صدر عن دار الانتشار بلبنان كتاب «في قلب إيران: الطواف في ربوع فارس» للكاتبة العمانية فايزة محمد، وهو من الكتب العمانية ضمن أدب الرحلات، والصادر في طبعته الأولى هذا العام 2023م، في 136صفحة من الحجم الصغير، وأدب الرحلات أدب قديم وليس جديدا في تأريخنا العربي والإسلامي، وسابقا أهميته تعود إلى صعوبة السفر، واشتهر مع ابن بطوطة الطنجي المغربي (ت 779هـ)، واقتبست الكاتبة نصا له: «إنه السفر يتركك صامتا ثم يحولك إلى قصاص»، إلا أن هناك من سبقه تأريخيا، وغالب الرحلات القديمة رحلات إنسانية وليست كونية طبيعية، أي قراءة الإنسان من حيث نتاجه وعلاقته بالطبيعة ومعاشه وتعدده الديني والمذهبي، وأما اليوم فتشعب أدب الرحلات، ودخل في الكونيات كالطبيعة والوجود، وارتبط بالسينما والتصوير والأفلام الوثائقية.
وبالنسبة للمجتمع العماني فقد أصدرت مريم بنت حميد الغافرية كتاب أدب الرحلات العمانية، والصادر عن دار الغشام، 2013م، تؤرخ فيه أدب الرحلات في التأريخ العماني، ولعل الكتابات العمانية كمؤلفات مستقلة في أدب الرحلات متأخرة، ومن هؤلاء مثلا حسن حيدر درويش، حيث كتب مقالات في مجلة صوت البحرين في بداية الخمسينيات من القرن العشرين عن رحلته في أوربا، فقد «ذهب بالباخرة ثم القطار، وجال كل الدول الأوروبية، بدءا من جبل طارق، ثم بريطانيا، التي شرح فيها موقفهم من شكسبير، وبعدها توجه لهولندا، ثم ألمانيا، التي تناول فيها عن الحياة بعد الحرب العالمية الثانية، فالدنمارك، فالسويد، وفرنسا، وكانت المحطة الأخيرة في سويسرا»، ذكر هذا الكاتب البحريني حسن مدن في محاضرته بالنادي الثقافي العام الماضي نقلا عن جريدة عُمان، وأرجو أن تطبع هذه الرحلة في كتيب مستقل.
وأما غالب الرحلات العمانية فنجدها على شكل أشعار ومنظومات، ذكر أهمها كمنظومات متكاملة في الرحلات الأستاذ أحمد الفلاحي في كتابه الأخير قصائد عمانية، إذ وثق 23 منظومة لأدب الرحلات، أولها للشيخ عامر بن خميس المالكي (ت 1928م) في رحلته إلى الحج، وأهمها كانت للشيخ سعيد بن حمد الحارثي (ت 2009م) بعنوان «بين مدن العالم».
والمتأمل في كتاب «في قلب إيران: الطواف في ربوع فارس» يدرك حضور عناصر كتابة أدب الرحلات، حيث يجمع بين الوصف من حيث الخارج، والمشاعر من حيث الداخل، ولهذا لا يمكن لأدب الرحلات أن يتحقق إلا أن يكون الكاتب إنساني النزعة، كوني البحث، فإن كان لا يرى الآخر إلا من خلال هويته الضيقة، سيرى العالم ضيقا، وهذا ما تحررت منه الكاتبة فتقول «ص: 13»: «لقد أدركتُ أن الرحلة سفر داخل الذات قبل أن تكون سياحة في الأمكنة … وأن الرحلة تبدأ من داخلنا ولا تنتهي»، ولهذا نرى نزعة الكاتبة إنسانيا في قراءتها للمجتمع الإيراني، فلا ترى ذلك الأفق الضيق.
وأما الوصف فإما وصفا إنسانيا أو كونيا أيضا، أي متعلق بالطبيعة، ومن يقرأ الكتاب يجد الكاتبة ركزت على الوصف الإنساني من جسور ومدن وعادات وتقاليد وأسواق (البازار) ولباس وطقوس وتراث، إلى غير ذلك، وقل ما نجد وصفا للطبيعة، سواء كانت صحراوية أو ما يتعلق بالخضرة والأنهار وغيرها، إلا إشارات بسيطة كحرارة قم، ونهر زاينده رود في أصفهان، وهذا ليس نقيصة في الكتاب؛ لأن غاية الكاتبة هو قراءة إيران إنسانيا وليس طبيعيا، مع أن الكتاب يمكن اعتباره مدخلا للسائح المهتم بهذا الجانب، فقد اختصرت له معالم مهمة في ست مدن إيرانية: طهران وشيراز ويزد ومشهد وقم وأصفهان.
وإذا أتينا إلى عنصر الزمان؛ يجد المتأمل في الكتاب ثلاث رحلات، وليس رحلة واحدة، الأولى 20 يناير 2017م، للمشاركة في مؤتمر الحوار الثقافي العربي، إلا أنها تلقت دعوة في الوقت نفسه لتشارك في مؤتمر المرأة المسلمة في مشهد، والرحلة الثانية بتأريخ 9 يونيو 2022م كزيارة عائلية، والثالثة للمشاركة في التغطية الإعلامية لمعرض السجاد الإيراني في أصفهان، إلا أنها لم تذكر التأريخ للثالثة، بيد أنها أشارت في المقدمة ص: (12): «وبعد هذه الرحلة – أي رحلة 2022م – زرتُ إيران زيارات خاصة مع العائلة، أو تلبية لدعوات للمشاركة في بعض الفعاليات» بيد أن المتأمل في الكتاب يجد الإشارة إلى ثلاث رحلات، كذلك لا يجد القارئ التسلسل الزمني في الرحلات؛ لأن الكاتبة قسمت الكتاب إلى سبعة فصول حسب المدن المشار إليها، عدا طهران، خصصت لها فصلين: الفصل الأول غلب عليه الرحلة الأولى، والثاني غلب عليه الرحلة العائلية الثانية، لهذا البيان الختامي لمؤتمر الحوار الثقافي العربي مثلا يكون في الفصل الخامس في مشهد، لهذا سنجد الفترات الزمنية متداخلة في الكتاب، وبالتالي يصعب قراءة الأحداث قراءة زمنية؛ لأن الكاتبة – فيما يبدو – أرادت أن تلزم نفسها بالمدن كقراءة مستقلة، لكل مدينة قد تتداخل في بعضها الرحلتان، وشيء من الثالثة، كذلك لم تؤرخ العودة لكل رحلة.
وأما عنصر المكان؛ فقد تحدثت الكاتبة كما أسلفنا عن ست مدن في إيران: طهران وشيراز ويزد ومشهد وقم وأصفهان، ولم تكتف بالقراءة الأفقية، فقد قدمت وصفا تأريخيا ومجتمعيا في العديد من المشاهد، مثل أسواق طهران وأصفهان كبازار تجريش التأريخي، حيث وصفت تأسيسه وزواياه، ومثل أبراج الصمت في يزد المتعلقة بالزرادشت، ومثل ضريح الإمام الرضا في مشهد، وغيرها، كما أنها أيضا اهتمت بتسمية بعض المدن وتأريخها كشيراز ومشهد وقم.
وأما عنصر الشخوص؛ فالكاتبة ذكرت في المقدمة أنها سافرت ومعها زوجها وعشرة من الباحثين العمانيين، وفي الثانية مع عائلتها، والثالثة لم تشر إلى أحد، إلا أن طيلة الكتاب يختفي هؤلاء الشخوص ولم يبق إلا الكاتبة، وذلك لأن الكاتبة أرادت هنا أن تعيش مع ذاتها، وتقرأ الحدث وفق ذاتها هي، لهذا ابتعدت عن ذكر الأسماء، بما فيها أسماء من تعاملت معهم إذا ما استثنينا مثلا مصطفى محسن اللواتي الذي نسق زيارة عائلة إيرانية، ودورنة القشقائية، مديرة وصاحبة المخيم في طريق يزد، والباقي في الجملة أقرب إلى الإشارات كالسائق ومنسق المؤتمر وبعض الشخصيات الاعتبارية في أصفهان؛ حيث الكاتبة ركزت على الحدث لا على الشخوص.
وأما عنصر اللغة وتسلسل الحدث؛ فكانت رصينة وواضحة وسهلة غير غامضة، والحدث متسلسل حسب الفصل أي المدينة، وليس حسب الزمن كعادة الرحلات، وكان الحدث مترابطا حسب جوهر الفكرة، إلا أن بعض الأحداث متداخلة كما أسلفنا.
الكتاب لم يقتصر عند الجانب الوصفي، ففيه مراجعات كالنظرة السلبية إلى طهران من قبل السائح العماني، وتصور بعضهم أن أسعار الفنادق رخيصة، فهي تقترب من أسعار عمان، والتصور السابق أن الفرق الموسيقية لا وجود لها في قاموس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وممنوعة في المطاعم والفنادق، إلا أن الكاتبة فوجئت بوجودها في أماكن عديدة، وفي التجمعات والمتنزهات.
وأما جدة الكتاب فهناك من الجدة في طرح بعض الأفكار، كرؤيتها في ضرورة الاهتمام بالثقافة بعيدا عن السياسة، والثقافة قادرة في إصلاح الخلل السياسي؛ إلا أن «المهمة صعبة؛ لأن ما أفسدته السياسة دهرا لا تستطيع الثقافة إصلاحه بين عشية وضحاها» «ص: 18»، وقولها «ص: 44» في ضرورة «الاطلاع على ثقافة الشعوب الأخرى، وعاداتهم وتقاليدهم عن قرب …. وعلى الرغم من اختلاف كل بلد عن الآخر في العادات والتقاليد؛ فإن الجميع يشتركون في روابط الإنسانية…»، وتفسيرها لسبب حضور الموسيقى الصاخبة والشيشة في المطاعم والمقاهي، وقد تكون محضورة في السابق بداية الثورة الإيرانية؛ تعلل ذلك أن معظم جيل الشباب اليوم ولد بعد الثورة، ولم يعاصرها، فتفكيرهم مختلف جدا «ص: 41».
بيد أن عنوان الكتاب: «في قلب إيران: الطواف في ربوع فارس»، فيه شيء من الغموض، ولو كان العنوان في نظري «الطواف في ربوع إيران» لكان أدق؛ لأنه يتناسب مع موضوع الكتاب، ولأنه كلما قصر العنوان كان أفضل، ثم ما المقصود بقلب إيران وتسليط الضوء عليه، حيث الحديث عن مدن متباينة ومتباعدة.
وأما المنهج فركزت الكاتبة على الوصف الإيجابي إلا في جوانب قليلة كتأخر السائق في المطار، وعدم وجود حجز في أصفهان، ولأن الفندق في أصفهان عبارة عن مغارة مخيفة، وإلا أغلب الكتاب كان في الوصف الإيجابي، بيد أنه في أدب الرحلات الأصل يذكر الموضوع كما هو ولو كان سلبيا، ويترك للقارئ التأمل والحكم في الجملة، مع ظهور مشاعر الكاتب وأحاسيسه سلبا أم إيجابا.
كذلك تحدثت في «ص: 27» عن وجود المرأة مع الرجل، وهي سر نهضته، ولكن لم تتحدث عن الموقع السلبي للمرأة في إيران كسائر العالم الإسلامي والعربي والإنساني عموما، خصوصا ما يطرح اليوم ما مقدار حرية المرأة في إيران، وحضورها اجتماعيا وقضائيا وسياسيا، فقد انتشر حاليا فلم «عنكبوت مقدس» وأثار شيئا من الجدل، كذلك قضية المظاهرات الأخيرة، وعلاقتها بالحجاب، ولأن الكاتبة شاركت ضمن مؤتمر المرأة في الإسلام، وطبيعي أن يطرح في المؤتمر شيء من الجدليات السلبية.
كذلك تحدثت في «ص: 72» حول ترك الجثث في أعلى برج الصمت عند الزرادشت، ولم تشر إلى سبب المعتقد، والسبب في ذلك أنهم يقدسون العناصر الأربعة: الماء والهواء والتربة والنار، فلا يدفنون جثة الميت في التربة ولا يرمونها في الماء ولا يحرقونها حتى لا تتدنس هذه العناصر، فيتركونها لتأكلها النسور الجارحة.
وفي «ص: 90» أشارت إلى مفردات فارسية أصلها عربي لكن تغير معناها العربي إلى معنى فارسي، مثل: الجامعة بمعنى المجتمع، وواقعة بمعنى الحدث، وقرار بمعنى موعد، والحقيقة هذه معان عربية، فكم من كلمات عربية لها أكثر من معنى ولكن تهجر العديد من المعاني بسبب الظرفية، ولا يعني أن المعاني ليست عربية.
هذا كله لا يرفع أهمية الكتاب في نظري، فالكتاب مهم في كسر حاجز اكتشاف الآخر القريب، الذي مع قربه ابتعد عنا لسبب السياسة والصحوة التي أثارت الجانب الطائفي، ولو كان غير ذلك لوجدنا عشرات الكتب التي كتبت عن إيران وترجمت عنها، كما يمكن اعتبار الكتاب -كما أسلفت- مذكرة مهمة لمن يريد زيارة إيران، واكتشافها من الداخل.