هناك من علماء الطبيعة من يعتقد أن التنوع في الظواهر الفيزيائية والحيوية المختلفة الموجودة في هذا الكون يمكن إرجاعه إلى قوانين وقوى أوليّة بسيطة؛ فالفيزياء يمكن إرجاعها إلى قوانين نيوتن الثلاثة، ومعادلة شرودينجر في فيزياء الكم؛ إذ يُمكننا من خلال هذه المعادلات اشتقاق الفيزياء بقوانينها المختلفة، كما يُمكننا أن نُرجِع مظاهر القوى التي نشاهدها في هذا الكون إلى 4 أنواع من القوى التي تتحكم في العالم بأسره.
ويمكننا إرجاع الكيمياء برمتها واختزالها بأنها تتابع حركة الإلكترونات وانتقالها بين الذرات والمجموعات الكيميائية، فكل التغيرات الكيميائية التي نشاهدها في الكون هو نتيجة لهذه الحركة. وهكذا نجد أن المواصفات الحيوية في الكائنات الحية يمكن ردها إلى قوانين “مندل”، وأن الكائنات الحية على الرغم من تنوعها، فهي تتكون من خلايا متماثلة في التركيب، وأن المركبات الكيميائية الأساسية في هذه الخلايا كلها متطابقة.
ويرى هؤلاء العلماء أن سرَّ تفوق العلوم الطبيعية يتمثل في قدرتها على اختزال الظواهر الطبيعية والحيوية في قوانين بسيطة يمكن من خلالها فهم هذا الكون بل والسيطرة النسبية على الظواهر الكونية المختلفة.
ويسعى هؤلاء العلماء إلى الوصول إلى نظرية تعرف بنظرية كل شيء وهذه النظرية لن تقتصر على تفسير الظواهر الفيزيائية فحسب بل ستفسر لنا السلوك البشري أيضا بتفاصيل دقيقة ومن خلال الرجوع إلى قوانين الطبيعة الأولية (1، 2).
إن المشروع العلمي الضخم الذي أشرنا له هو مشروع طموح جدًا وقد قطع هذا المشروع خطوات كبيرة وخاصة في القرون الأخيرة وربما وخلال العقود القادمة سيوصل البشرية إلى مراحل غير مسبوقة في تاريخها البشري. ولسنا هنا بصدد تقييم المشروع وابداء الملاحظات عليه، لكننا نريد أن نصل من خلاله إلى تساؤل مهم سيتضح للقارئ الكريم عند نهاية المقال.
هذا المشروع الضخم “نظرية كل شيء” قائم على فرضية أساسية أخرى وهي أن هذا الكون بنظمه وقوانينه التي تتحكم في كل صغيرة وكبيرة في المادة وسلوكها وتتحكم في سلوك الكائنات الحية، يمكن للعقل البشري أن يتوصل إلى كل جزء من أجزائه ويستوعبه بتفاصيله الدقيقة.
هؤلاء العلماء يؤمنون بأن علاقتنا بالطبيعة علاقة مزدوجة فهم من ناحية يؤمنون بأن الطبيعة كانت وراء إنتاج كائن كالإنسان يملك عقلا ضخما، ومن ناحية أخرى يؤمنون بأن هذا العقل قد تطور وتكامل بشكل يسمح له أن يفهم الطبيعة وكيف طورته بل وطورت المحيط الذي نشأ به والكون الذي يعيش عليه بصورة بديعة ومدهشة وبدرجة عالية من الوضوح والدقة تسمح له بكشف أسراره وخباياه، فكأن الطبيعة كونت العقل ليفهم آليات عملها بدقة متناهية، وهذا ما كان يدهش بعض العلماء الكبار وتنسب هذه العبارة للعالم الكبير ألبرت آينشتاين “إن أكثر ما في الكون امتناعًا عن الفهم هو أنه قابل للفهم”.
ولنا أن نتساءل ما الذي يدعونا إلى الإيمان بأن العقل يكشف حقائق الطبيعة ويتعرف على أسرارها وتفاصيلها؟
يجيب هؤلاء بأنه من غير الممكن أن يكون كل هذا الصرح العلمي والتقني الذي بناه الإنسان اليوم قائم على فهم خاطئ للطبيعة فلا يمكن حدوث معاجز بهذه الصورة ولا يمكن للصدف العشوائية العمياء والمتتالية أن تحصل لهذا الحد ولذا فلابد وأن تكون هذه المعرفة معرفة صحيحة وتمثل الواقع بتفاصيله وتكشف لنا أسراره، وتعرف هذه الحجة بحجة “No miracle argument”.
وهذا ما يدفعنا إلى الإيمان بأن العقل يمكنه فهم الطبيعة والوصول إلى أسرارها (3)،
حسنًا، وماذا عن الدماغ البشري الذي كشف عن هذه الحقائق العلمية والسنن الكونية، كيف استطاعت الطبيعة أن توجده؟
هل حدثت معجزة وصدف عشوائية وعمياء متتالية سمحت لهذه الطبيعة العمياء أن توجد هذا الدماغ البشري العملاق القادر على الكشف عن حقيقة القوانين والنظم الكونية البديعة التي تحكم هذا الكون اللامتناهي؟!
إذا كان ذلك ممكنًا، فلماذا لا نقول أيضًا إن صروح العلم والتقنية التي كونها الإنسان هي صدف متتالية وعشوائية ولا تمثل هذه العلوم والمعارف الواقع وعليه لا يمكن أن نقول بالواقعية العلمية، إلّا إذا كانت “باء” تجر و”باء” أخرى لا تجر؟!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
مراجع:
1- Mind and Cosmos: Why the Materialist Neo-Darwinian Conception of Nature Is Almost Certainly False, By Thomas Nagel.
2- Parallel Worlds: A Journey Through Creation, Higher Dimensions, and the Future of the Cosmos, By Michio Kaku.
3- Philosophy of Science: Teach Yourself, By Mel Thompson.