كم أسعدني جدًا أن تقوم وزارة التراث والسياحة بإتاحة الاستثمار السياحي لقلعة الميراني المميزة جدًا التي تم بناؤها في عام 1588م مثلما يشير إليه النقش البرتغالي الصامد حتى الآن الذي حافظ عليه الإمام سلطان بن سيف اليعربي.
هنا أجد نفسي أكتب وكأنني أعايش لحظات عصر الإمام سلطان بن سيف اليعربي الذي حرر مسقط من الاستعمار البرتغالي ليكتمل الجهاد العماني بطرد البرتغاليين كليا من عمان عام 1650م بعد أن أكمل جهود سلفه الإمام ناصر بن مرشد اليعربي في هذا الأمر.
كانت المعركة الأخيرة مجهدة للغاية، فسقط آلاف الشهداء من العمانيين لتحرير مسقط وقلاعها البرتغالية المحصنة جدا في أعلى قمم جبال مدينة مطرح ومسقط القديمة.
تلك المعارك التي بدأ فيها الجيش العماني بالتقدم بعدما اجتمع في السيب قادما من داخلية عمان وزحف نحو مطرح وتمركز الجيش في روي ليدير عمليات الهجوم التي استمرت لأشهر طويلة نتيجة امتلاك البرتغاليين أسلحة نارية متطورة وقلاعا في الجبال محصنة وسفنا مجهزة بأقوى المدافع مقابل جيش عربي عماني لا يملك إلا الأسلحة التقليدية.
كان أفراد الجيش العماني يشعرون بالحماس أكثر حينما يشاهدون حاكمهم يتقدم جنوده في أرض المعركة دون أي خوف بل كان يتقدم كل الاشتباكات العنيفة ويهزم كل من يقدم لمبارزته من البرتغاليين وجهًا لوجه حينما ينفذ منهم بارود بنادقهم على أرض المعركة في أزقة مطرح وساحلها.
ورغم الجراح التي كانت تصيب الإمام سلطان بن سيف في المعارك إلا أنه يكمل حتى النهاية في معارك الكر والفر برفقة قادته وجنوده.
وبعد معارك عديدة استطاع الإمام اقتحام قلعة مطرح بعدما سقط عدد كبير من الشهداء نتيجة القصف البرتغالي، ولكن نفاذ البارود مع حصارهم جعل المهمة أسهل للعمانيين في اقتحام القلعة بعدما كان الأمر صعبًا للغاية، وتم لهم ذلك بعدما تسلقها العمانيون من كل جانب مستخدمين أجسادهم بفدائية من أجل اقتحامها، فكسروا بوابتها بعد عناء وآخرون استطاعوا الدخول للقلعة عن طريق بوابتها السرية بعدما عرفوا تفاصيلها عن طريق جواسيس الإمام.
وهناك في القلعة رمى القائد البرتغالي نفسه من قمتها نتيجة شعوره بالذل والهزيمة بعد أن استطاعت جيوشنا هزيمتهم وأسر من استسلم منهم.
هنا الإمام تقدمهم وصلى بهم في القلعة ركعتين شكرا لله بعدما تم رفع الراية العمانية الحمراء مع صيحات التكبيرات والترحم على الشهداء الذين سقطوا.
كانت الأخبار مدوية على البرتغاليين، فقد أمر الإمام سلطان بن سيف جنوده بعدم التعرض للنساء والأطفال من البرتغاليين وأخبرهم بأن يتجهوا نحو كنائس مطرح التي أنشأوها ليتم ترحيلهم بسلام إلى بلادهم فيما بعد، فكانت أخلاق الجيش العماني تبهر هؤلاء نتيجة تسامحهم وتعاملهم برحمة مع الأسرى عكس ما كانوا يفعله البرتغاليون بحق أهل عمان وهم من قتلوا الأطفال والنساء دون رحمة.
وتجاوزًا للعديد من الأحداث فقد تمركز الإمام وجيشه فيما بعد عند ساحات قصر العلم حاليًا لاقتحام قلعة الميراني والجلالي آخر معاقل البرتغاليين.
ولنركز هنا على قلعة الميراني التي ستتاح لجميع الزائرين قريبا..
المعارك مستمرة وضربات الإمام مجهدة للبرتغاليين مع حصار مدروس ومخطط لمنع وصول المعونات لهم بسبب بطولات أهل ظفار وصور وقلهات وقريات وأهل الشرقية والوسطى بشكل عام الذين اتحدوا بسفنهم مع الإمام لضرب السفن البرتغالية القادمة من الهند وإفريقيا والمتجهة لمسقط، بالإضافة إلى اجتماع أهل الباطنة ومسندم في بركاء للقدوم عبر سفنهم لمساندة الإمام بحرا في المعركة الأخيرة.
كانت ملحمة البطولات رائعة للغاية سطر فيها شهداؤنا وأبطالنا أسمى معاني التضحية التي ستبقى للأبد خالدة في أرواحنا.
وأخيرا اقتحم الجيش العماني قلعة الميراني وأعقبها اقتحامهم لقلعة الجلالي لتتحرر عمان نهائيا من الاستعمار البرتغالي على سواحلها، وهناك أي في قلعة الميراني أبقى الإمام على الكنيسة التي كانت في أعلى القلعة وأبقى كذلك على كل النقوش البرتغالية التي تشير إلى بنائهم للقلعة عام 1588م، وعطفًا على فعل الإمام فأنا أعتقد بالإضافة إلى عقليته الفذة والرائعة في عدم إيذائه للنساء والأطفال وقسيس أي كنيسة بأنه ترك الأثر البرتغالي دون طمس ليبقى شاهدا حقيقيا عبر الزمن لمقدرة العمانيين على اقتحام قلعة برتغالية محصنة جدا من خلال تضحيات أبطالنا وشهدائنا، بالإضافة إلى- وأنا هكذا أجزم- أن الإمام حينما اقتحم القلعة وجد فيها القسيس على كنيسته فلم يمسسه بأذى ولا الكنيسة كونها دار عبادة لهم، وكأن الإمام بأخلاقه الإسلامية السامية أعطاهم درسا غالي الثمن بأن المسلم لا يهدم دور العبادة بل يدافع عن شرفه وعرضه ويحترم كل رسالات الأنبياء، فلم يطمس أثرهم ولم يهدم كنيستهم بل كان على عهده.. من دخل الكنيسة فهو آمن رغم المعارك الدامية بين الجانبين.
كان بالإمكان أن يمحو الإمام كتاباتهم، وكان بالإمكان أن يهدم كنيستهم ولكنه أعطانا درسًا رائعًا لعقلية القائد الفذ الذي تعامل مع الانتصار بكل اتزان وهدوء واحترام مهما اختلفت الأديان.