجامعة. هناك اكتشفت أن كل شيء يمكن أن يكون في المتناول إذا أحسنّا تحديد زاوية النظر. المغرب عرفتني على أسماء كبيرة في المشهد الثقافي العربي ورفعتني إلى منزلة صحبتهم. هناك بوسعك أن تلتقي بهذا الاسم أو ذاك وكأنك تلتقي بصديق. عشقت في المغرب التفاصيل الصغيرة التي تجعل من التجربة مدهشة وفارقة وتغذي حساسيتك تجاه الأشياء. وأكاد أجزم أنها واحدة من أهم التجارب التي صقلت كتابتي.
الكتابة في الصحف تفترض قراءً لا يملكون الوقت لتفكيك شفرات اللغة الملغزة أو فهم المواضيع المعقدة. هل تمايزين بين الكتابة للصحف والكتابة المتخصصة؟ ومن جهة أخرى الالتزام بوقت معين لتسليم الصحف، يتنافى قليلا مع ترف الوقت الذي يمضي فيه الباحثون .. هل تولد هذه التجربة الخشية من فخاخ الاستعجال؟
الكتابة في الصحف سلاح ذو حدين، فهي من جهة تجعلنا على تماس دائم مع فعل الكتابة مع ما تتطلبه من تفتيش مستمر عن الفكرة الجديدة المدهشة، ولكنها أيضا تجعلنا نعيش تحت ضغط هائل للحاق بالمطبعة في الوقت المحدد. بالنسبة لي لا أتردد في الاعتذار عن نشر مقال لا أشعر بالرضا عنه، وأعتقد أن الالتزام بالنشر وإن كان أخلاقيا طالما اتفقت مع هذه الصحيفة أو تلك على موعد ثابت، فإن الاعتذار عن نشر مقال لمجرد ملء الفراغ فعل أكثر أخلاقية. في الكتابة للصحافة لا بد من مراعاة أن هذا القارئ إنما يقرأ المقال في صحيفة سيارة، فليس لديه الوقت ليفك المستغلقات من الأفكار أو المصطلحات أو التراكيب، ولكن أيضا مع الحذر من التسطيح. ومع تحوّل معظم الصحف إلى صيغتها الإلكترونية، أصبح معظم القراء يقرأون من هواتفهم، ولنا أن نتخيّل حجم المقاطعات أثناء القراءة، فهناك إشعارات تأتيه من كل حدب وصوب وتنبيهات ترده من هذا التطبيق أو ذاك، ويصبح التحدي الحقيقي أمام الكاتب هو كيف يجعل القارئ يقاوم كل هذه المقاطعات ريثما ينهي قراءة مقال، وهذه معادلة لا تحتمل الكتابة المتقعرة والفذلكة اللغوية، وعلى الجانب الآخر ما أسرع أن تفقد القارئ لو شعر أنك تستخف به.
تقولين «لا بد لي من كتابة رواية قبل أن أموت». هل ستفعلين ذلك يوما ؟ أظن أنّ هذا سيحدث لا محالة، فما أحتاجه فقط هو أن أتخلص من مشاريع الكتب الجاهزة في جهازي المحمول بأحد طريقين: النشر أو الحرق، وذلك بناء على نصيحة الكاتب العماني محمد اليحيائي بينما كان يحاول قبل سنوات إقناع أختي بشاير بنشر مجموعتها القصصية الأولى «شبابيك زيانة». قال لها انشريها أو احرقيها! وأعتقد أن كلامه صحيح، لأن بقاءها بلا خطة للخلاص منها يسبب لي التشويش، ويجعل ذهني غير صاف لإنجاز الكتابة التي أحلم بها/ الرواية. هناك روايات في رأسي تنتظر أن أكتبها.
منى تكتب كثيرا لكنها بطيئة في عملية النشر هل هو التريث أم الخوف؟ هنالك تسعة أعمال في الانتظار؟؟
أقرب الظن أني متأنية بسبب الخوف من فكرة الزج بكتاب لم ينضج كفاية. ما حدث مع كتابي «ظل يسقط على الجدار» هو أني قدمته للنشر تحت ضغط عدد من الأصدقاء، وأجزم أنه لولا ضغطهم لربما بقي حبيس حاسوبي المحمول مع رفاقه التسعة. حدث ذلك في صيف 2022. وبحلول أكتوبر من العام نفسه كانت الأخبار الواردة من الصديق خلفان الزيدي – المشرف العتيد على مشروع إصدارات جمعية الكتاب والأدباء – تفيد بأن الكتاب قد خرج من المطبعة كأول كتاب يجهز ضمن مجموعة إصدارات الجمعية مع دار الرافدين البالغ عددها 49 كتابا. كنت أعرف أن الأمر ينتظر فقط اكتمال جاهزية باقي الكتب ثم تشحن جميعها إلى معرض مسقط الدولي للكتاب في فبراير 2023؛ ما يعني أن الكتاب فعليا صدر قبل فوزي بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها التاسعة التي أعلنت نتائجها في التاسع من نوفمبر 2022. سأعترف بأن أول خاطر مر في ذهني لحظة تلقي خبر الفوز كان هذا الكتاب، فشعرت بالخوف: أتراني استعجلت؟ هل يستحق النشر؟ فإذا كنت أتوقع أن دائرة قرائه المحتملين هم ممن يعرفون منى حبراس، فإن الجائزة ستوسع الدائرة أكثر وأكثر وستجعل الكتاب الوليد تحت مجهر الاستحقاق! ولكني واسيت نفسي بأن الكتاب قد خضع للمراجعة كثيرا، وتحمس له كثيرون ممن أثق برأيهم قبل النشر .. وتوكلت على الله.
يجد البعض أنّ حركة النقد في عُمان متأخرة مقارنة بحركة الأدب المنتعشة نسبيا؟لا أعرف إذا كان يصح أن نقول عنها «حركة» نقد، لأن الجهود الفردية لا تشكّل حركة بأي حال من الأحوال. والنقد في عُمان لا يختلف عنه في الوطن العربي، الذي يعاني عموما على أكثر من صعيد. ومعاناته متصلة بسلسلة طويلة من الأسباب والمؤثرات، تأتي في مقدمتها قدرة المؤسسة الأكاديمية على إعداد نقاد وليس تلقينهم نظريات وحسب، وهناك أيضا دور المؤسسة الثقافية التي يتعين أن تبادر بفعل ما لتأسيس هذه الحركة المنشودة. مع الوضع في الحسبان أن النقد الأدبي وانتعاشه مرتبط بتعزيز التفكير النقدي منذ المراحل التأسيسة في المدرسة، والحاجة إليه تمتد إلى كل المجالات وليس مجال الأدب وحده. ولعل السؤال الأهم الذي ينبغي أن يطرح على طاولة النقاش الموسع: إذا كنا بحاجة إلى النقد ونستشعر غيابه بشكل واضح وجلي، فماذا علينا أن نفعل لنوجده؟ وحدها الإجابة العملية كفيلة بالذهاب بنا خطوة إلى الأمام.
هذا يدفعني لسؤال أخير: كيف ترى منى مسؤولية الكتابة قبل حصولها على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها التاسعة 2022 عن فرع الآداب في مجال المقالة، وكيف تراها بعد الجائزة المهمة؟
حملتني الجائزة مسؤولية كبيرة، فهي من جهة منحتني الاعتراف الذي يسعى إليه كل كاتب، ولكنها أيضا تدفعني لبذل جهد مضاعف لأثبت أني أستحق هذا الاعتراف، كما أنها جعلتني أعيد النظر في كثير من الأشياء التي راكمتها حتى الآن؛ لأني شعرت أن الكتابة التي كانت همي الأول لا يتحقق وجودها إلا بنشر ما راكمته؛ فقبل الفوز لم يكن لديّ سوى إصدار واحد، ثم جاء الفوز بعد عشر سنوات، وقد يكون من الخير أن يأتي كتابي الثاني الآن. ما أردت قوله إن اتصال الكاتب بالقارئ بعد الفوز بجائزة ما يصبح أكثر زخما، وهذه ورطة حقيقية ولكنها تجعلك تمضي في هذا الطريق الذي لا رجوع عنه.
هامش: أجري هذا الحوار ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي ٢٠٢٣، تحت عنوان: «بين شغف الكتابة ودرب النقد»، وبتنظيم من صالون فاطمة العلياني الأدبي.
«السيل في السرد العماني». وكذا الشأن في موضوع «المكتبة بوصفها نصا»، فأنا أعاني بشدة فيما يخص المكتبة الشخصية بسبب تكدس الكتب المستمر خارج الأرفف مهما ابتنيت مكتبات جديدة في كل مكان: في بيت العائلة بسمائل، أو في بيتنا في المعبيلة. تتمرد عليّ الكتب وتملأ المكان مرة بعد أخرى، حتى أصبح الأمر خارج السيطرة ومحرضا للبحث فيما يفعله الآخرون مع مكتباتهم. وفي الأدب العربي كثير من القصص والحكايات التي تسعفنا للتلصص على مكتبات الكتاب والأدباء على مر العصور، فكانت الكتابة عن الموضوع انطلاقا من الخاص إلى العام بغية الحصول على نوع من السلوى. أما موضوع «الأغاني في السرد العماني» فأتذكر عبارة وردت في قصة سليمان المعمري «الحياة بدون عصافير» حرضت فيّ الكتابة عنه، ورحت أمسح ما وسعني الاطلاع عليه في السرد العماني فوقعت على كنز كبير بدأته بمقال نشر في ملحق عمان الثقافي بعنوان «الأغاني في سرد حمود سعود»، على أمل أن يتوسع مستقبلا ليكون كتابا قائما بذاته. يمتعني البحث في مثل هذه الأفكار، وأعتقد أن القراءة التراكمية في الأدب العماني سهلت عليّ تذكر النصوص التي تحفل بهذه الفكرة أو تلك، وفي كثير من الأحيان أستعين بذاكرات الأصدقاء الذين يأتي سليمان المعمري في مقدمتهم.
يقال «الكاتب هو الأسلوب»: ما الذي يجعلك تنتهجين أسلوبا مغايرا.. هل تأثرتِ بالكتاب الذين يذوبون النظرية فنقرأ كتبهم بخفة من مثل عبدالكبير الخطيبي وعبدالرحيم جيران وعبدالفتاح كيليطو؟ أم أنكِ تجدين نفسكِ في هذا الشكل الكتابي أكثر من غيره؟
هناك شق واعٍ في الموضوع وشق آخر لا أدركه إلا بإشعار خارجي، أما الشق الواعي فأنا أحدّث نفسي دائما مع كل ما أكتبه بضرورة أن أكون في منزلة بين الأدب والنقد معا، أن أقدم النقد بأدب، وأن أقدم الأدب بما توافق عليه النقد (ليس بمعنى الانضباط كما تفعل المسطرة، ولكن بالمعايير الفنية التي يجمع عليها النقد، مع الحرص على عدم التضحية بمساحات التمرد التي ينبغي أن تكون موجودة عند كل كاتب. أما الشق غير الواعي، فهو أنني بعد كل مرة لا أعرف إلى أي حد نجحت، ولا أدري ما إذا كانت هذه الكتابة جيدة أم لا (كما قال حسين العبري يوما في ندوة نظمتها مجلة نزوى)، حتى يأتي قارئ ما ويقول لي كم أعجبه هذا النص أو المقال أو الكتاب؛ في تلك اللحظة فقط أعرف أني نجحت. وفي الواقع يسعدني أن أستشف من سؤالك أني متأثرة بهؤلاء، وأكاد أشعر أن هذا يمنحني وساما من نوع ما؛ فلطالما أردت أكتب كما يكتبون؛ أن أكون تلميذة في مدارسهم، ولكني أشعر في الآن نفسه كم هي الطريق طويلة، وأجدني راضية بحقيقة أني ما زلت أسير حتى أعثر على حلمي الخاص.
عين الناقد وحساسية الكاتب، كيف يمكن أن يخدما بعضهما البعض؟ أو يفسدا على بعضهما البعض؟ الناقد الذي لم ينجح في كتابة الأدب هو ذلك الذي لم يستطع أن ينسى عدّته ومشارطه ومباضعه النقدية عند كتابة الأدب!أتذكر عبارة قالها عبدالرحيم جيران في حوار إذاعي مع سليمان المعمري في إذاعة سلطنة عمان، واقتُبست عبارته تلك لتتر البرنامج مع عدد كبير من العبارات التي قالها ضيوف البرنامج من حلقات مختلفة، قال: «إن الناقد عليه أن ينسى النقد عندما يبدع»، وأعلم أن جيران لا يقصد بذلك فقط أن النقد يفسد حرية الإبداع بسبب شروطه المسبقة، ولكن لأن التمرد على المتوافق عليه والإتيان بما يخالف السائد هو شرط الإبداع الأهم؛ ليس على مستوى الموضوع وحسب ولكن على مستوى الشكل أيضا. ولكن – على الجهة الأخرى – النقد مفيد للكاتب حتما، لا سيما ذاك الكاتب الذي يشتغل في الجانبين معا، فهو من جهة يزوده بطرائق النظر في النصوص الأدبية، ويجعله عارفا بأسرارها وممكناتها ومنابعها ومؤثراتها وتعالقاتها وتشابكاتها، وهي معرفة يوظفها الكاتب – إذا كان مبدعا بحق – بما يجعله قادرا على تجاوزها.
نعرف أنّ سيارة منى أقلت الكثير من الكُتاب المهمين، وكنتُ أقول متى ستتكلم سيارة منى عن الذين أقلتهم من شعراء وفلاسفة وروائيين: أدونيس، عبدالفتاح كيليطو، محمد المصباحي، عبدالسلام بنعبد العالي، سعود السنعوسي، وغيرهم الكثير؟ أتاح لي عملي في مؤسسة بيت الزبير أن أكون في الواجهة لدى استقبال الضيوف من الكتاب والأدباء والمفكرين من كل مكان، الأمر الذي جعلني على اتصال مباشر معهم. وهي تجربة منحتني صداقة هؤلاء على المدى الطويل، وأفضّل دائما أن أقلهم بسيارتي في المشاوير البينية، وهي فرصة للقاء لا تتاح بين الجموع، فنحظى بحديث لا يشترط أن يكون أدبيا، فأتعرف عليهم عن قرب وربما على الصورة الأخرى التي لا يعرفها الناس. وما أكثر المواقف التي تحدث بينما نتجول في سوق مطرح مثلا أو غيره من الأماكن التي يقترحونها هم أحيانا. وقد وردتني اقتراحات بتدوين هذه المواقف والأحاديث، غير أني أحترم خصوصية المرء عندما لا يكون في موقف رسمي أو أمام الجمهور. ولكن إذا فكرت يوما في توثيق تلك الحكايات والمواقف فسأفعل ذلك برضاهم وهم على قيد الحياة؛ فلا أنسى استغراب أحدهم عندما نشرتُ في جريدة عمان محاورتي الطويلة مع عبدالفتاح كيليطو في مقهى الفن السابع في الرباط، لأنها محاورة – كما رآها – خاصة جدا وشخصية، ولكني سعيدة بها وأجزم أنها أهم ما كتبت عن عبدالفتاح كيليطو، غير أن الأهم من كل ذلك أن كيليطو عندما قرأها كان سعيدا بها، وذلك يكفي.
نستطيع أن نقول إنّ منى من القلائل في عُمان اللواتي يذهبن جُل الحياة في مصنع العمل الثقافي أو في القراءة والكتابة .. لمن يعرفكِ عن قرب يعرف عن تخليكِ عن الحياة بصورها الأخرى؟ هل هو خيار أم ظرف يتقاطع مع حياتك؟ أعتقد أن حياتي التي تخلو من التزام أسري ضاغط وفرت الكثير من وقتي من أجل القراءة والكتابة والعمل الذي لا ينفصل – لحسن الحظ – عن الجو الثقافي العام، ولكن في المقابل هناك إكراهات أخرى من قبيل طول ساعات العمل، وبعد المسافة بين المعبيلة ومسقط التي يتوجب عليّ أن أقطعها يوميا، ولكني لا أجد في ذلك إنجازا أو بطولة؛ لأن البطولة الحقيقية لأولئك النساء اللائي رغم واجباتهن الأسرية – من اعتناء بالبيت وتربية الأطفال ومتطلبات العائلة – يواصلن مسارهن رغم صعوبة التوفيق، فيكابدن من أجل إيجاد التوازن بين أمرين كبيرين لا تنقصهما الأنانية والمتطلبات الصعبة. في السابق كنت أعتب على النساء اللائي متى ما أصبحن أمهات تخلين عن مسارهن الذي بدأنه قبل الزواج، ولكن في الواقع هذه مجاهدة عظيمة تحتاج فيها المرأة إلى الدعم والمساندة حتى تنجح، ومتى ما نجحت فإنها تستحق أن نسند صمودها، لأن الأمر ليس هيّنا حقا.
«المغرب .. البلاد التي تعرفني».. إلى أي حد تساهم المدن التي نعيش فيها في تكويننا؟في المغرب تعرفت على وجه آخر للثقافة، بدءا من الإنسان البسيط الذي يمسح أرضية المقهى لتبقى لامعة طوال اليوم وصولا إلى أستاذ الجامعة. هناك اكتشفت أن كل شيء يمكن أن يكون في المتناول إذا أحسنّا تحديد زاوية النظر. المغرب عرفتني على أسماء كبيرة في المشهد الثقافي العربي ورفعتني إلى منزلة صحبتهم. هناك بوسعك أن تلتقي بهذا الاسم أو ذاك وكأنك تلتقي بصديق. عشقت في المغرب التفاصيل الصغيرة التي تجعل من التجربة مدهشة وفارقة وتغذي حساسيتك تجاه الأشياء. وأكاد أجزم أنها واحدة من أهم التجارب التي صقلت كتابتي.
الكتابة في الصحف تفترض قراءً لا يملكون الوقت لتفكيك شفرات اللغة الملغزة أو فهم المواضيع المعقدة. هل تمايزين بين الكتابة للصحف والكتابة المتخصصة؟ ومن جهة أخرى الالتزام بوقت معين لتسليم الصحف، يتنافى قليلا مع ترف الوقت الذي يمضي فيه الباحثون .. هل تولد هذه التجربة الخشية من فخاخ الاستعجال؟
الكتابة في الصحف سلاح ذو حدين، فهي من جهة تجعلنا على تماس دائم مع فعل الكتابة مع ما تتطلبه من تفتيش مستمر عن الفكرة الجديدة المدهشة، ولكنها أيضا تجعلنا نعيش تحت ضغط هائل للحاق بالمطبعة في الوقت المحدد. بالنسبة لي لا أتردد في الاعتذار عن نشر مقال لا أشعر بالرضا عنه، وأعتقد أن الالتزام بالنشر وإن كان أخلاقيا طالما اتفقت مع هذه الصحيفة أو تلك على موعد ثابت، فإن الاعتذار عن نشر مقال لمجرد ملء الفراغ فعل أكثر أخلاقية. في الكتابة للصحافة لا بد من مراعاة أن هذا القارئ إنما يقرأ المقال في صحيفة سيارة، فليس لديه الوقت ليفك المستغلقات من الأفكار أو المصطلحات أو التراكيب، ولكن أيضا مع الحذر من التسطيح. ومع تحوّل معظم الصحف إلى صيغتها الإلكترونية، أصبح معظم القراء يقرأون من هواتفهم، ولنا أن نتخيّل حجم المقاطعات أثناء القراءة، فهناك إشعارات تأتيه من كل حدب وصوب وتنبيهات ترده من هذا التطبيق أو ذاك، ويصبح التحدي الحقيقي أمام الكاتب هو كيف يجعل القارئ يقاوم كل هذه المقاطعات ريثما ينهي قراءة مقال، وهذه معادلة لا تحتمل الكتابة المتقعرة والفذلكة اللغوية، وعلى الجانب الآخر ما أسرع أن تفقد القارئ لو شعر أنك تستخف به.
تقولين «لا بد لي من كتابة رواية قبل أن أموت». هل ستفعلين ذلك يوما ؟ أظن أنّ هذا سيحدث لا محالة، فما أحتاجه فقط هو أن أتخلص من مشاريع الكتب الجاهزة في جهازي المحمول بأحد طريقين: النشر أو الحرق، وذلك بناء على نصيحة الكاتب العماني محمد اليحيائي بينما كان يحاول قبل سنوات إقناع أختي بشاير بنشر مجموعتها القصصية الأولى «شبابيك زيانة». قال لها انشريها أو احرقيها! وأعتقد أن كلامه صحيح، لأن بقاءها بلا خطة للخلاص منها يسبب لي التشويش، ويجعل ذهني غير صاف لإنجاز الكتابة التي أحلم بها/ الرواية. هناك روايات في رأسي تنتظر أن أكتبها.
منى تكتب كثيرا لكنها بطيئة في عملية النشر هل هو التريث أم الخوف؟ هنالك تسعة أعمال في الانتظار؟؟
أقرب الظن أني متأنية بسبب الخوف من فكرة الزج بكتاب لم ينضج كفاية. ما حدث مع كتابي «ظل يسقط على الجدار» هو أني قدمته للنشر تحت ضغط عدد من الأصدقاء، وأجزم أنه لولا ضغطهم لربما بقي حبيس حاسوبي المحمول مع رفاقه التسعة. حدث ذلك في صيف 2022. وبحلول أكتوبر من العام نفسه كانت الأخبار الواردة من الصديق خلفان الزيدي – المشرف العتيد على مشروع إصدارات جمعية الكتاب والأدباء – تفيد بأن الكتاب قد خرج من المطبعة كأول كتاب يجهز ضمن مجموعة إصدارات الجمعية مع دار الرافدين البالغ عددها 49 كتابا. كنت أعرف أن الأمر ينتظر فقط اكتمال جاهزية باقي الكتب ثم تشحن جميعها إلى معرض مسقط الدولي للكتاب في فبراير 2023؛ ما يعني أن الكتاب فعليا صدر قبل فوزي بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها التاسعة التي أعلنت نتائجها في التاسع من نوفمبر 2022. سأعترف بأن أول خاطر مر في ذهني لحظة تلقي خبر الفوز كان هذا الكتاب، فشعرت بالخوف: أتراني استعجلت؟ هل يستحق النشر؟ فإذا كنت أتوقع أن دائرة قرائه المحتملين هم ممن يعرفون منى حبراس، فإن الجائزة ستوسع الدائرة أكثر وأكثر وستجعل الكتاب الوليد تحت مجهر الاستحقاق! ولكني واسيت نفسي بأن الكتاب قد خضع للمراجعة كثيرا، وتحمس له كثيرون ممن أثق برأيهم قبل النشر .. وتوكلت على الله.
يجد البعض أنّ حركة النقد في عُمان متأخرة مقارنة بحركة الأدب المنتعشة نسبيا؟لا أعرف إذا كان يصح أن نقول عنها «حركة» نقد، لأن الجهود الفردية لا تشكّل حركة بأي حال من الأحوال. والنقد في عُمان لا يختلف عنه في الوطن العربي، الذي يعاني عموما على أكثر من صعيد. ومعاناته متصلة بسلسلة طويلة من الأسباب والمؤثرات، تأتي في مقدمتها قدرة المؤسسة الأكاديمية على إعداد نقاد وليس تلقينهم نظريات وحسب، وهناك أيضا دور المؤسسة الثقافية التي يتعين أن تبادر بفعل ما لتأسيس هذه الحركة المنشودة. مع الوضع في الحسبان أن النقد الأدبي وانتعاشه مرتبط بتعزيز التفكير النقدي منذ المراحل التأسيسة في المدرسة، والحاجة إليه تمتد إلى كل المجالات وليس مجال الأدب وحده. ولعل السؤال الأهم الذي ينبغي أن يطرح على طاولة النقاش الموسع: إذا كنا بحاجة إلى النقد ونستشعر غيابه بشكل واضح وجلي، فماذا علينا أن نفعل لنوجده؟ وحدها الإجابة العملية كفيلة بالذهاب بنا خطوة إلى الأمام.
هذا يدفعني لسؤال أخير: كيف ترى منى مسؤولية الكتابة قبل حصولها على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها التاسعة 2022 عن فرع الآداب في مجال المقالة، وكيف تراها بعد الجائزة المهمة؟
حملتني الجائزة مسؤولية كبيرة، فهي من جهة منحتني الاعتراف الذي يسعى إليه كل كاتب، ولكنها أيضا تدفعني لبذل جهد مضاعف لأثبت أني أستحق هذا الاعتراف، كما أنها جعلتني أعيد النظر في كثير من الأشياء التي راكمتها حتى الآن؛ لأني شعرت أن الكتابة التي كانت همي الأول لا يتحقق وجودها إلا بنشر ما راكمته؛ فقبل الفوز لم يكن لديّ سوى إصدار واحد، ثم جاء الفوز بعد عشر سنوات، وقد يكون من الخير أن يأتي كتابي الثاني الآن. ما أردت قوله إن اتصال الكاتب بالقارئ بعد الفوز بجائزة ما يصبح أكثر زخما، وهذه ورطة حقيقية ولكنها تجعلك تمضي في هذا الطريق الذي لا رجوع عنه.
هامش: أجري هذا الحوار ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي ٢٠٢٣، تحت عنوان: «بين شغف الكتابة ودرب النقد»، وبتنظيم من صالون فاطمة العلياني الأدبي.