Image Not Found

مأزق العقل في المدرسة المادية الحديثة

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي ** – الرؤية

يواجه الفكر المادي الحديث تحديات بالغة التعقيد في قيمة الاستنتاجات العقلية التي يتوصل إليها العقل البشري، فنحن نعلم أن المدرسة المادية لا تؤمن بوجودٍ مجردٍ وراء الدماغ، وتعزو جميع الأفكار والاستنتاجات التي يتوصل اليها الإنسان إلى ذلك العضو المادي الذي نُطلق عليه الدماغ.. والسؤال الكبير الذي يقف عائقًا أمام هذه المدرسة المادية هو: من أين يستقي الدماغ هذه القيمة والمرجعية؟ بحيث يكون هو المرجع في ترجيح وتقييم الأفكار والآراء المختلفة.

تدَّعي المادية الحديثة أن الدماغ هو نتاج نظرية التطوُّر؛ فالإنسان مرَّ بمراحل تطورية كثيرة، بدءًا من وحيد الخلية، ومرورًا بالثدييات، ثم السلف المشترك مع القرود، ثم أشباه البشر، وأخيرًا أصبح الإنسان إنسانًا، على حد زعمهم. وينظر هؤلاء إلى أن الدماغ هو أيضًا نتاج من نتاجات التطور. ومن هنا؛ فالسؤال الذي يُطرح هو: أيُ قيمة في قناعات وحكم عقل نشأ من عقل حيوانات أقرب إلى القرود وتطور منه؟ فهل حقًا هناك قيمة لمثل هذا العقل الحيواني؟

إن هذه المدرسة تؤمن أن العقلَ مُنتجٌ ماديٌ للدماغ- كما أسلفنا- والدماغ كما نعلم قد تطور على مراحل؛ فلقد أضاف التطور بمرور الوقت أجزاءً مختلفة إليه، فوسَّعَ بعضها، وقلّص أجزاءً أخرى، وكان يهدف في كل مراحله إلى تحقيق غاية وحيدة وهي البقاء. فالكائن الأنسب للبيئة هو من يبقى، ولذا فإننا نجد نوعًا من القضايا العقلية حتى عند القرود مثلًا، وهناك أعراف اجتماعية تحكمهم، هذه الأعراف هي نتاج عقولهم، وفي نظرهم هي عين الصواب والحكمة. من هنا فإن التطور شكَّلَ الدماغَ البشري بطريقة يهدف منها إلى أن يُبقي على الإنسان ويحافظ على حياته، وهذا مما يزيد الشك والريبة في قيمة الأحكام العقلية؛ لأن العقل في هذه الحالة صُمِمَ لا للبحث عن الحقائق والصواب، وإنما صُمِمَ ليُبقي الإنسان حيًا ويجنبه المهالك؛ بل ربما يخدعه حتى يحافظ على حياته، وبالتالي فإن أحكامه منطلقة من هذه الزاوية، فهو يقدم لنا الحقائق مشوهةً ليُبقينا أحياءً وليس من باب الصواب والخطأ. وهذا يُفقد العقل قيمته تمامًا ويقطع الباب على الإنسان لمعرفة الصواب من الخطأ، فلا سبيل إلى ذلك لأنه لا يمتلك إمكانات يمكنه التفريق فيها بين الصواب والخطأ.

بل إن القول إن العقل ما هو إلّا نتاج مادي يعني بأن أساس العقل هو حركة الأيُّونات التي تحدث في خلايا الدماغ، وهذا يعني أن العقل نتاج حركة لأيونات لا تحمل وعيًا؛ فهو أقرب لحركة ذرات التراب عندما تهب فيها ريح، فهل يمكننا أن نثق بأن هذه الذرات التي هبت بها الريح ستنتج لنا نتاجًا يفرِّق بين الحق والباطل وبين العلم والخرافة؟! إن من يأمل ذلك كمن يأمل أن هذه الذرات التي تحكمت بها الريح ستبني له بيتًا ضخمًا يسكن فيه.

ومن هنا.. فإن صرح المعرفة وصرح العلم بكل تفاصيله، لا يمكن الثقة فيه؛ بل وحتى نظرية التطوُّر ذاتها لا يمكن الوثوق بها؛ لأنها من نتاج العقل البشري، وبهذا سينهار كل شيء ولن يبقى من العلم بما فيها علوم الطبيعة، حجر على حجر.

وقد انتبه لهذا التحدي أحد علماء الأحياء، وهو الكاتب المعروف كينيث ميللر، وطرح بعض هذه الإشكالات التي ذكرناها بتفاصيل كثيرة في كتابه عن الغرائز البشرية (1).

ولحل هذا الإشكال المُستعصي، تبنَّى الكاتب رؤية مفادها أن العقل البشري ليس نتاجًا مباشرًا للتطور، وإنما منتج جانبي وفرعي؛ اذ لا يمكننا تفسير التضخم الدماغي الذي حصل للبشر كنتاج مباشر للتطور؛ إذ إن الدماغ البشري نما من 400 سنتيمتر مكعب إلى 1300 سنتيمتر مكعب خلال 3 ملايين سنة، ولم يتغير أي عضو في الإنسان هذا التغير الدراماتيكي خلال هذه الفترة التي تعد قصيرة جدًا من الناحية البيولوجية.

إنَّ هذا التضخم صاحبه أيضًا نمو لشبكة عصبية شديدة التعقيد في الدماغ، وهذه الشبكة المعقدة تستهلك الكثير من الطاقة، لكنها كانت السبب في العديد من القدرات الدماغية للبشر.

ومن هنا، لم يكن هدف التضخم الدماغي تنمية هذه القدرات الدماغية للبشر؛ بل كان هدفه الأساسي التطور والبقاء والحفاظ على حياة الإنسان، غير أن هذه القُدرات هي نتاج فرعي وجانبي للتضخم الدماغي للبشر.

وعلى الرغم من أن الكاتب أبدع في طرح الحل، إلّا أن التحليل الدقيق لما طرحه الكاتب نجده يفتقر إلى دليل علمي رصين يُعتد به، فما طرحه لا يعدوا كونه محاولة تفسيرية تفتقر إلى الدليل، ولهذا لا ترتفع قيمتها العلمية عن كونها فرضية؛ بل إن ما طرحه الكاتب يثير تساؤلًا أكبر حول قيمة الأحكام العقلية، فما قيمة أحكام نتجت من منتج ثانوي لنظرية التطور؟ فعقولنا هي نتاج ثانوي نتج من تطور سلف مشترك مع القرود، فإذا كنا لا نثق بالمنتج المباشر ونشكك في أحكامه فمن باب أولى التشكيك في المنتج الثانوي! إذ إن سلف القرود هذا يمتلك دماغًا أصغر وأقل نضجًا حتى من القرود الحالية.

ولذا فقد اتجه بعض الفلاسفة الغربيين إلى أن نظرية التطور عاجزة عن تفسير العقل البشري، وأنه لا يمكن أن يكون العقل البشري نتيجة للتطور، فلكي تأخذ أحكام العقل قيمة ومصداقية لا بُد وأن يكون العقل ناتج من مَصدَرٍ له قيمة مُعتد بها، يمكننا أن نثق بما يصدر منه من أحكام (2).

على الرغم من أننا نرى أن البعد البيولوجي للدماغ يمكن تفسيره بسهولة ويُسر من خلال نظرية داروين، إلّا أننا نفرِّق بين الدماغ والعقل؛ فالدماغ هو ذلك العضو البيولوجي الذي يحتاج اليه العقل كشرط لوجوده، لكننا نؤمن أيضًا بوجود بُعدٍ لا مادي في العقل، وهو هبة من الله المُطلِق للإنسان، وهبَهُ إياه ليفرِّق به الحق عن الباطل، ويتعرف به على الكون من خلاله، وبالتالي فلأحكامه قيمة عليا يمكننا الاعتماد عليها والأخذ بها، ودون الايمان بذلك فإن العقل يفقد قيمته كمعيار أولي يمكن الرجوع إليه للحكم على أمر ما بالصحة أو الخطأ.


المصادر:

1- The Human Instinct: How We Evolved to Have Reason, Consciousness, and Free Will by Kenneth R. Miller

2- Mind and Cosmos: Why the Materialist Neo-Darwinian Conception of Nature Is Almost Certainly False by Thomas Nagel

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس